هناك بيانات متعددة للدليل العقلي الدال على مشروعية وضرورة التوسل، نستعرض فيما يلي بيانين منها:
البيان الأول: الوسائط الإلهية والوسائط المقترحة:
إن نصب الوسائل والوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يعد تصرفاً في سلطان الله عز وجل ونوعاً من تحكيم إرادة العبد وهواه على إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونِدّية ووثنية جاهلية، سواء من ناحية العمل كاتخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة أم من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتخاذ العقل ربّاً، والقول بلا محدوديته، وانه يتسع في الحكم والبت في الحقائق أينما بلغ، فإن هكذا توسيط من اقتراح البشر يعد مغالاة وشركاً في العقيدة؛ لان ذلك يكون مناددة لله تعالى وصنمية للعقل، بدعوى: إن الحكم إلا للعقل، وليس الا لله!.
وأما التوسل والتوجه بالوسائط التي جعلها الله عز وجل ونصبها لخلقه فهو التوحيد التام، والإعراض عن الحجج والأبواب الإلهية وترك التوجه إليها يعد استكبارا ً على إرادة الله تعالى وسلطانه، كل ذلك من إدراك العقل وجوب الطاعة للمولى فيما أراد، والابتعاد عن الوقوف بوجهه في مقام جعل الوسائط والتوسل بها، فلا يكفي في نبذ الشرك وتحقق التوحيد نفي الوسائط الاقتراحية، بل لابد من التوسل بالحجج التي نصبها الله تعالى؛ وذلك من يقف عند إنكار الوسائط المقترحة كقوله (لا إله) ويسكت من دون ذكر المستثنى، حيث انه يوجب الكفر لا التوحيد.
إذن لابد من التوجه إلى الوسائط الإلهية والتوسل بها والذوبان فيها، وكلما ازداد الشخص ذوباناً في تلك الحجج كلما ازداد توحيده والعكس بالعكس.
البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية:
هناك ضرورة عقلية أكّدها الفلاسفة، وهي إن الله تعالى وان كان هو الخالق لكل شيء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من الله تعالى ليس على رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متفاوتة ومشككة-كما يقول المناطقة- ، وهذه الضرورة ليست نابعة من عجز في قدرة الله تعالى؛ إذ هو على كل شيء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف المخلوق المتلقي للفيض والعطاء؛ وذلك لان شيئية الأشياء لا تتقرر ولا يمكن أن تفرض متحققة إلا بعد امكانها وصلاحيتها واستعدادها، فمع عدم امكانها لا يمكن فرض الشيئية لها، والأشياء النازلة في الرتبة الوجودية كالموجودات المادية أو البرزخية مثلاً لابد لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة تكون مجاري فيض الله تعالى وعطائه، ويكون للمخلوقات السابقة في الرتبة الوجودية دور في تقرر صلاحية وامكان المخلوق اللاحق، وليس ذلك إلا لعجز المخلوق الهابط في الرتبة عن التلقي المباشر من منبع العطاء، فلابد من واسطة في الفيض ذاتاً وصفة، ولذا نرى أن الإنسان ببدنه المادي مثلاً لا يتقرر له امكان إلا بعد خلق المعدات وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء وكافة المخلوقات الحية وغيرها، ففي الخلقة الدنيوية المادية توجد مؤثرات كثيرة أعدها الله تعالى وسخرها لكي يعيش الإنسان حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وقال أيضا تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ومن هنا ورد من طرق الفريقين إن أول ما خلق الله تعالى العقل، وفي روايات أخرى إن أول ما خلق الله القلم، أو إن أول ما خلق الله تعالى نور النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
وورد أيضا إن الله تعالى أجرى الأمور بأسبابها، فسنة الخلقة في هذا العالم الامكاني جارية على ضوء الأسباب والمسببات بجعل المخلوق السابق في الرتبة سبباً لان يخلق الله تعالى المخلوق اللاحق بنحو التقدم والتأخر الرتبي في ضمن قانون كتبه الله تعالى على نفسه بإرادته ومشيئته.
ولا شك أن التقدم في الدرجات الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة اشرف وأكرم واقرب إلى الله تعالى في كمالاته من المخلوق الأدنى، وهو مجرى عطاء الله تعالى وسبب لتفتح أبواب السماء لتلقي الفيض.
إذن أساس فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنة تكوينية سنها الله عز وجل في خلقة الممكنات.
وهذا بيان عقلي واضح دال على ضرورة التوجه والتوسل بالمقربين وبالمخلوقات الكريمة على الله تعالى على المستوى الشرعي، وذلك لان الشريعة تتناسب وتتلائم مع نظام الخلقة والفطرة التكوينية.
وهذه هي الحفاوة التي استند إليها آدم وإبراهيم في استغفارهما إلى الله تعالى.
الدليل العقلائي: وجوب الاحترام والتعظيم:
إن الأسلوب المتبع في شرعيات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض هو أن طريقة الوفود على الشخص الكريم في مجتمعه بالاستئذان من الباب والحجاب والشفعاء والوسائل التي تؤدي إليه، وان يكون ذلك بمنتهى الأدب والاحترام.
وبعبارة ثانية: إن الشخص عندما يتوسل بشخص آخر ويوسّطه للوفود على عظيم من العظماء يعد من أشكال الاحترام والتعظيم والأدب، وزيادة في إبداء إكرامه والتبجيل، فأنت مثلاً عندما تتخذ كافة الإجراءات اللازمة وتأتي عن طريق الحجب والأبواب صيانة لحرمة من تفد عليه تكون ممدوحا لدى العقلاء، وان لم يكن ذلك الطرف الذي وفدت عليه محجوباً في نفسه، ولو لم تَرْعَ تلك الإجراءات فكأنك هتكت حريمه.
وقد ذمّ الله تعالى الذين ينادون النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من وراء الحجرات وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأذنوا، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقال تعالى أيضا: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وجاء في الحديث عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: (أنا مدينة العلم وأنت يا علي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها).
ونجد أن الأدب ذاته قرره الشارع في الوفود على بيت الله الحرام، فجعل الاحرام مقدمة للتهيؤ وباباً للتعظيم.
وقد يقال: إن الجاري في الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.
ولكن الجواب عن ذلك واضح لان الاعتبارات العقلائية ليست أمورا جزافية، وإنما لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضى الله تعالى تلك الاعتبارات. ثم إن الله تعالى ـ وإمضاءً لما جرى عليه العقلاء ـ نصب أبوابا ووجهاء مقربين يتوجه بهم إليه من باب التأدّب مع الله عزّ وجل، ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من الله تعالى في الدعاء وفي غيره لابد من تقديم الثناء على الله تعالى وشكره وحمده ثم يطلب حاجته كما هو مذكور في كتب الأدعية، وكما جاء ذلك أيضا في سورة الحمد التي يقرؤها الفرد المسلم في يومه وليلته عشر مرات على اقل تقدير، حيث تصدّر فيها المدح والثناء والشكر والحمد لله تعالى وبعد ذلك يتقدم القارئ بطلب حاجته.
إذن التوسل بمن يكون وجيهاً عند الله من التأدب والتعظيم لله عز وجل، والوفود على الله مباشرة من قبل الأفراد العاديين، الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند الله تعالى، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة الإلهية بسبب ما يقترفه من الذنوب، يعد من الكبرياء والعنف وتعظيم الذات والعتو على الله تعالى، كما قال الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا) فإنكار هؤلاء لوساطة الأنبياء كان ناتجاً عن العتو والاستكبار على الله تعالى، فذم الله تعالى الذين يصدون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء.
والحاصل: إن التوسل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضى التواضع والخضوع في التوجه والوفود على الله تعالى، وفي ذلك مزيد رفعة في التوحيد؛ لان التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسل من الكبرياء والخشونة التي لا تناسب الأدب التوحيدي ويستنكرها العقل ويشجبها العقلاء في تعاملهم.
الدليل التأريخي:
لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكد على أن عزل الشهادة الثانية ـ وهي شهادة أن محمداً رسول الله ـ وفصلها عن الشهادة الأولى ـ وهي شهادة أن لا إله إلا الله ـ وإنكارها يعد شركاً وخروجاً عن دائرة التوحيد التام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.
وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نراه يحكم بالشرك والوثنية على الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، مع أنهم كانوا يزعمون أنهم على دين موسى وعيسى . وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان، مع أنهم كانوا يزعمون أن مناسكهم على ملة إبراهيم (عليه السّلام) كالصلاة إلى الكعبة وحج بيت الله الحرام والإتيان بأجزائه وشرائطه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسوق الهدي وغيرها من المناسك، وليس حكم القرآن ذلك إلا لعدم الرجوع إلى النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلي عن ولايته وعدم الخضوع له وفصل الشهادة الثانية عن الشهادة الأولى، فإن ذلك كله يجعل من العبادات والمناسك طاعة لغير الله تعالى وشرك أكبر، فالطواف حول الكعبة عبادة لغير الله تعالى إذا افتقد تواصله بالشهادة الثانية والتولي لنبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله).
وقريش إنما خرجت من حضيض الشرك بقولها لا اله الاّ الله ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبي (صلّى الله عليه وآله) والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره. فلا يضرّ التوحيد أن يجعل العبد واسطة بينه وبين ربّه الذي وحّده، ولا يدفع الوثنية والشرك الايمان بالواسطة فحسب وانما يضر العبد باسلامه لو أنكر الواسطة المنصوبة من الله عز وجل فلا يبقى له مجال وطريق لاستعلام أوامر الله ونواهيه وإراداته التشريعية الحقة، التي يريد من البشرية السير على خطاها، وحينئذ لا يكون لذلك العبد إلا إرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، فيكون وثنه وإلهه هواه، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) فالهوى وسلطان النفس وثن وإله من الآلهة وان لم يكن أحجاراً.
والحاصل: إنّ أي عبادة من العبادات إذا فقدت تواصلها مع الشهادة الثانية تدخل حيّز الشرك والجاهلية، كما جاء ذلك في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا) ، حيث حكم الله تعالى بالشرك والنجس على عبادة غير المسلمين وان كانت في البيت الحرام؛ لرفضهم ولاية النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
وهذا برهان تاريخي أدياني يؤكد ضرورة الواسطة في العبادة، والواسطة هي الطاعة لولي الله تعالى بكل ما للطاعة من معنى وتداعيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة بجميع مستوياتها.
الدليل التحليلي: التجسيم من أسباب نفي الوسائط:
إن إنكار التوسل ورفض الوسائط ناتج إما من القول بالتجسيم أو القول بالنبوة والتنبي، وأما من لا يدعي النبوة لنفسه وينكر كون الله تعالى جسماً فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في جميع العوالم والنشئات.
وقبل البرهنة على هذا المدعى لابد من بيان مقدمة، وهي:
إن الحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، لا مدار العنوان والشعار، فليس المقصود من دعوانا إن إنكار التوسل ناتج من التجسيم أو القول بالنبوة هو أن يكون القائل بذلك قد ادعاه قولاً وعنواناً وشعاراً، بل قد يكون بحسب واقعه متبنياً لحقيقة التنبي أو التجسيم من دون أن يسميه تنبياً أو تجسيماً.
إذا اتضح ذلك نقول:
حيث ثبت في قسم التوحيد إن الله تعالى منزّه عن الجسمية بكل أشكالها وإنحائها، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من ادراكاتنا التي تتحقق عبر الارتباط والتعلق بالأجسام، سواء في الدنيا أم في البرزخ والآخرة، وحينئذ لا يمكن الارتباط مباشرة برب العزة والجلال، وحيث إن الارتباط بالله تعالى في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً؛ لان معناه التعطيل في قدرة الباري تعالى ومعرفة العباد له، وهو باطل بضرورة الدين، فلابد من القول إما بالوسائط أو النبوة.
والمجسمة إنما لجأوا إلى القول بالتجسيم لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوى النبوة، فلا محيص لهم عن الالتزام بالتجسيم.
والشاهد على ذلك قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فقوله تعالى (لِبَشَرٍ) للإشارة إلى الجسم والخصوصيات الجسمانية، وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) بمثابة البرهان والاستدلال على مضمون الآية المباركة، وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ) لنفي الشأنية والامكان، لا لبيان عدم الوقوع فحسب.
ومعنى الآية الكريمة: انه لا وجود لأي مجابهة جسمانية بين الله تعالى وبين البشر المحكومين بأحكام المادة والجسمية، فتكليمه عز وجل للبشر إما وحياً أي عن طريق الجانب الروحي في البشر، أو من وراء حجاب أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادية كما في تكليم الله عز وجل موسى (عليه السّلام) من خلال الشجرة، أو يرسل رسولاً أي إرسال الملائكة، بل إن الملائكة أيضا يكلمهم الله تعالى بواسطة الإيحاء كما في قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ).
إذن لا مجال للمواجهة الجسمانية مطلقاً في الدنيا والبرزخ والآخرة، وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً؛ لان العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو تعالى حكيم أي غير معطل فمن حكمته أن يرسل رسلاً ويقيم أئمة ويوسط وسائط، فهو تعالى (عليّ) متعال على الجسمية ومقابلة الأجسام وحكيم غير معطل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل فلا تجسيم ولا تعطيل وهو تعالى يعرف برسله وأدلته وحججه.
والبعض حيث أنكر التجسيم وفرّ من التعطيل ورفض الوسائط بدعوى إنها صنمية منافية لروح التحرر ابتلى بالقول بالتنبي، ولجأ إلى الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده، وانه يصيب كل صغيرة وكبيرة، كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.
ولكن حيث إن التنبي والإيحاء إلى الجميع باطل بنص القرآن الكريم، قال تعالى مستنكراً هذه الفكرة على الكافرين: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً) وثبت أيضا في محله أن التشبيه والتجسيم والتعطيل باطل فلابد من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار ولي الله وحجته تجسيماً أو تعطيلاً أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنمية للعقل، وهي النبوة المرفوضة في الكتاب والسنة.
ومن ذلك كله يعلم عظم مكانة الآية والحجة الإلهية، وان إنكارها بمنزلة إنكار الله تعالى، كما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) وقال أيضا عز وجل: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وليس ذلك إلا لان الذات المقدسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط تكون معطلة عن المعرفة وهو بمنـزلة الإنكار لها.
التوسل في الأدلة القرآنية وسيرة المسلمين:
إن طوائف الروايات الدالة على مشروعية التوسل ومحوريته في المنظومة الدينية كثيرة جداً, نقتصر على ذكر بعضها ضمن العناوين التالية:
أولاً: التوسل بعموم الأنبياء والصالحين:
لقد ورد في الروايات المعتبرة والصريحة التأكيد على صحة التوسل بذوات وحق الأنبياء والصالحين:
1- عن ابن عباس عن رسول الله أنّه قال: (مَن سره أن يوعيه الله حفظ القرآن، وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير، بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وفرقان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأسألك بكل وحي أوحيته، وبكل حق قضيته، وبكل سائل أعطيته، وأسألك بأسمائك التي دعاك بها أنبياؤك فاستجيب لهم، وأسألك باسمك المخزون المكنون الطهر الطاهر المطهر المبارك المقدس الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، وأسألك باسمك الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ملأ الأركان كلها والذي من أركانك كلها، وأسألك باسمك الذي وضعته على السماوات فقامت، وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرضين فاستقرت، وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فرست، وأسألك باسمك الذي وضعته على الليل فأظلم، وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار، وأسألك باسمك الذي تحيي به العظام وهي رميم، وأسألك بكتابك المنزل بالحق، ونورك التام أن ترزقني حفظ القرآن، وحفظ أصناف العلم، وتثبتها في قلبي، وأن تستعمل بها بدني في ليلي ونهاري، أبداً ما أبقيتني، يا أرحم الراحمين).
2- ما ورد من توسل يوسف بيعقوب، حيث جاء ذلك عن أبي بصير سأل الإمام الصادق (عليه السلام): (ما كان دعاء يوسف في الجب فإنا قد اختلفنا فيه؟ قال: إن يوسف لما صار في الجب وآيس من الحياة قال: اللهم إن كانت الخطايا والذنوب قد أخلقت وجهي فلن ترفع لي إليك صوتاً، ولن تستجيب لي دعوة فإني أسألك بحق الشيخ يعقوب، فارحم ضعفه واجمع بيني وبينه، فقد علمت رفقه علي وشوقي إليه.
قال ثم بكى أبو عبد الله : ثم قال: وأنا أقول: اللهم إن كانت الخطايا والذنوب قد أخلقت وجهي عندك فلن ترفع إليك صوتاً ولن تستجيب دعوة فإني أسألك بك فليس كمثلك شيء، وأتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة يا الله يا الله يا الله، قال: ثم قال أبو عبد الله: قولوا هذا وأكثروا منه).
3- وقد توسل داود بحق آبائه ، فقد ورد عن ابن عباس، أن النبي قال: قال داود: ((أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب)).
ثانياً: التوسل بالنبي بالخصوص:
1- التوسل بالنبي قبل خلقه :
حيث أن النبي آدم عندما اقترف خطيئته وهي تركه للأولى، وتاب إلى الله تعالى مما صدر منه، تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، كما أشار القرآن الكريم لذلك: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن تلك الكلمات هي محمد ، وفي أحاديث أخرى هي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
روى الحاكم في المستدرك عن عمر بن الخطاب إنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لّما غفرت لي, فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك أو نفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، وسألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد.
وكذلك أخرجها السيوطي في تفسيره بلفظ آخر يشتمل على ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ، وهي: (اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا اله إلاّ أنت، عملت سوءً، وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا اله إلاّ أنت، عملت سوءً، وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقى آدم) .
وفي لفظ ثالث للرواية: (الكلمات التي تلقى آدم فتاب عليه سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم إلا تبت علي فتاب عليه).
2- التوسل بالنبي قبل البعثة:
تواترت الأخبار حسب تعبير السبكي في توسل المسلمين بالنبي، حيث كانوا يفزعون إليه ويستغيثون به في كل ما يصيبهم من المهمات، ولم تقتصر هذه الاستغاثات بالنبي في زمن بعثته، وإنما كانت ممتده منذ أن كان رضيعاً, ولم تقتصر الاستغاثة أيضاّ على المسلمين خاصة، بل اليهود الذين هم أقل عقيدة بمثل هذه الأمور (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كانوا يتوسلون بالنبي ، وإليك عدة من تلك الوقائع التاريخية في هذا المضمار:
توسل اليهود بالنبي :
ذكر المفسرون في تفسير الآية المباركة: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) ، حيث إن اليهود من أهل المدينة وخيبر إذا قاتلوا مَن يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج وغيرهما قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يستنصرون به عليهم ويستفتحون, لما يجدون ذكره في التوراة, فيدعون ويتوسلون بحقه للنصرة عليهم, فيقولون: (اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم)، وعن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان, فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) كفروا به فأنزل الله وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد على الكافرين).
استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو غلام:
حيث استسقى عبد المطلب بالنبي وهو غلام، ولذا قال ابن حجر إن أبا طالب أشار بقوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث، استسقى لقريش والنبي معه غلام.
استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام:
أخرج القسطلاني عن ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة، قال: (قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب ! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي كأنه شمس دجن تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ إلى الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي وأخصب النادي لبادئ، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل). |
وجاء في الملل والنحل للشهرستاني: (ومما يدلل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب ابنه يحضر المصطفى محمداً ، فأحضره وهو رضيع في قماط، فوضعه على يديه، واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال: يا رب: بحق هذا الغلام, ورماه ثانيا وثالثاً. وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خالفوا على المسجد. وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي الذي منه:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامـل | |
يطيف به الهلاك من آل هاشم | فهم عنـده في نعمة وفواضل | |
كذبتم ورب البيت نبزي محمداً | ولما نطـاعن دونه وننـاضل | |
ولا نسلمه حـتى نُصَرّع حوله | ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
3- التوسل بالنبي بعد البعثة:
أعرابي يستسقي بالنبي :
لقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام محلّ رضا النبي كما هو صريح بعض الروايات، فعن أنس بن مالك قال: (جاء أعرابي إلى النبي فقال يا رسول الله: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يصطح يغط, ثم أنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانهــا | وقد شغلت أم الصبي عن الطفـل | |
وألقى بكفيه الفتى استكانــة | عن الجوع ضعفاً ما يمر وما يحلــي | |
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا | سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل | |
وليس لنا إلا إليك فرارنــا | وأين فرار الناس إلا إلى الرســل |
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر, ثم رفع يديه إلى السماء, فقال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً غدقاً طبقاً عاجلاً غير رائث نافعاً غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزرع وتحيي الأرض بعد موتها. فوالله ما ردّ يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأورامها وجاء أهل البطاح يعجبون يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق, فقال رسول الله : اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب حتى أحدق بالمدينة كالإكليل، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: أبو طالب لو كان حياً لقرت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله: كأنك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
فقال رسول الله : أجل).
ثم إن التوسل بالصغار في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، وقد ذكر الشافعي في آداب صلاة الاستسقاء استحباب خروج الصبيان وكبار السن.
ولا شك إن الهدف من وراء ذلك هو أن هؤلاء الأبرياء والصلحاء مفاتيح استنزال الرحمة، وكأن المتوسل يقول ربي وسيدي ومولاي إن الصغير معصوم من الذنب والكبير الطاعن في السن أسير الله في أرضك، وهما أحق بالرحمة عندك، فلأجلهم أنزل رحمتك إليهم حتى تعمنا، كالساقي للشجرة الواحدة يسقي مساحة واسعة لأجل تلك الشجرة، وفي ظلها تسقى سائر الأشجار والأعشاب الأخرى.
رجلٌ يطلب الإغاثة من النبي :
ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك: (أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله قائم يخطب، فاستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائماً، ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السُبل، فادع الله يغيثنا فرفع رسول الله يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة ورسول الله قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس) ، فكان المرتكز لدى المسلمين أن رسول الله هو المفزع والوسيلة والواسطة بينهم وبين الله تعالى في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء, ثم إن إطلاقها شامل لما بعد وفاة النبي فهو الوسيلة، خصوصاً وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيّ يرزق يسمع كلامنا ويردّ سلامنا كما سيأتي.
النبي هو الشفيع عند ربه في الدنيا:
روى البيهقي في دلائله، وغيره عن أبي وجزة السلمي قال: (لمّا قفل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة - إلى أن قال - فقالوا: يا رسول الله، أسنتت بلادنا وأجدبت أحياؤنا وعريت عيالنا وهلكت مواشينا، فادعُ ربّك أن يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك ويشفع ربك إليك، فقال رسول الله : ((سبحان الله، ويلك، إن شفعت إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربّنا إليه؟ ! الله لا إله إلا هو العظيم وسع كرسيّه السموات والأرض)) - إلى أن قال: - فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصعد المنبر وكان مما حفظ من دعائه: ((اللهم اسق بلدك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت...))(81) وذكر دعاءً وحديثاً طويلاً.
وفي سنن أبي داود: (أتى رسول الله أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله : ((ويحك ! أتدري ما تقول؟)) وسبّح رسول الله ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ((ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)).
ومن الواضح أن رسول الله قرّر الأعرابي على قوله: (فإنا نستشفع بك على الله)، فلم ينكر الاستشفاع به على الله، وإنما أنكر بقوله: (ويحك) قول الأعرابي: (ونستشفع بالله عليك) فبيّن له الرسول الأكرم أنه لا يصلح الاستشفاع بالله على أحد من خلقه، أي لا يصح أن يجعل الله واسطة لخلقه؛ لأن الله تعالى أعظم شأناً، وإن الواسطة لا تملك من أمرها شيئاً، وإنّما كل شيء بيد المالك وهو الله تعالى، فلا يصح جعله واسطة وشفيعاً.
توسل النبي بحقه وحق من سبقه من الأنبياء:
وعن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما ، دخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس عند رأسها فقال: ((رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة)). ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده، ثم خلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قميصه فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاضطجع فيه فقال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسِّع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين)). وكبر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد هو والعباس وأبو بكر.
رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.