مباهلة النبي الأكرم محمد بن عبد الله (ص) نصارى نجران
  • عنوان المقال: مباهلة النبي الأكرم محمد بن عبد الله (ص) نصارى نجران
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 17:38:44 1-9-1403

في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 9 هجرية

إنفاذ النبي (ص) رسله إلى نصارى نجران

ودعوتهم إلى الإسلام والإيمان

ذكر السيد رضي الدين علي بن طاووس في كتابه"الإقبال" : روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة والروايات الصريحة إلى أبى المفضل محمد بن المطلب الشيباني رحمه الله من كتاب المباهلة ، ومن أصل كتاب الحسن بن اسماعيل بن اشناس من كتاب عمل ذي الحجة ، فيما رويناه بالطرق الواضحة عن ذوى الهمم الصالحة ، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم ، لأن المقصود ذكر كلامهم ، قالوا : لما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة، وانقادت له العرب ، وأرسل رسله ودعائه الى الامم ، وكاتب الملكين ، كسرى وقيصر ، يدعوهما إلى الإسلام ، وإلّا أقرّا بالجزية والصَغار ، وإلّا أذنا بالحرب العوان ، أَكبرَ شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحارث بن كعب ، ومن ضوى إليهم (أدى اليهم) ، ونزل بهم من دهماء الناس (جماعتهم) على اختلافهم هناك في دين النصرانية من الأروسية والسالوسية، وأصحاب دين الملك، والمارونية والعباد والنسطورية ، وامتلأت قلوبهم على تفاوت منازلهم رهبة منه ورعبا، فانهم كذلك من شأنهم.

وحينها وردت عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وآله بكتابه ، وهم عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهدير بن عبد الله اخو تيم بن مرة، وصهيب بن سنان اخو النمر بن قاسط ، يدعوهم إلى الإسلام ، فان أجابوا فإخوان ، وان أبوا واستكبروا ، يدعوهم إلى أداء الجزية عن يد ، فان رغبوا عما دعاهم إليه من أحد المنزلين وعاندوا، فقد آذنهم على سواء ، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فان تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران : 67) .

قالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقاتل قوما حتى يدعوهم ، فازداد القوم لورود رسل نبي الله صلى الله عليه وآله وكتابه نفورا وامتزاجا ، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى، وأمروا ففرش أرضها، وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصليب الأعظم ، وكان من ذهب مرصع ، أنفذهُ إليهم قيصر الأكبر ، وحضر ذلك بن الحارث بن كعب ، وكانوا ليوث الحرب فرسان الناس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم أيامهم في الجاهلية ..

فاجتمع القوم جميعاً للمشورة، والنظر في أمورهم ، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج ، وعك وحمير وأنمار ، ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبأ ، وكلهم قد ورم أنفه غضباً لقومهم ، ونكص (أحجم عنه) من تكلم منهم بالإسلام ارتداداً .

 

خطبة الاسقف الأول الحصين بن علقمة

فخاضوا وأفاضوا في ذكر المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، والنزول به بيثرب لمناجزته (مقاتلته) ، فلما رأى أبو حامد حصين بن علقمة - أسقفهم الأول وصاحب مدارسهم وعلامهم ، وكان رجلا من بني بكر بن وائل - ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب ، دعا بعصابةٍ فرفع بها حاجبيه عن عينيه ، وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة ..

ثم قام فيهم خطيباً معتمداً على عصا، وكانت فيه بقية، وله رأى وروية، وكان موحداً يؤمن بالمسيح وبالنبي عليهما السلام، ويكتم ذلك من كفرة قومه وأصحابه .

فقال : مهلا بنى عبد المدان مهلا ، استديموا العافية والسعادة ، فانهما مطويان في الهوادة (الصلح) ، دبوا (إمشوا) إلى قوم في هذا الأمر دبيب الزور ، وإياكم والسورة العجلى ، فان البديهة بها لا ينجب (حمد في نظره أو قوله أو فعله) ، انكم والله على فعل ما لم تفعلوا، أقدر منكم على رد ما فعلتم ، إلا أن النجاة مقرونة بالأناة ، ألا رب إحجام (امتناع) أفضل من إقدام ، وكائن من قول أبلغ من وصوله ثم أمسك.

 فأقبل عليه كرز بن سبرة الحارثى ، وكان يومئذ زعيم بنى الحارث بن كعب ، وفى بيت شرفهم ، والمعصب فيهم وأمير حروبهم ، فقال : لقد انتفخ (علا) سحرك، واستطير قلبك ابا حارثة ، فضلت كالمسبوع النزاعة الهلوع (من يفزع من الشر) ، تضرب لنا الأمثال وتخوفنا النزال (الحرب) ، لقد علمت وحق المنان بفضيلة الحفاظ بالنوء باللعب ، وهو عظيم ، وتلقح (هاجت بعد سكون) الحرب وهي عقيم تثقف، اورد الملك الجبار ولنحن أركان الرايس، وذي المنار الذين شددنا ملكهما، وامّرنا مليكهما ، فأي أيامنا تنكر؟ أم لأيّهما ويك تلمز (تعيب) ؟. فما اتى على آخر كلامه، حتى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفه، غيظا وغضبا وهو لايشعر .

 

كلام العاقب عبد المسيح بن شرحبيل

فلما أمسك كرز بن سبرة أقبل عليه العاقب ، واسمه عبدالمسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم وأمير رأيهم وصاحب مشورتهم ، الذي لا يصدرون جميعا الا عن قوله ، فقال له : أفلح وجهك وأنس ربعك (جماعتك)، وعز جارك وامتنع ذمارك (ما يلزمك حفظه) ، ذكرتَ، وحق مغبرّة الجباه (أي: ذوي الجباه المغبرّة)، حسباً صميماً ، وعيصاً (أي نسبا) كريماً، وعزاً قديما ، ولكن أبا سبرة لكل مقام مقال ، ولكل عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهي الأيام تهلك جبلاً ، وتديل قبيلاً ، والعافية أفضل جلباب ، وللآفات أسباب ، فمن أوكد أسبابها، التعرض لأبوابها ، ثم صمت العاقب مطرقاً .

 

كلام السيد أسقف نجران

فأقبل عليه السيد، واسمه اهتم بن النعمان ، وهو يومئذ اسقف نجران ، وكان نظير العاقب في علو المنزلة ، وهو رجل من عاملة وعداده في لخم (من قبيلة لخم) ، فقال له: سعد جدك وسما جدك أبا وائلة ، ان لكل لامعة ضياء ، وعلى كل صواب نوراً ، ولكن لا يدركه وحق واهب العقل الا من كان بصيرا ، إنك أفضيت وهذان فيما تصرف بكما الكلم إلى سبيلي حزن وسهل ، ولكل على تفاوتكم حظ من الرأي الربيق (الذي عليه العزم كأنه كناية عن الشديد) والأمر الوثيق، إذا اصيب به مواضعه ، ثم ان اخا قريش قد نجدكم لخطب عظيم، وأمر جسيم ، فما عندكم فيه قولوا وأنجزوا ، أبخوع  واقرار(الطاعة والخضوع )، أم نزوع (أي انتهاء عنه) .      

قال عتبة والهدير والنفر من اهل نجران: فعاد كرز بن سبرة لكلامه، وكان كميّا ابيا ، فقال : أنحن نفارق ديناً رسخت عليه عروقنا، ومضى عليه آباؤنا، وعرف ملوك الناس ثم العرب ذلك منا ، أنتهالك (نجِدُّ مستعجلين) إلى ذلك أم نقرب الجزية وهى الخزية حقاً ، لا والله حتى نجرد البواتر من أغمادها ، ونذهل الحلائل عن أولادها ، أو تشرق (تظهر) نحن محمد بدمائنا ، ثم يديل ( ينصر) الله عز وجل بنصره من يشاء .

قال له السيد : أربِع (ارفق) على نفسك وعلينا أباسبرة ، فان سل السيف يسل السيف ، وان محمدا قد بخعت (اطاعت) له العرب ، وأعطته طاعتها وملك رجالها واعنتها ، وجرت أحكامه في أهل الوبر (أهل البدو) منهم والمدر (أهل المدن والقرى) ، ورمقه (نظر إليه) الملكان العظيمان كسرى وقيصر ، فلا أراكم والروح لو نهد (نهض) لكم ، الا وقد تصدع عنكم من خف معكم من هذه القبائل ، فصرتم جفاء كأمس الذاهب أو كلحم على وضم (كل شئ يجعل عليه اللحم من خشب) . 

 

جهير بن سراقة يريد الحرب

وكان فيهم رجل يقال له : جهير بن سراقة البارقى من زنادقة نصارى العرب ، وكان له منزلة من ملوك النصرانية ، وكان مثواه بنجران ، فقال له اباسعاد : قل في أمرنا وانجدنا برأيك ، فهذا مجلس له ما بعده . فقال : فاني أرى لكم أن تقاربوا محمدا وتطيعوه في بعض ملتمسه عندكم ، ولينطلق وفودكم الى ملوك اهل ملتكم الى الملك الأكبر بالروم قيصر ، والى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة ، يعني ملوك السودان ، ملك النوبة وملك الحبشة وملك علوه وملك الرعا (ملك حبشة) وملك الراحات ومريس والقبط ، وكل هؤلاء كانوا نصارى .

قال : وكذلك من ضوى (انضم ولجأ) الى الشام وحل بها من ملوك غسان ولخم وجذام وقضاعة ، وغيرهم ، من ذوي يمنكم فهم لكم عشيرة وموالي واعوان وفى الدين اخوان ، يعنى انهم نصارى ، وكذلك نصارى الحيرة من العباد وغيرهم ، فقد صَبَت الى دينهم قبائل تغلب بنت وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار ، لتسير وفودكم . ثم لتخرق إليهم البلاد اغذاذا (سريعا) ، فيستصرخونهم لدينكم فيستنجدكم  الروم، وتسير اليكم الاساودة (جماعة سودان) مسير اصحاب الفيل ، وتقبل اليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن .

فإذا وصلت الامداد واردة ، سرتم انتم في قبائلكم وسائر من ظاهركم وبذل نصره وموازرته لكم ، حتى تضاهئون (تشاكلون) من انجدكم واصرخكم ، من الاجناس ، والقبائل الواردة عليكم ، فأُمّوا (إقصدوا) محمداً حتى تنجوا به جميعا ، فسيعتق اليكم وافدا لكم من صبا (مال) إليه ، مغلوبا مقهورا ، وينعتق به من كان منهم في مدرّته (بلده) مكثورا (المغلوب بالكثرة) ، فيوشك ان تصطلموا (تستأصلوا) حوزته وتطفؤوا جمرته . ويكون لكم بذلك الوجه والمكان في الناس ، فلا تتمالك العرب حيئنذ حتى تتهافت دخولا في دينكم ، ثم لتعظمن بيعتكم هذه ، ولتشرفن ، حتى تصير كالكعبة المحجوجة (المقصودة من الناس) بتهامة ، هذا الرأى فانتهزوه  ، فلا رأى لكم بعده .

 

كلام حارثة بن أثال ويذكر بشائر

السيد المسيح (ع) بالنبي محمد(ص)

 فاعجب القوم كلام جهير بن سراقة ، ووقع منهم كل موقع ، فكاد أن يتفرقوا على العمل به ، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بنى قيس بن ثعلبة ، يدعى حارثة بن اثال على دين المسيح عليه السلام ، فقام حارثة على قدميه واقبل على جهير، وقال متمثلا ::

متى ماتقد بالباطل الحق بابه   وان قلت بالحق الرواسى ينقدِ
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه   ضللت وان تقصد الى الباب تهتدِ

ثم استقبل السيد والعاقب والقسيسين والرهبان وكافة نصارى نجران بوجهه لم تخلط معهم غيرهم ، فقال (حارثة) : سمعا سمعا يا ابناء الحكمة وبقايا حملة الحجة ، ان السعيد والله من نفعته الموعظة ولم يعشُ عن التذكرة ، ألا وانى أنذركم واذكّركم قول مسيح الله عز وجل - ثم شرح وصيته ونصه على وصيه شمعون بن يوحنا وما يحدث على امته من الافتراق .

ثم ذكر عيسى عليه السلام وقال : ان الله جل جلاله أوحى إليه : فخذ يابن أمتى كتابي بقوة ثم فسره لأهل سوريا بلسانهم ، واخبرهم انى انا الله لا اله الا انا ، الحى القيوم البديع الدائم الذي لا أحول ولا أزول ، انى بعثت رسلي، ونزّلت كتبي رحمة ونورا عصمة لخلقي ، ثم انى باعث بذلك نجيب رسالتي ، احمد صفوتي من بريّتى البارقليطا عبدى، ارسله في خلو من الزمان ، ابعثه بمولده فاران من مقام أبيه ابراهيم عليه السلام ، انزل عليه توراة حديثة ، افتح بها أعيناً عمياً ، واذنا صماً ، وقلوباً غُلفاً (لا تعى شيئا) ، طوبى لمن شهد ايامه، وسمع كلامه ، فآمن به، واتبع النور الذي جاء به ، فإذا ذكرت يا عيسى ذلك النبي فصلِّ عليه فانى وملائكتي نصلى عليه .

 

السيد والعاقب يعترفان بوجود صفة النبي محمد(ص) في كتبهم

ولكن يحاولون الانكار طمعا في السلطنة

قال : فما أتى حارثة بن اثال على قوله هذا حتى اظلم بالسيد والعاقب مكانهما ، وكَرِها ما قام به في الناس معربا ومخبرا عن المسيح عليه السلام بما اخبر وقدم من ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهما كانا قد أصابا بمواضعهما من دينهما شرفاً بنجران، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعا ، وكذلك عند سوقتهم وعربهم في البلاد ، فاشفقا ان يكون ذلك سببا لانصراف قومها عن طاعتهما لدينهما، وفسخاً لمنزلتهما في الناس ..

فأقبل العاقب على حارثة فقال : امسك عليك ياحار(أي: يا حارثة) ، فان راد هذا الكلام عليك اكثر من قابله ، ورب قول يكون بلية على قائله ، وللقلوب نفرات عند الاصداع (التظلم جهارا) بمظنون الحكمة ، فاتق نفورها ، فلكل نبأ اهل ، ولكل خطب محل ، وانما الدرك (اللحاق والوصول) ما اخذ لك بمواضى النجاة ، وألبسك جنة السلامة ، فلا تعدلن بهما حظا ، فاني لم آلك لا أبا لك نصحا ثم أرِمَ (أي: سكت) .

فأحب السيد ان يشرك العاقب في كلامه ، فأقبل على حارثة فقال : انى لم أزل أتعرف لك فضلا تميل اليك الالباب ، فاياك ان تقعد مطية اللجاج ، وان توجف الى السراب ، فمن عذر بذلك فلست فيه ايها المرء بمعذور ، وقد اغفلك أبو واثلة ، وهو ولى أمرنا وسيد حضرنا عتابا فأوله اعتبارا .

ثم تعلم ان ناجم قريش (أي: الرجل الظاهر منهم، ويعني رسول الله صلى الله عليه وآله) يكون رزؤه (مصيبته) قليلا ، ثم ينقطع ويخلو ، ان بعد ذلك قرن يبعث في آخره النبي المبعوث بالحكمة والبيان والسيف والسلطان ، يملك ملكا مؤجلا ، تطبق فيه امته المشارق والمغارب ، ومن ذريته الأمير الظاهر يظهر على جميع الملكات والأديان ، ويبلغ ملكه ما طلع عليه الليل والنهار ، وذلك ياحار أمل من ورائه أمد، ومن دونه أجل ، فتمسك من دينك بما تعلم وتمنع لله أبوك من أنس متصرم بالزمان أو لعارض من الحدثان ، فانما نحن ليومن ولغد أهله.

فأجابه حارثة بن اثال فقال : ايهاً عليك ابا قرة ، فانه لا حظَّ في يومه لمن لا درك له في غده ، واتق الله تجد الله جل وتعالى بحيث لا مفزع الا إليه ، وعرضت مشيدا بذكر أبي واثلة ، فهو العزيز المطاع الرحب الباع ، واليكما معا ملقى الرحال ، فلو أضربت التذكرة عن أحد لتبزين (بزز الرجل : فاق على اصحابه) فضل لكنتماه ، لكنها ابكارا لكلام تهدى لأربابها ، ونصيحة كنتما أحق من أصغى بها ، انكما مليكا ثمرات قلوبنا ، ووليا طاعتنا في ديننا .

فالكيّس الكيّس يا أيها المعظمان عليكما به ، أريا مقاما بذهكما نواحيه، واهجر سنته التسويف،  فيما انتما بعرضة ، آثر الله فيما كان يؤثركما بالمزيد من فضله ، ولا تخلدا فيما اظلكما الى الونيه (التخفيف) ، فانه من اطال عنان الأمر اهلكته الغرة ، ومن اقتعد مطية الحذر كان سبيل أمن من المتألف ، ومن استنصح عقله كانت العبرة  له لا به ، ومن نصح لله عز وجل آنسه الله جل وتعالى بعز الحياة وسعادة المنقلب .

ثم أقبل على العاقب معاتباً فقال : وزعمت أبا واثلة ان راد ما قلت اكثر من قائله ، وانت لعمرو الله حريٌّ الا يؤثر هذا عنك ، فقد علمت وعلمنا امة الانجيل معا بسيرة ما قام به المسيح عليه السلام في حواريه ، ومن آمن له من قومه ، وهذه منك فهة (سقطة) لا يدحضها (يغسلها) الا التوبة والاقرار بما سبق به الانكار .

فلما أتى على هذا الكلام صرف الى السيد وجهه فقال : لا سيف الا ذو نبوة، ولا عليم الا ذو هفوة ، فمن نزع عن وهلة واقلع فهو السعيد الرشيد ، وانما الآفة في الاصرار ، واعرضت بذكر نبيين يخلقان زعمت  بعد ابن البتول ، فأين يذهب بك عما خلد في الصحف من ذكرى ذلك ، ألم تعلم ما أنبأ به المسيح عليه السلام في بنى اسرائيل ، وقوله لهم : كيف بكم إذا ذهب بي الى أبي وأبيكم وخلف بعد أعصار يخلو من بعدي وبعدكم صادق وكاذب ؟ قالوا : ومن هما يا مسيح الله ؟ ، قال : نبيٌّ من ذرية اسماعيل عليهما السلام صادق، ومتنبيّ من بنى اسرائيل كاذب ، فالصادق منبعث منهما برحمة وملحمة ، يكون له الملك والسلطان مادامت الدنيا ، واما الكاذب ، فله نبذ يذكر به المسيح الدجال ، يملك فواقاً (يسيرا) ثم يقتله الله بيدى إذا رجع بى. ( يشير السيد المسيح عليه السلام هنا الى نزوله الى الأرض بعد ظهور الامام المهدي(عليه السلام) ، الذي يرسله لقتال الدجال، فيُقتل الدجال على يديه، وهو ما صرحت به عدة من الروايات)

قال حارثة : واحذركم يا قوم ان يكون من قبلكم من اليهود اسوة لكم ، انهم أُنذِروا بمسيحين : مسيح رحمة وهدى، ومسيح ضلالة ، وجعل لهم على كل واحد منهما آية وأمارة ، فجحدوا مسيح الهدى وكذبوا به، وآمنوا بمسيح الضلالة الدجال واقبلوا على انتظاره ، واضربوا في الفتنة وركبوا نتجها (تكسبوا بها) ، ومن قبل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وقتلوا أنبياءه والقوامين بالقسط من عباده ، فحجب الله عز وجل عنهم البصيرة بعد التبصرة بما كسبت أيديهم ، ونزع ملكتهم منهم ببغيهم ، والزمهم الذلة والصَغار ، وجعل منقلبهم الى النار .

 

ذكر مسيلمة وكذب ادعاءه للنبوة

 قال العاقب : فما أشعرك ياحار ان يكون هذا النبي المذكور في الكتب هو قاطن (مقيم) يثرب ، ولعله ابن عمك صاحب اليمامة ، فانه يذكر من النبوة ما يذكر منها اخو قريش ، وكلاهما من ذرية اسماعيلل

ولجميعهما اتباع واصحاب ، يشهدون بنبوته ويقرون له برسالته ، فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها ؟

 قال حارثة : أجل والله أجدها ، والله أكبر وأبعد مما بين السحاب والتراب ، وهى الاسباب التي بها وبمثلها تثبيت حجة الله في قلوب المعتبرين من عباده لرسله وانبيائه ، واما صاحب اليمامة فيكفيك فيه ما اخبركم به سفرائكم وغيركم والمنتجعة (إذا أتيته تطلب معروفا) منكم ارضه ومن قدم من أهل اليمامة عليكم ، ألم يخبركم جميعا عن رواد (الجواسيس) مسيلمة وسمّاعيه ، ومن أوفده  صاحبهم(أي: مسيلمة الكذاب) الى احمد بيثرب وبئارنا ثماد (الماء لامادة له) ومياهنا ملحة ، وكنا من قبله لا نستطيب ولا نستعذب ، فبصق(أي: النبي محمد) في بعضها ومج (رمى) في بعض ، فعادت عذابا محلولة وجاش (كثر) منها ماكان ماؤها ثمادا، فحار (إمتلأ) بحرا . قالوا : وتفل محمد في عيون رجال ذوى رمد وعلى كلوم (جراحات) رجال ذوى جراح ، فبرأت لوقته عيونهم فما اشتكوها، واندملت جراحاتهم فما آلموها في كثير مما ادوا ، ونبَّؤوا عن محمد صلى الله عليه وآله من دلالة وآية ، وأرادوا صاحبهم مسيلمة على بعض ذلك ، فأنعم لهم كارها وأقبل بهم الى بعض بئارهم فمج فيها وكانت الركى معذوبة ، فصارت ملحا لا يستطاع شرابه ، وبصق في بئر كان ماؤها وشلا (قليلا) فعادت فلم تبض بقطرة من ماء ، وتفل في عين رجل كان بها رمد فعميت ، وعلى جراح - أو قالوا : جراح آخر - فاكتسى جلده برصا . فقالوا لمسيلمة فيما ابصروا في ذلك منه واستبرؤوه ، فقال : ويحكم بئس الامة انتم  لنبيكم والعشيرة لابن عمكم !!، انكم كلفتموني يا هؤلاء من قبل ان يوحى اليَّ في شيء مما سألتم ، والان فقد اذن لى في اجسادكم واشعاركم دون بئاركم ومياهكم ، هذا لمن كان منكم بى مؤمنا ، واما من كان مرتابا فانه لا يزيده تفلتي عليه الا بلاء ، فمن شاء الان منكم فليأت لأتفل في عينه وعلى جلده !!، قالوا : ما فينا وابيك احد يشاء ذلك ، انا نخاف ان يشمت بك اهل يثرب، اضربوا عنه حمية لنسبه فيهم وتذمما لمكانه منهم .

 

معرفة السيد والعاقب بصدق نبوة النبي محمد (ص) ومعاجزه

فضحك السيد والعاقب حتى فحصا الأرض بأرجلهما ، وقالا : ما النور والظلام ، والحق والباطل بأشد تبايناً وتفاوتاً مما بين هذين الرجلين صدقاً وكذباً ..

 قالوا : وكان العاقب أحبَّ، مع ما تبين من ذلك، ان يشيّد ما فرط من تفريط مسيلمة ويؤهّل منزلته ، ليجعله لرسول الله صلّى الله عليه وآله كفئا ، استظهارا بذلك في بقاء عزته، وما طار له من السمو في أهل ملته ، فقال : ولأن فخر اخو بنى حنيفة (مسيلمة) في زعمه ان الله عز وجل أرسله وقال من ذلك ما ليس له بحق، فلقد برَّ (أحسن) في ان نقل قومه من عبادة الأوثان الى الايمان بالرحمان!! .

 قال حارثه : انشدك بالله الذي دحاها، واشرق باسمه قمراها ، هل تجد فيما انزل الله عز وجل في الكتب السالفة ، يقول الله عز وجل : انا الله لا اله الا أنا ، ديان يوم الدين أنزلت كتبي وأرسلت رسلي، لاستنقذ بهم عبادي من حبائل الشيطان، وجعلتهم في بريتي وأرضي كالنجوم الدراري في سمائي ، يهدون بوحيي وامري ، من أطاعهم أطاعني، ومن عصاهم فقد عصاني ، واني لعنت وملائكتي في سمائي وارضي واللاعنون من خلقي من جحد ربوبيتي، أو عدل بى شيئا من بريتي ، أو كذب بأحد من أنبيائي ورسلي - أو قال : أوحيَ الي ولم يوحَ إليه شيء - أو غمص (احتقر ونقص) سلطاني أو تقمّصه (أي لبس قميصا بالباطل) متبرياً ، أو أكمله عبادي وأضلهم عني ، ألا وانّما يعبدني من عرف ما أريد من عبادتي وطاعتي من خلقي ، فمن لم يقصد الي من السبيل التي نهجتها برسلي لم يزدد في عبادته مني الا بُعدا .

 قال العاقب : رويدك  فاشهد لقد نبّأت حقاً .

 قال حارثة : فما دون الحق من مقنع، وما بعده لإمريء مفزع ، ولذلك قلت الذي قلت .

 فاعترضه السيد وكان ذا محال (كيد ومكر) وجدال شديد ، فقال : ما أحرى  وما أرى أخا قريش (أي: النبي محمد (ص))) مرسلاً الا الى قومه بنى اسماعيل دينه ، وهو مع ذلك يزعم ان الله عز وجل ارسله الى الناس جميعا !!.

 قال حارثة : أفتعلم أنت يا ابا قرة ان محمدا مرسل من ربه الى قومه خاصة ؟

قال : أجل . قال : أتشهد له بذلك ؟

 قال : ويحك وهل يستطاع دفع الشواهد ، نعم اشهد غير مرتاب بذلك ، وبذلك شهدت له الصحف الدارسة والأنباء الخالية .

 فأطرق حارثة ضاحكا ينكت الأرض بسبابته ، قال السيد : ما يضحك يابن اثال ؟

قال : عجبت فضحكت . قال : أو عجب ما تسمع ؟

قال : نعم العجب أجمع ، أليس بالله بعجيب من رجلٍ أوتي اثرة من علم وحكمة ، يزعم ان الله عز وجل اصطفى لنبوته، واختص برسالته، وأيد بروحه وحكمته رجلا خرّاصا يكذب عليه ويقول : أوحي الي ولم يوح إليه ، فيخلط كالكاهن كذبا بصدق وباطلا بحق !؟.

 فارتدع السيد وعلم انه قد وهل فأمسك محجوبا.(أي علم أنه إذا كان يعتقد بأن النبي محمد (ص) نبياً حقاً فكيف ينسب للنبي الكذب ، وإدعاء ما ليس له؟؟!).

العاقب يؤيّد القول بنبوة النبي محمد (ص)

قالوا : وكان حارثة بنجران حثيثا (غريبا) ، فأقبل عليه العاقب وقد قطعه ما فرط الى السيد من قوله ،،

فقال له : عليك (أي: أمسك عليك) اخا بنى قيس بن ثعلبة ، واحبس عليك ذلق لسانك، وما لم تزل تستحم  لنا من مثابة سفهك ، فرُبَّ كلمةٍ يرفع صاحبها بها رأسا ، قد القته في قعر مظلمة ، وربَّ كلمةٍ لامت (أصلحت)  ورأبت قلوبا نغلة (فاسدة) ، فدع عنك ما يسبق الى القلوب انكاره ، وان كان عندك ما يبين اعتذاره . ثم اعلم ان لكل شئ صورة ، وصورة الانسان العقل ، وصورة العقل الأدب ، والأدب ادبان : طباعي ومرتاضي ، فأفضلها ادب الله جل جلاله ، ومن ادب الله سبحانه وحكمته أن يرى لسلطانه حق ليس لشئ من خلقه ، لأنه الحبل بين الله وبين عباده ، والسلطان اثنان : سلطان ملكة وقهر ، وسلطان حكمة وشرع ، فاعلاهما فوقا سلطان الحكمة، قد ترى يا هذا ان الله عز وجل قد صنع لنا حتى جعلنا حكّاما وقُوّاما على ملوك ملتنا من بعدهم من حشوتهم  واطرافهم ، فاعرف لذى الحق حقه ، ايها المرء وخلاك ذم (أي: اعذرت وسقط عنك الغم).

 ثم قال : وذكرت اخا قريش وما جاء به من الايات والنذر ، فأطلتَ وأعرضتَ ولقد برزت ، فنحن بمحمد وبه جداً موقنون ، شهدت لقد انتظمت له الآيات والبينات ، سالفها وآنفها ، ألا انه هي اشفاها واشرفها ، وانما مثلها فيما جاء به كمثل الرأس للجسد ، فما حال جسد لا رأس له ، فأمهل رويدا ، نتجسس الاخبار، ونعتبر الاثار، ولنستشف ما ألفينا مما أُفضي الينا ، فانْ أنسنا الآية الجامعة لديه ، فنحن إليه أسرع، وله اطوع ، وإلا فاعلم ما نذكر به النبوة والسفارة عن الرب الذي لا تفاوت في أمره ولا تغاير في حكمه .

قال له حارثة : قد ناديت فاسمعت ، وفزعت فصدعت ، وسمعت أاطعت ، فما هذه الاية التي

أوحش بعد الانسة فقدها ، واعقب الشك بعد البينة عدمها ؟.

 وقال له العاقب : قد اثلجك أبو قرة بها فذهبت عنها في غير مذهب، وجاورتها فاطلت في غير ما طائل، وحاورتنا فأطلت في غير ما طائل .

 قال حارثة : الى ذلك فجَلّها(بيّنها) الان لي، فداك أبي وامي .

العاقب يصف النبي (ص) وأهل بيته والامام المهدي

 من الكتب السماوية، ويصف حال المسلمين

وخلفاء الجور وعلائم آخر الزمان

قال العاقب : افلح من سلّم للحق وصدع به، ولم يرغب عنه وقد احاط به علما ، فقد علمنا وعلمت من أنباء الكتب المستودعة علم القرون وما كان وما يكون ، فانها استهلّت بلسان كل امة منهم، معربة مبشرة ومنذرة بأحمد النبي ، العاقب الذي تطبق امته المشارق والمغارب، يملك وشيعته من بعده ملكا مؤجلا يستأثر مقتبلهم،  ملكاً على الأحمِّ (أي: اقربهم) منهم بذلك النبي وتباعة وسيما ، ويوسع من بعدهم امتهم عدوانا وهضما ، فيملكون بذلك سبتاً (دهرا) طويلا حتى لا يبقى بجزيرة العرب بيت الا وهو راغب إليهم أو راهب لهم . ثم يدال بعد لأيٍّ منهم، ويشعث (يتفرق) سلطانهم حداً حداً وبيتاً فبيتاً ، حتى تجيء امثال النعف (الدود الذي في انوف الابل والغنم) من الاقوام فيهم ، ثم يملك أمرهم عليهم عبداؤهم وقِنَّهم ، يملكون جيلاً فجيلا ، يسيرون في الناس بالقعسرية (الصلابة) خبطاً خبطا(جماعة) ، ويكون سلطانهم سلطاناً عضوضاً ضروساً ، فتنقص الأرض حينئذ من اطرافها، ويشتد البلاء، وتشتمل الآفات، حتى يكون الموت أعزَّ من الحياة الحمراء (الشديدة) ، أو احبَّ حينئذ الى احدهم من الحبوة الى المعافاة السليم ، وما ذلك الا لما يدهنون به من الضر والضراء، والفتنة العشواء، وقوام الدين يومئذ وزعماؤهم يومئذ اناس ليسوا من أهله ، فمج  الدين بهم، وتعفو آياته، ويدبر تولياً وامحاقا ، فلا يبقى منه الا اسمه حتى ينعاه ناعيه والمؤمن يومئذ غريب، والديانون قليل ماهم ، حتى يستأنس الناس من روح الله وفرجه الا اقلهم ، وتظن اقوام ان لن ينصر الله رسله ويحق وعده . فإذا بهم الشصائب (الشدائد) والنقم، واخذ من جميعهم بالكظم، تلافى الله دينه، وراش (أي: أصلح) عباده من بعدما قنطوا برجل من ذرية نبيهم احمد ونجله[ إشارة الى الامام المهدي عليه السلام] ، يأتي الله عز وجل به من حيث لا يشعرون ، وتصلي عليه السماوات وسكانها، وتفرح به الأرض وما عليها من سوام (وحوش) وطائر وأنعام ، وتخرج له امّكم - يعنى الأرض - بركتها وزينتها، وتلقى إليه كنوزها وافلاذ كبدها ، حتى تعود كهيئتها على عهد آدم عليه السلام ، وترفع عنهم المسكنة والعاهات في عهده، والنقمات التي كانت تضرب بها الامم من قبل ،  وتلقى في البلاد الامنة، وتنزع حِمّة كل ذات حمة ، ومخلب كل ذى مخلب ، وناب كل ذى ناب ، حتى ان الجويرية اللكاع لتعب بالافعوان (ذكور الأفاعى) ، فلا يضرها شيئا ، وحتى يكون الاسد في الباقر (جماعة البقر) كأنه راعيها ، والذئب في البُهم (أولاد الضأن) كأنه ربها . ويظهر الله عبده على الدين كله، فيملك مقاليد الاقاليم الى بيضاء الصين ، حتى لا يكون على عهده في الأرض أجمعها الا دين الله الحق، ارتضاه لعباده، وبعث به آدم بديع فطرته، واحمد خاتم رسالته ومن بينهما من أنبيائه ورسله ..

 فلما أتى العاقب على اقتصاصه هذا أقبل عليه حارثة مجيبا فقال : اشهد بالله البديع، يا ايها النبيه الخطير، والعليم الأثير لقد ابتسم الحق بقلبك، واشرق الجنان بعدل منطقك، وتنزلت كتب الله التي جعلها نورا في بلاده، وشاهدة على عباده بما اقتصصت من سطورها حقاً، فلم يخالف طرس (صحيفة) منها طرسا، ولا رسم من آياتها رسما، فما بعد هذا؟ .

 قال العاقب : فانك زعمت اخا قريش فكنت بما تأثر من هذا حق غالط! .

 قال : وبمَ ، ألم تعترف له بنبوته ورسالته الشواهد ؟

قال العاقب : بلى لعمرو الله ولكنهما نبيان رسولان يعتقبان بين مسيح الله عز وجل وبين الساعة ، اشتق اسم احدهما من صاحبه محمد واحمد ، بشّر بأولهما موسى عليه السلام، وثانيهما عيسى عليه السلام ، فأخو قريش هذا مُرسل الى قومه ويقفوه من بعده ، ذو الملك الشديد والأكل الطويل ، يبعثه الله عز وجل خاتما للدين، وحجة على الخلائق أجمعين ، ثم تأتى من بعده فترة تتزايل فيها القواعد من مراسيها، فيعيدها الله عز وجل، ويظهره على الدين كله ، فيملك هو والملوك الصالحون من عقبه جميع ما طلع عليه الليل والنهار من أرض وجبل وبر وبحر ، يرثون أرض الله عز وجل ملكاً، كما ورثهما أو ملكهما الابوان آدم ونوح عليهما السلام ، يلقون وهم الملوك الأكابر في مثل هيئة المساكين بذاذة واستكانة . فاولئك الأكرمون الأماثل، لا يُصلح عباد الله وبلاده إلّا بهم ، وعليهم ينزل عيسى بن البكر عليه السلام على آخرهم ، بعد مكث طويل وملك شديد ، لا خير في العيش بعدهم ، وتردفهم رجرجة (الجماعة الكثيرة في الحرب) طغام (أرذال الناس) في مثل أحلام العصافير، وعليهم يقوم الساعة ، وانما تقوم على شرار الناس وأخابثهم ، فذلك الوعد الذي صلى به الله عز وجل على أحدكما، صلى به خليله ابراهيم عليه السلام في كثير مما لأحمد صلى الله عليه من البراهين والتأكيد الذي خبرت به كتب الله الاولى .

 قال حارثة : فمن الاثر المستقر عندك ابا واثلة في هذين الاسمين انهما لشخصين لنبيين مرسلين في عصرين مختلفين ؟

 قال العاقب : أجل . قال : فهل يتخالجك في ذلك ريب أو يعرض لك فيه ظن ؟

 قال العاقب : كلا والمعبود إنَّ هذا لأجلى من بوح (الشمس) ، واشار له الى جرم الشمس المستدير.

 فاكبَّ حارثة مطرقا وجعل ينكث في الارض عجبا ، ثم قال : انما الافة ايها الزعيم المطاع ان يكون المال عند من يخزنه لا من ينفقه، والسلاح عند من يتزين به لا من يقاتل به، والرأى عند من يهلكه لا من ينصره .

قال العاقب : لقد اسمعت يا حويرث فاقذعت (رماه بسوء القول)، وطفقت فاقدمت فيه ؟

 قال (حارثة): اقسم بالذي قامت به السماوات والارضون باذنه، وغلبت الجبابرة بأمره ، انهما اسمان

مشتقان لنفس واحدة ، واحدٌ لنبيّ وواحدٌ رسول ، واحدٌ انذر به موسى بن عمران وبشّر به عيسى بن مريم، ومن قبلهما أشار به صحف ابراهيم عليه السلام .

 فتضاحك السيد ، يُري قومه ومن حضرهم ان ضحكه هزؤ من حارثة وتعجب!.

 وانتشط العاقب من ذلك ، فأقبل على حارثة مؤنبا (لائماً) ، فقال : لا يغررك باطل أبى قرة فانه وان ضحك لك فانما يضحك منك .

 قال حارثة : لئن فعلها لأنها لاحدى الدهارس (الدواهي)، أو سوء، أفلم تتعرفا! راجع الله بكما من موروث الحكمة، لا ينبغى للحكيم ان يكون عبّاسا في غير ادب، ولا ضحّاكا في غير عجب، أو لم يبلغكما عن سيّدكما المسيح عليه السلام ، قال : فضحك العالم في غير حينه، غفلة من قلبه، أو سكرة ألْهَته عما في غده .

قال السيد : يا حارثة انه لا يعيش- والله- احد بعقله حتى يعيش بظنه (أي: التعيش بالظنون الفاسدة اكثر من التعيش بالعقل، وهذا كناية ان هكذا الكلام صادر من الظن الفاسد، ومراده ان ضحكه لم يكن عبثا)، وإذا أنا لم أعلم الا ما رويتُ فلا علمتُ، أوَ لم يبلغكَ انت عن سيدنا المسيح علينا سلامه: ان لله عبادا ضحكوا جهراً من سعة رحمة ربهم، وبكوا سراً من خيفة ربهم ؟

 قال : إذا كان هذا فنعم ، قال : فماهنا فليكن مراجم ظنونك بعباد ربك ، وعد بنا الى ما نحن بسبيله ، فقد طال التنازع والخصام بيننا يا حارثة .

 قالوا : وكان هذا مجلسا ثالثا في يوم ثالث من اجتماعهم للنظر في أمرهم .

 فقال السيد : يا حارثة ألم ينبؤك أبو واثلة بأفضح لفظ اخترق اذناً، ودعا ذلك بمثله مخبرا ، فالقاك مع غرمانك بموارده حجرا وهاجماً، أنا ذا آكد عليك التذكرة بذلك من معدن ثالث ، فأُشهدك الله وما أنزل الى كلمة من كلماته ، هل تجد في الزجرة المنقولة من لسان اهل سوريا الى لسان العرب يعنى صحيفة شمعون بن حمون الصفا التي توارثها عنه اهل النجران ؟ قال السيد : ألم يقل بعد نبذ طويل من كلام: فإذا طبقت وقطعت الارحام، وعفت (علقت) الاعلام، بعث الله عبده الفارقليطا بالرحمة والمعدلة .

 قالوا : وما الفارقليطا يا مسيح الله ؟  قال : احمد النبي، الخاتم الوارث، ذلك الذي يُصلى عليه حياً، ويُصلى عليه بعدما يقبضه إليه، بابنه الطاهر الخاير ، ينشره الله في آخر الزمان بعدما انقضت عرى الدين وخَبتْ مصابيح الناموس ، وأفَلَت نجومه، فلا يلبث ذلك العبد الصالح الا أمما حتى يعود الدين به كما بدء ، ويقر الله عز وجل سلطانه في عبده، ثم في الصالحين من عقبه، وينشر منه حتى يبلغ ملكه منقطع التراب .

[ وهنا يشير الى ظهور الامام المهدي(ع) إذ، كما ورد في الحديث النبوي الشريف أنه: " يملأ الأرض قسطا وعدلاً بعدما ملئت ظلما وجوراً"].

 قال حارثة : كلما قد انشدتما حق، لا وحشة مع الحق ولا أُنس في غيره ، فَمَه ؟

 قال السيد : فان من الحق ان لاحظ في هذه الا كرامة للأبتر! .

 قال حارثة : انه لكذلك، أليس بمحمد ؟

قال السيد : انك ما عملت الا لداً (خصومة شديدة) ألم يخبرنا سِفْرنا، وأصحابنا فيما تجسّسنا من خبره، ان ولديه الذكرين القرشية والقبطية بادا (ماتا) وغودر (تُرِك) محمد كقرن الاغصب (أي كالغنم مكسور القرن) موفٍ على ضريحه (أي: مشرف على الموت) ، فلو كان له بقية، كان لك بذلك مقالا إذا ولت أنباؤه الذي تذكر.

حارثة يبين أن النبي محمد (ص) مبعوث للناس كافة

وأنه ليس أبتراً وله ذرّية

 قال حارثة : العِبّر لعمرو الله كثيرة، والاعتبار بها قليل ، والدليل موفٍ على سنن السبيل ان لم يعش عنه ناظر، وكما أن اللأبصار الرمدة لا تستطيع النظر في قرص الشمس لسقمها ، فكذلك البصائر القصيرة لا تتعلق بنور الحكمة لعجزها . ألا ومن كان كذلك فلستماه - واشار الى السيد والعاقب - ، انكما- ويمين الله- لمحجوجان بما أتاكما الله عزوجل من ميراث الحكمة، واستودعكما من بقايا الحُجّة ، ثم بما أوجبب

لكما من الشرف والمنزلة في الناس ، فقد جعل الله عز وجل من أتاه سلطاناً ملوكاً للناس وارباباً، وجعلكما حكاماً وقواماً على ملوك ملتنا، وذادةً (مِنعةً) لهم يفزعون اليكما في دينهم، ولا تفزعان إليهم، وتأمرانهم فيأتمرون لكما، وحق لكل مَلِكٍ أو موطأ الاكناف ان يتواضع لله عز وجل إذ رفعه ، وان ينصح لله عز وجل في عباده، ولا يُدهِن في أمره ، وذكرتما محمداً بما حكمت له بالشهادات الصادقة، وبيّنه فيه الاسفار المستحفظة ، ورأيتماه مع ذلك مرسلا الى قومه لا إلى الناس جميعا!!؟ وان ليس  بالخاتم الحاشر (الحاشر من اسماء النبي صلى الله عليه وآله لانه يحشر الناس ممن على دينه خلفه)، ولا الوارث العاقب، ألأنكما زعمتماه أبترأ ليس كذلك ؟ قالا : نعم .

 قال : أرأيتكما لو كان به بقيةٌ وعقب، هل كنتما تمتريان لما تجدان، وبما تذكران من الوراثة والظهور على النواميس انه النبي الخاتم والمرسل الى كافة البشر ؟

 قالا : لا !.

 قال : أفليس هذا القيل لهذه الحال، مع طول اللوائم والخصائم عندكما مستقرا ؟

قالا : أجل . قال : الله أكبر .

 قالا : كبرت كبيرا فما دعاك الى ذلك ؟

قال حارثة : الحق أبلج والباطل لجلج ، وَلَنَقلُ ماء البحر، ولَشَقُّ الضحر، أهون من اماتة ما أحياه الله عزوجل،  واحياء ما أماته الان ، فاعلما أن محمدا غير أبتر، وانه الخاتم الوارث، والعاقب الحاشر حقاً ، فلا نبيَّ بعده، وعلى امته تقوم الساعة ، ويرث الله الأرض ومن عليها، وان من ذريته الأمير الصالح الذي بيّنتما ونبأتما انه يملك مشارق الأرض ومغاربها، ويظهره الله عز وجل بالحنيفية الابراهيمية على النواميس كلها[ يعني: الامام المهدي عليه السلام].

 قالا : أولى لك يا حارثة لقد أغفلناك (أعيانا أمرك)، وتأبى الا مراوغةً كالثعالبة، فما تسأم المنازعة، ولا تمل من المراجعة ، ولقد زعمت مع ذلك عظيماً فما برهانك به ؟.

 قال : أما وجدِّكما، لَأُنبّئكما ببرهان يجير من الشبهة، ويشفى به جوى الصدور .

 ثم أقبل على أبى حارثة حصين بن علقمة شيخهم وأسقفهم الأول ، فقال : ان رأيت أيها الاب الاثير ان تؤنس قلوبنا وتثلج صدورنا، باحضار الجامعة والزاجرة .

 قالوا : وكان هذا المجلس الرابع من اليوم وذلك لما خلقت (ارتفعت) الأرض وركدت الشمس، وفى زمن قيظ (الصيف الحار) شديد ، فاقبلا على حارثة ، فقالا : أُرجُ هذا الى غد فقد بلغت القلوب منا الصدور. فتفرقوا على احضار الزاجرة والجامعة من غد للنظر فيهما والعمل بما يتراءان منهما.

 فلما كان من الغد؛ صار أهل نجران الى بِيعتهم لاعتبار ما أجمع صاحباهم مع حارثة على اقتباسه وتبينه من الجامعة ، ولما رأى السيد والعاقب اجتماع الناس لذلك قُطِعَ بهما (عَجَزا)، لعلمها بصواب قول حارثة، واعترضاه ليصدّانه عن تصفح الصحف على أعين الناس، وكانا من شياطين الانس .

 فقال السيد : انك قد أكثرت وأمللت، قض الحديث لنا مع قَصّه(قطعه)، وَدَعْنا من تبيانه .

 فقال حارثة : وهل هذا الا منك وصاحبك ، فمن الآن فقولا ما شئتما .

 فقال العاقب : مامن مقال إلا قلنا، وسنعود فنخبر بعض ذلك تخبيراً غير كاتمين لله عز وجل من حجة، ولا جاحدين له آية، ولا مفترين مع ذلك على الله عزوجل لعبد انه مرسل منه، وليس برسوله ، فنحن نعترف يا هذا بمحمد صلى الله عليه وآله انه رسول من الله عزوجل الى قومه من بنى اسماعيل عليهم السلام في غير ان تجب له بذلك على غيرهم من عرب الناس ولا اعاجمهم تباعة ولا طاعة بخروج له عن ملة ولا دخول معه في ملة، الا الاقرار له بالنبوة والرسالة الى اعيان قومه ودينه !!.[ بالرغم من أنهما يشهدان بنبوة النبي محمد (ص)، ولكنهما يصرّان على إدّعائهما أنه مبعوث الى قومه خاصة، وليس للعالم أجمع، بدون دليل لديهم، مع مخالفةٍ صريحةٍ  لقول النبي (ص) انه مبعوث للناس كافّة، أَوَليس ذلك تكذيب للأنبياء؟؟!]

 قال حارثة : وبِمَ شهدتما له بالنبوة والأمر ؟

 قالا : حيث جائتنا فيه البيّنة من تباشير الأناجيل والكتب الخالية .

 فقال : منذ وجب هذا لمحمد صلى الله عليه وآله عليكما في طويل الكلام وقصيره، وبدئه وعوده ، فمن أين زعمتها انه ليس بالوارث الحاشر، ولا المرسل الى كافة البشر ؟

 قالا : لقد علمت وعلمنا فما نرى بان حجة الله عزوجل لم ينته أمرها، وأنها كلمة لله جارية في الاعقاب ما اعتقب الليل والنهار، وما بقى من الناس شخصان، وقد ظننا من قبل ان محمدا صلى الله عليه وآله ربها، وانه القائد بزمامها ، فلما اعقمه وجل الباقية ونبيه الخاتم، بشهادة كتب الله عزوجل المنزلة ليس بأبتر ، فإذا هو نبيّ يأتي ويخلد بعد محمد صلى الله عليه وآله، اشتق اسمه من اسم محمد وهو احمد، الذي نبّأ المسيح عليه السلام باسمه وبنبوته ورسالته الخاتمة، ويملك ابنه[الامام المهدي(ع)] القاهرة الجامعة للناس جميعاً، على ناموس الله عزَّ وجلَّ الأعظم، ليس بمظهرة دينه ولكنه من ذريته وعقبه، يملك قرى الأرض وما بينهما من لوب (الحرة من الأرض ذات أجمر سود) وسهل وصخر وبحر، ملكا مورثا موطئا (مهيّئاً) وهذا نبأ احاطت سفرة الاناجيل به علما، وقد أوسعناك بهذا القيل سمعا، وعدنا لك به آنفة بعد سالفة فما إربَك (حاجتك) الى تكراره ؟!

 قال حارثة : قد اعلم انا واياكما في رجع من القول منذ ثلاث، وما ذاك الا ليذكر ناس، ويرجع فارِط (مقصّر)، وتظهر لنا الكلم،  وذكرتما نبيين يبعثان، يعتقبان بين مسيح الله عز وجل والساعة، قلتما وكلاهما من بنى اسماعيل ، أولهم محمد بيثرب، وثانيهما احمد العاقب ، واما محمد صلى الله عليه وآله اخو قريش هذا القاطن بيثرب فآياته حق، مؤمن أجل، وهو – والمعبود- احمد الذي نبأت به كتب الله عز وجل، ودلت عليه آياته، وهو حجة الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله الخاتم الوارث حقاً، ولا نبوة ولا رسول لله عزوجل ولا حجة بين ابن البتول والساعة غيره ، بلى وما كان منه من ابنته البتولة البهلولة (السيدة الجامعة لكل خير) الصِدّيقة فآمنتما ببلاغ الله، لكنكما من نبوة محمد صلى الله عليه وآله في أمر مستقر ، ولولا انقطاع نسله لما ارتبتما فيما زعمتما به انه السابق العاقب ؟ قالا : أجل ان ذلك لمن أكبر اماراته عندنا .

 قال : فأتنما والله فيما تزعمان من نبيّ ثان من بعده في أمر ملتبس، والجامعة يحكم في ذلك بيننا ، فتنادى الناس من كل ناحية وقالوا : الجامعة يا ابا حارثة الجامعة ، وذلك لِما مسّهم في طول تحاور الثلاثة من السأمة والملل ، وظن القوم مع ذلك ان الفلج (ظهور الحجة) لصاحبيهما، لِما كانا يدّعيان في تلك المجالس من ذلك ، فأقبل أبو حارثة الى عِلج (رجل من كفار العجم) واقف منه فقال : امض يا غلام فأتِ بهما ، فجاء بالجامعة يحملها على رأسه وهو لا يكاد يتماسك بها لثقلها .

الجامعة فيها ذكر وأوصاف النبي محمد (ص)

 قال : فحدثني رجل صدق من النجرانية ممن كان يلزم السيد والعاقب، ويخف لهما في بعض امورهما، ويطّلع على كثير من شأنهما ، قال : لما حضرت الجامعة بلغ ذلك من السيد والعاقب كل مبلغ، لعلمهما بما يهجمان عليه في تصفحهما من دلائل رسول الله صلى الله عليه وآله وصفته، وذكر أهل بيته وازواجه وذريته، وما يحدث في امته واصحابه من بوائق الأمور من بعده الى فناء الدنيا وانقطاعها . فأقبل أحدهما على صاحبه فقال : هذا يوم ما بورك لنا في طلوع شمسه ، لقد شهدته اجسامنا، وغابت عنه آراؤنا بحضور طغاتنا وسفلتنا!!، ولقلَّ ما شهد سفهاء قوم مجمعة الا كانت لهم الغلبة!. قال الاخر : فهم شر غالب لمن ان احدهم ليفيق بأدنى كلمة، ويفسد في بعض ساعة مالا يستطيع الاسى الحليم له رتقا، ولا الخولي (الراعى الحسن القيام على المال) النفيس اصلاحا له في حول محرم له ذلك ، لان السفيه هادم، والحليم بانٍ، وشتان بين البناء والهدم ..

 قال : فانتهز حارثة الفرصة فارسل في خُفية وسر الى النفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فاستحضرهم استظهاراً بمشهدهم ، فحضروا، فلم يستطع الرجلان فض ذلك المجلس ولا إرجاؤه ، وذلك لما بينّا من تطلع عامتها من نصارى نجران الى معرفة ما تضمنت الجامعة من صفة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وانبعاث له مع حضور رسل رسول الله صلى الله عليه وآله لذلك، وتأليب  حارثة عليهما فيه، وصفو (ميل) أبى حارثة شيخهم إليه .

 قال : قال لى ذلك الرجل النجرانى ، فكان الرأى عندهما ان ينقادا لما يدهمهما من هذا الخطب، ولا يُظهران

شماسا (منعاً) منه ولا نفورا ، حذار ان يطرقا الظنة فيه اليهما، وأن يكونا ايضا أول معتبرٍ للجامعة، ومستحثٍّ لهما، لئلا يفتات (يهدم) في شئ من ذك المقام والمنزلة عليهما، ثم يستبين أن الصواب في الحال، ويستنجدانه ليأخذان بموجبه، فتقدما لما تقدم في أنفسهما من ذلك الى الجامعة، وهى بين يدى أبى حارثة ، وحاذاهما حارثة بن اثال وتطاولت اليهما فيه الاعناق ، وحفت رسل رسول الله صلى الله عليه وآله بهم ، فأمر أبو حارثة بالجامعة فَفُتح طرفها، واستخرج منها صحيفة آدم الكبرى المستودعة علم ملكوت الله عز وجل جلاله، وما ذرء وما برء في ارضه وسمائه، وما وصلهما جل جلاله من ذكر عالميه ، وهى الصحيفة التي ورثها شيث من أبيه آدم عليه السلام، عما دعا من الذكر المحفوظ . فقرء القوم السيد والعاقب وحارثة في الصحيفة تصلباٍ لما تنازعوا فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وصفته، ومن حضرهم يومئذ من الناس إليهم، مضجون مرتقبون لما يستدرك من ذكرى ذلك ، فألفوا في المسباح الثاني من فواصلهما : بسم الله الرحمن الرحيم انا الله لا اله الا أنا الحي القيوم ، معقب الدهور، وفاصل الامور ، سبقت بمشيتي الاسباب، وذللت بقدرتي الصعاب ، فانا العزيز الحكيم الرحمان الرحيم ، ارحم ترحم ، سبقت رحمتى غضبي، وعفوي عقوبتي ، خلقت عبادي لعبادتي، وألزمتهم حجتي ، الا اني باعث فيهم رسلي، ومنزل عليهم كتبي ، ابرم ذلك من لدن اول مذكور من بشر الى احمد نبيي وخاتم رسلي ، ذاك الذي اجعل عليه صلواتي، واسلك في قلبه بركاتي، وبه أكمل انبيائي ونذري .

 قال آدم عليه السلام : إلهي مَن هؤلاء الرسل، ومن احمد هذا الذي رَفعتَ وشرّفت ؟

 قال : كلٌّ من ذريتك، واحمد عاقبهم . قال : ربِّ بِما أنتَ باعثهم ومرسلهم ؟

 قال : بتوحيدي ، ثم أُقفّي ذلك بثلثمائة وثلاثين شريعة ، أنظمها وأكملها لأحمد جميعا، فاذنت لمن جاءني بشريعةٍ منها مع الايمان بى وبرسلي، أن أُدخِله الجنة .

 ثم ذكر ما جملته : ان الله تعالى عرض على آدم عليه السلام معرفة الانبياء عليهم السلام وذريتهم ونظرهم آدم . ثم قال ماهذا لفظه : ثم نظر آدم عليه السلام الى نور قد لمع فسدَّ الجو المنخرق ، فأخذ بالمطالع من المشارق، ثم سرى كذلك حتى طبق المغارب، ثم سمى حتى بلغ ملكوت السماء ، فنظر فإذا هو نور محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وإذا الاكناف به قد تضوعت طيبا (انتشرت رائحته) وإذا انوارٌ اربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه، اشبه شيءٍ به أرِجاً (طيبا) ونوراً،  ويتلوها انوار من بعدها تستمدُّ منها ، وإذا هي شبيه بها في ضيائها وعِظَمِها ونشرها ، ثم دنت منها فتكللت (احاطت) عليها، وحفّت بها، ونظر ، فإذا انوار من بعد ذلك في مثل عدد الكواكب، ودون منازل الاوائل جداً جداً ، وبعض هذه أضوء من بعض، وهى في ذلك متفاوتون جداً ، ثم طلع عليه سواد كالليل، وكالسيل ينسلون من كل وجهة وارب ، فأقبلوا كذلك حتى ملؤوا القاع (المستوي من الأرض) والأُكُم (التلال)، فإذا هم أقبح شئ صوراً وهيئة، وانتنه ريحاً . فبهر آدم عليه السلام ما رأى من ذلك وقال : يا عالم الغيوب، وغافر الذنوب، وياذا القدرة القاهرة، والمشيّة الغالبة، مَن هذا الخلق السعيد الذي كرّمت ورفعتَ على العالمين، ومَن هذه الأنوار المنيفة المكتنفة له ؟

 فأوحى الله عزو جل إليه : يا آدم هذا وهؤلاء وسيلتك ووسيلة من أسعدتُ من خلقي ، هؤلاء السابقون المقربون، والشافعون المُشَفَّعون ، وهذا أحمد سيّدهم وسيّد بريّتى ، إخترته بعلمي، واشتققت اسمه من اسمى ، فانا المحمود وهو محمد ، وهذا صنوه (اخوه) ووصيه ، آزرته به، وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه ، وهذه سيدة إمائى، والبقية في علمي من أحمد نبيي ، وهذان السبطان والخلفان لهم ، وهذه الأعيان المضارع نورها انوارهم بقية منهم ، ألا أن كُلّا اصطفيتُ وطهّرتُ، وعلى كلٍّ باركتُ وترحمّتُ ، فكلاً بعلمي جعلت قدوة عبادي، ونور بلادي . ونظر فإذا شبح في آخرهم يزهر في ذلك الصفيح (السماء ووجه كل شئ عريض) كما يزهر كوكب الصبح لأهل الدنيا ، فقال الله تبارك وتعالى : وبعبدي هذا السعيد أَفُـكُّ عن عبادي الاغلال، وأضَع عنهم الآصار (الذنوب)، أرضي به حنانا ورأفة وعدلا، كما مُلأت من قبله قسوة وقشعرية وجورا .

قال آدم عليه السلام : ربِّ ان الكريمَ مَن كرّمت، وان الشريفَ مَن شرّفت ، وحق يا الهي لمن رفعتَ وأعليتَ ان يكون كذلك ، فيا ذا النعم التي لا تنقطع، والاحسان الذي لا يجازى ولا ينفد ، بِمَ بلغ عبادك هؤلاء العالون هذه المنزلة من شرف عطائك، وعظيم فضلك وحبائك ، وكذلك مَنْ كرّمت من عبادك المرسلين ؟

 قال الله تبارك وتعالى : انى أنا الله لا اله الا أنا الرحمان الرحيم العزيز الحكيم، عالم الغيوب ومضمرات القلوب ، أعلم ما لم يكن مما يكون كيف يكون ، وما لا يكون كيف لو كان يكون ، وانى اطلعت يا عبدي في علمي على قلوب عبادي، فلم أر فيهم اطوع لي، ولا انصح لخلقي من أنبيائي ورسلي ، فجعلت لذلك فيهم روحي وكلمتي، وألزمتهم  حجتي، واصطفيتهم على البرايا برسالتي ووليي ، ثم ألقيتُ بمكانتهم تلك في منازلهم حوامهم (أقربائهم)، وأوصيائهم من بعدي، ودائع حجتي، والسادة في بريتي ، لأجبر بهم كسر عبادي، واقيم بهم أودَهم ذلك ، إنّي بهم وبقلوبهم لطيف خبير ، ثم اطّلعت على قلوب المصطفين من رسلي ، فلم اجد فيهم أطوع ولا أنصح لخلقي من محمد خيرتي وخالصتي ، فاخترته على علم، ورفعت ذكره الى ذكري ، ثم وجدت قلوب حامّته (قرابته) اللاتي من بعده على صبغة قلبه، فألحقتهم به، وجعلتهم ورثة كتابي ووحيي، وأوكار حكمتي ونوري ، وآليت (حلفت) بي ألّا اعذب بناري من لقيني معتصما بتوحيدي، وجعل مودتهم ابداً .

 ثم امرهم أبو حارثة ان يصيروا الى صحيفة شيث الكبرى التي انتهى ميراثها الى ادريس النبي عليه السلام ، قال : وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم ، وهو الذي كَتب به من بعد نوح عليه السلام من ملوك الهاطلة (جنس من الترك والهند كانت لهم شوكة) وهم النمادرة ، قال : فاقتص القوم الصحيفة وأفضوا منها الى هذا الرسم .

 قال : اجتمع الى ادريس عليه السلام قومه وصحابته ، وهو يومئذ في بيت عبادته م