كان ذلك المرسوم إنصافاً ضرورياً لمذهب أهل البيت عليهم السلام وإنهاءً لظلمهم وسلب حريتهم في ممارسة مذهبهم وإجبارهم على مذهب الخليفة !
والنقطة الإيجابية الثانية فيه : أنه كان كسراً للتعتيم العباسي الجائر على مذهبهم ومنع الأمة من التعرف على أئمة العترة النبوية وعلومهم وسيرتهم العطرة ، وأنهم هم أهل البيت النبوي وآل النبي وعترته المطهرون الذين أوصى بهم صلى الله عليه وآله ، وليس زوجات النبي صلى الله عليه وآله وبني العباس كما أشاع إعلام الخلافة !
ولهذا تنفس الشيعة الصعداء وفرحوا في كافة البلاد كما نص المؤرخون ، وكما نقرأ في قصيدة ابن الحسام العاملي التي رواها الصفدي في الوافي : 2 / 129 قال : ( السلطان خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن جنكز خان المغلي القان غياث الدين خدابندا ، معناه عبد الله وإنما الناس غيروه وقالوا خربندا ، صاحب العراق وأذربيجان وخراسان ، ملك بعد أخيه غازان وكانت دولته ثلاث عشرة سنة... وكان مسلماً فما زال به الإمامية إلى أن رفَّضوه وغيَّر شعار الخطبة وأسقط ذكر الخلفاء من الخطبة سوى علي رضي الله عنه... ولما تشيع السلطان خدابندا المذكور قال جمال الدين إبراهيم بن الحسام المقيم بقرية مجدل سلم من بلاد صفد يمدحه :
أهدي إلى ملك الملوك دعائي *** وأخصُّه بمـدايحي وثنائي
وإذا الورى والَوْا ملوكاً غيره *** جهلاً ففيه عقيدتي وولائي
هذا خدابندا محمـدٌ الـذي *** سادَ الملوكَ بدولة غرَّاء
ملكُ البسيطة والـذي دانت *** له أكنافُها طوعاً بغير عناء
أغنتك هيبتُك التي أعطـيتها *** عن صارم أو صَعدةٍ سمراء
ولقد لبستَ من الشجاعة حُلةً *** تغنيك عن جيش ورفع لواء
ملأ البسيطة رغـبةً ومهـابةً *** فالناس بين مخافة ورجاء
من حوله عُصَبٌ كآساد الشرى *** لا يرهبون الموت يوم لقاء
وإذا ركبت سرى أمامك للعدى *** رعبٌ يقلقلُ أنفس الأعداء
ولقد نشرتَ العدل حتى أنه *** قد عمَّ في الأموات والأحياء
فلْيُهْن ديناً أنت تنصرُ مُلكه *** وطبيبَه الداري بحَسْم الداء
نبَّهته بعد الخمول فأصبحت *** تعلو بهمته على الجوزاء
وبسطت فيه بذكر آل محمد *** فوق المنابر ألْسُنَ الخطباء
وغدَتْ دراهمك الشريفة نقشُها *** باسم النبيِّ وسيِّد الخلفاء
ونقشتَ أسماء الأيمة بعده *** أحْسِنْ بذاك النقش والأسماء
ولقد حفظتَ عن النبي وصيةً *** ورفعتَ قرباهُ على القرباء
فابشرْ بها يوم المعاد ذخيرةً *** يُجْزيكَهَا الرحمنُ خيرَ جزاء
يا ابن الأكاسرة الملوك تقدموا *** وورثتَ ملكهم وكل علاء ) انتهى .
والنقطة الثالثة : أن هذا المرسوم فتح الباب رسمياً أمام فكر أهل البيت عليهم السلام بأصالته وشموله وقوته ، فشقت أحاديث أهل البيت وسيرتهم عليهم السلام طريقها بقوة وجاذبية ! ومؤلفات علماء مذهبهم ، خاصة مؤلفات المرجعين العبقريين نصير الدين والعلامة الحلي رحمهما الله ، واحتلت مكان الصدارة والإعجاب في حواضر العالم الإسلامي ، وعند كبار علماء المذاهب .
وقد بخلت مصادر التاريخ بأكثر أخبار هذه الفترة ، لأنه جاءت بعدها موجة حكم الشراكسة والعثمانيين ، المعادين للشيعة الحريصين على تشويه تاريخهم ! وسترى مدى ظلم مؤرخيهم لعهد السلطان المتشيع وابنه بو سعيد !
والنقطة الرابعة : أن هذا المرسوم ضمنَ تطبيق سياسة المذهب الشيعي في توفير الحرية لكل المذاهب ، وهو ما لا يستطيع توفيره غيره !
كما ضمن الإنفتاح العلمي على التطوير والإعمار ، وهو ما يتميز به المذهب الشيعي عن غيره ، فإن نظرة الى الإعمار والخدمات والتقدم الإقتصادي الذي تحقق للعراق في ظل الحكم الشيعي ، وإحصائية بسيطة لعدد العلماء والمؤلفات في ذلك العهد وما بعده ، تضع يدنا على سعة ما قام به ذلك السلطان الشيعي بل المحقق الطوسي والعلامة الحلي وتلاميذهم ، وما أثمرته مشاريعهم على مدى العالم الإسلامي .
مضمون مرسوم السلطان محمد خدابنده وأبعاده
شمل المرسوم السلطان محمد خدابنده بتبني مذهب التشيع : العراق بكامله والخليج واليمن ، وإيران بكاملها ، وما وراء النهر أي بلاد آسيا الوسطى ، وتركيا التي كانت تسمى بلاد الروم .
أما وقته فتدل النصوص على أن مرسوم السلطان كان في أول توليه السلطة ، فكان استكمالاً لعمل أخيه السلطان قازان ، فهو المفهوم من قول الشيخ البهائي في توضيح المقاصد / 27 : ( فيه ( شهر شوال ) سنة ثلاث وسبع مائة توفي السلطان محمود غازان ، وكان له ميل تام إلى التشيع ولكنه لم يتمكن من إظهاره ، وإنما أظهر أخوه السلطان محمد شاه خدابنده أنار الله برهانه ) .
وفي الذريعة : 3 / 270 : ( وحكى القاضي في مجالس المؤمنين عن تاريخ غازاني هذا سبب استبصار الأخوين السلطان محمود غازان وشاه خدا بنده محمد وإثبات تشيعهما وولائهما لأهل البيت عليهم السلام بنوع يظهر منه ارتضاؤه لطريقتهما ) .
وفي مقدمة طبعة مختلف الشيعة : 1 / 111 : ( فتشيع الملك ( قازان ) وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا للأئمة الإثني عشر عليهم السلام في الخطبة ويكتبوا أساميهم عليهم السلام في المساجد والمعابد . والذي في أصبهان موجود الآن في الجامع القديم الذي كتب في زمانه في ثلاث مواضع ، وعلى منارة دار السيادة التي تممها سلطان محمد بعد ما أحدثها أخوه غازان أيضاً موجود . وفي محاسن أصفهان موجودٌ أن ابتداء الخطب كان بسعي بعض السادات إسمه ميرزا قلندر ، ومن المعابد التي رأيت معبد بير بركان الذي في لنجان بنيَ في زمانه ، الأسامي موجودة الآن ، وكذا في معبد قطب العارفين نور الدين عبد الصمد النطنزي الذي له نسبة إليه من جانب الأم موجود الآن ) 1 .
ولم تذكر المصادر نص المرسوم ، بل ذكرت مضمونه وأنه أمرَ بحذف اسم أبي بكر وعمر من خطبة الجمعة ، أي ما كان فرضه المنصور العباسي على المسلمين ! فأمر خدابنده أن يُحذف ويثبت بدله إسم علي والأئمة الأحد عشر من ولده عليهم السلام ، فثارت ثائرة أتباع الخلافة ورفعوا عقيرتهم بأنه حدثٌ كبير خطير وبدعةٌ في الدين ! وبكوا وناحوا من أجله ! مع أنه ليس أكثر من استبدال إسم صحابيين باسماء العترة النبوية الذين هم صحابة وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله !
والأمر الثاني ، الذي ذكرته المصادر من عمل السلطان خدابنده ، أنه كتب أسماء الأئمة الإثني عشر عليهم السلام على العملة الذهبية والفضية .
والأمر الثالث ، أنه أنشأ في عدد من المناطق داراً باسم ( دار السيادة ) لخدمة السادة من ذرية النبي صلى الله عليه وآله من أبناء علي وفاطمة صلى الله عليه وآله وهي مؤسسات اجتماعية تهتم بمعيشتهم وتعليمهم وحل مشاكلهم .
والأمر الرابع ، أنه أعاد ( حَيَّ على خير العمل ) الى الأذان ، وهذه الفقرة لها أهمية وتاريخ ، فقد حذفها عمر بن الخطاب من الأذان وهدد من يقولها ، وأصرَّ عليها أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم عبر العصور ، حتى علامةًً للشيعة والزيدية وشعاراً الثورة على نظام الخلافة ، ولذا خصنناها بعنوان !
والأمر الخامس ، أن السلطان عمَّمَ مصادر مذهب أهل البيت عليهم السلام ونشر كتب علمائه ، خاصة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي ، وقد نص المؤرخون على أن كتب العلامة الحلي قدس سره انتشرت في حياة مؤلفها ، وهذا نادراً ما يحصل .
قال الصفدي في الوافي : 13 / 54 : ( الحسن بن يوسف بن المطهر الإمام العلامة ذو الفنون ، جمال الدين ابن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي ( ! ) عالم الشيعة ، وفقيههم ، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته . تقدم في دولة خربندا تقدماً زائداً ، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيدة ، وكان يصنف وهو راكب ! شرَحَ مختصر ابن الحاجب ، وهو مشهور في حياته ) . انتهى.
وأكثر كتاب اشتهر منها في حياة مؤلفه كتاب تجريد الإعتقاد للمحقق الطوسي قدس سره وقد شرحه علماء من مذاهب مختلفة ، كما اشتهر كتاب شرح ابن الحاجب في أصول الفقه للعلامة الحلي قدس سره وفرض نفسه بسرعة كتاب تدريس في مدارس المذاهب الأربعة في مختلف البلاد ، ثم اشتهر كتابه منهاج الكرامة الذي أثار حفيظة المتعصبين كابن تيمية ، فرد عليه بكتاب سماه الرد على الرافضي ، ثم سموه له من بعده : منهاج السنة ! ولا بد أن مصادر مذهب أهل البيت الأساسية كالكافي وكتب الفقه وسيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد انتشرت في أنحاء البلاد يومذاك .
أما ما عدا ذلك من الأوضاع الثقافية والدينية فلم تمسه السلطة الشيعية ، بل أبقت المدرسة النظامية والمستنصرية للمذاهب الأربعة ولم تضف اليها تدريس المذهب الشيعي ، وكذلك أبقت المدارس والمساجد السنية بأيديهم ، بل روت المصادر أنه كانت تبنى مدارس جديدة تابعة للمذاهب .
وكذلك جهاز القضاء بقي كما كان ، لكن من الطبيعي أن يمنع فرض قضاة سنة على مناطق الشيعة ، كما كان يحصل في الدولة العباسية .
أضواء على حذف ذكر الشيخين من خطبة الجمعة
أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله أن يأمر أمته بأن يصلوا عليه في صلاتهم ويقرنوا معه آله و عترته ، فيصلون عليهم معه صلى الله عليه وآله وروت ذلك أصح المصادر عند الجميع .
كما أوحى تعالى الى نبيه صلى الله عليه وآله أن يوصي أمته بالقرآن والعترة عليهم السلام بعده ويقرنهما معاً . لكن القرشيين أطاعوا في صلاتهم فصلوا على النبي وعلى آله صلى الله عليه وآله ، وابتدعوا في غيرها قَرْنَ زعمائهم بالنبي صلى الله عليه وآله عند الصلاة عليه !
وهكذا رفعوا شعار ( صحابة النبي ) مقابل الشعار النبوي : ( أهل بيت النبي عليهم السلام ) !
ثم أضاف معاوية إلى صلاة الجمعة أن يذم الخطيب علي بن أبي طالب وأولاده عليهم السلام ويلعنهم في خطبته ، حتى ألغى مرسومه عمر بن عبد العزيز بعد نصف قرن ، لكن اللعن استمر بشكل وآخر إلى آخر دولة بني أمية !
ثم اختلف الخليفة العباسي المنصور الدوانيقي مع حلفائه الحسنيين ، فثاروا عليه فأراد أن يغيظ العلويين ويرغم أنفهم وأنف نفسه كما قال ! فأمر بمدح أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة والدعاء للخليفة ! وكان ذلك في أواسط القرن الثاني. قال العلامة الحلي قدس سره في نهج الحق وكشف الصدق / 449 ، وهو الكتاب الذي ألفه عن عقائد الشيعة بطلب من السلطان خدابنده رحمه الله :
( ذهبت الإمامية إلى أن الجمعة يجوز فعلها في الصحراء مطلقاً . وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا في نفس المصر أو في موضع يصلى فيه العيد . وقال مالك : لا تصح الجمعة إلا في الجامع . وقد خالفا عموم القرآن . وقد ظهر من هذه المسائل للعاقل المنصف أن الإمامية أكثر إيجاباً للجمعة من الجمهور ومع ذلك يشنعون عليهم تركها حيث إنهم لم يجوزوا الإئتمام بالفاسق ومرتكب الكبائر والمخالف في العقيدة الصحيحة ، وأنهم لا يجوٍّزون الزيادة في الخطبة التي خطبها النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه والتابعون إلى زمن المنصور ) .
وقال العلامة قدس سره في منهاج الكرامة / 69 : ( فانظر إلى من يغير الشريعة ويبدل الأحكام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله ويذهب إلى ضد الصواب معاندة لقوم معينين هل يجوز اتباعه والمصير إلى أقواله ؟ مع أنهم ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة وأن النبي صلى الله عليه وآله قال : كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار ! وقال صلى الله عليه وآله : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ! كذكر الخلفاء في خطبتهم مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شئ أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية فقال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته ! واستمرت هذه البدعة الى هذا الزمان ) . انتهى.
أقول : على ضوء هذه الحقائق يكون مرسوم السلطان محمد رحمه الله تصحيحاً لتحريف سنة النبي صلى الله عليه وآله ، وحذفاً لما ابتدعوه واستدركوه على رسول الله صلى الله عليه وآله !
وقد شهد بعض علمائهم بأن ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة بدعة ، قال المقريزي في الإمتاع : 11 / 3 : ( قال الشيخ محي الدين أبو زكريا النووي : واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء ( كالصحابة ) تبعاً لهم في الصلاة ، ثم ذكر هذه الكيفية وقال : الأحاديث الصحيحة في ذلك ، وقد أمرنا به في التشهد ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضاً . قالوا : ومنه الأثر المعروف عن بعض السلف : اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين ، وأهل طاعتك أجمعين ، من أهل السماوات والأرضين .
وأجيب : بأن ادعاء الإتفاق غير معلوم الصحة ، فقد منع جماعة الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام مفردة وتابعة كما تقدم ، فمن جعل الإتفاق ؟
وهذا التفصيل الذي ذكرتموه وإن كان معروفاً عن بعضهم في أصلهم بقوله : بل يمنعه ، وهب أنا نجوز الصلاة على أتباعه بطريق التبعية له ، فمن أين يجوز إفراد المقرّ أو غيره بالصلاة عليه إستقلالاً ؟! ودعواكم أن الأحاديث صحيحة في ذلك غير مسلم بها ، فأين تجدون في الأحاديث الصحيحة الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وآله وأزواجه وذريته حتى قلتم ( والصحابة ) ؟ فليس فيما ذكر الصحابة ولا الأتباع ، وكذا قولكم وقد أمرنا به في التشهد ، فما أمرنا في التشهد إلا بالصلاة على آله وأزواجه وذريته فقط دون من عداهم ، أوجدونا ، ولن تجدوه أبداً ) .انتهى.
وقد هاجم الحافظ المحدث عبد الله الصديق الغماري المغربي ، المحدث الوهابي ناصر الألباني وحكم عليه بأنه مبتدعٌ ، لأمور منها أنه يضيف الصحابة في صلاته على النبي صلى الله عليه وآله . وكتب المغربي رسالة سماها : ( القول المقنع في الرد على الألباني المبدع ) قال فيها : ( وننبه هنا على خطأ وقع من جماهير المسلمين قلد فيه بعضهم بعضاً ولم يتفطن له إلا الشيعة ! ذلك أن الناس حين يصلون على النبي صلى الله عليه وآله يذكرون معه أصحابه ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله حين سأله الصحابة فقالوا : كيف نصلي عليك ؟ أجابهم بقوله : قولوا : اللهم صل على محمد وآل محمد . وفي رواية : على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم . ولم يأت في شئ من طرق الحديث ذكر أصحابه ! مع كثرة الطرق وبلوغها حد التواتر ! فذكر الصحابة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله زيادة على ما علمه الشارع واستدراكٌ عليه وهو لا يجوز ! وأيضاً فإن الصلاة حق للنبي ولآله صلى الله عليه وآله ، ولا دخل للصحابة فيها ، لكن يترضى عنهم ) .انتهى. ورد عليه الألباني في مقدمة سلسلة الأحاديث الضعيفة : 3 / 8 ، رداً أطال فيه صفحات ، لكنه لم يأت بطائل !
على أن أتباع الخلافة يحرِّمون مثل هذه البحوث ، لأنهم يريدون أن يكون مقام الصحابة فوق مقام أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله بدون أن يناقش فيه أحد !
بل لا يرضون بتفسير آيات القرآن في توبيخ الصحابة ، ولا برواية أحاديث النبي صلى الله عليه وآله الصريحة في ذمهم !
اخترع المنصور الترضي على أبي بكر وعمر في الخطبة
تحالف العباسيون مع الحسنيين في الثورة على بني أمية ، وكانوا أتباعاً لهم فقد بايعوا محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى ، وكان المنصور يأخذ بركابه ، ثم استطاع العباسيون أن يتفقوا مع قائد الثورة أبي مسلم الخراساني ويعزلوا الحسنيين عن القيادة ، فغضب الحسنيون وثاروا عليهم واحتلوا اليمن والحجاز والبصرة ، وقاد إبراهيم بن عبدالله بن الحسن سبعين ألف مقاتل نحو الكوفة وكاد يحتلها ، وهيأ المنصور العباسي فرسه للهرب وهو يصيح : أين قول صادقهم ، يقصد أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أخبره بأنك ستملك ! في ذلك الوقت الحرج شاء الله أن يصيب قائد الجيش الحسني إبراهيم سهم طائر ويقتله فانفرط جيشه وانتصر العباسيون !
بعد هذا فكر المنصور العباسي أن يضرب أبناء علي عليه السلام كلهم ويأخذ منهم المرجعية الدينية للأمة ، بأن يؤسس مذهباً فقهياً وعقائدياً مقابل أئمة أهل البيت عليهم السلام . فأمر مالكاً إمام المذهب أن يؤلف كتاباً موطأًً أي سهلاً في الحديث والفقه ليلزم المسلمين به دون غيره ، وأصدر أمره بمنع أهل البيت من الفتوى فقال : لا يُفتين أحد ومالك في المدينة ! فألف مالك الموطأ .
ثم صعَّد المنصور الموقف ليغيض الحسنيين والعلويين عامة ، فتبنى تنقيص مكانة علي عليه السلام وتكبير مكانة أبي بكر وعمر ، وقال كلمته المشهورة : ( والله لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعديٍّ ، وذكَرَ الصحابة في خطبته واستمرت هذه البدعة الى هذا الزمان على حد تعبير العلامة الحلي قدس سره .
وبذلك غير العباسيون سياستهم مئة وثمانين درجة ، وتبنوا سياسة الأمويين التي ثاروا عليها مع الحسنيين بشعار يالثارات الحسين ، وشعار الدعوة الى الرضا من آل محمد والبراءة من بني أمية وظالمي آل محمد صلى الله عليه وآله !
وحرص المنصور على أن يبدأ بنفسه تطبيق ذلك فصلى الجمعة ومدح أبا بكر وعمر في خطبة الصلاة .
وعلَّم مالكاً إمام المذهب سياسته الجديدة وامتحنه فيها : قال ابن كثير في النهاية : 10 / 130 : ( قال مالك : قال لي المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله ؟ فقلت : أبو بكر وعمر . فقال : أصبت ، وذلك رأي أمير المؤمنين ) . انتهى.
بعدها كان مالك يظهر ندامته لأنه خالف سياسة المنصور الجديدة وكتب في موطئه أحاديث ذم الصحابة ، وذلك قبل أن يتبنى المنصور إمامة أبي بكر وعمر وروى في موطئه ( أحاديث الحوض ) التي تنص على أن الصحابة يدخلون النار ولا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النعم حسب تعبير بخاري . فكأنما لك يتأسف على ذلك لأن الكتاب انتشر في الناس ولا يمكنه حذف ذم الصحابة منه !
قال الصديق المغربي في فتح الملك العلي / 151 : ( حكي عن مالك أنه قال : ما ندمت على حديث أدخلته في الموطأ إلا هذا الحديث ! وعن الشافعي أنه قال : ما علمنا في كتاب مالك حديثاً فيه إزراء على الصحابة إلا حديث الحوض ، ووددنا أنه لم يذكره ) ! انتهى.
صارت بدعة المنصور ديناً عند أتباع بني أمية !
من يومها صار الغلو في أبي بكر وعمر وتنقيص حق أهل البيت عليهم السلام ديناً رسمياً ، تتولى الحكومة الناس عليه وتتبرأ منهم عليه ، وتكفِّر من لا يوافقها على رأيها فيهما وتهدر دمه ! وقد قتلوا ألوفاً مؤلفة من المسلمين عبر العصور من أجل أبي بكر وعمر ، وألبسوا جريمتهم ثوباً دينياً !
وهذا بالذات سبب بغضهم للسلطان خدابنده وعملهم لتشويه شخصيته رحمه الله . وهو نفسه سبب عقدة ابن تيمية من كتاب منهاج الكرامة ومؤلفه العلامة الحلي قدس سره ،قال في منهاجه : 4 / 165 : ( والرافضة شر من هؤلاء وهؤلاء ( النواصب والخوارج ) يبغضون أبا بكر وعمر وعثمان ويسبونهم بل قد يكفرونهم ، فكان ذكر هؤلاء وفضائلهم رداً على الرافضة . ولما قاموا في دولة خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي هذا الكتاب ، فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب أهل السنة والكتاب ، وعقدوا ألوية الفتنة وأطلقوا عنان البدعة ، وأظهروا من الشر والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد . وكان مما احتالوا به أن استفتوا بعض المنتسبين إلى السنة في ذكر الخلفاء في الخطبة هل يجب ؟ فأفتى من أفتى بأنه لا يجب ، إما جهلاً بمقصودهم وإما خوفاً منهم وتقية لهم ، وهؤلاء إنما كان مقصودهم منع ذكر الخلفاء ، ثم عوضوا عن ذلك بذكر علي والأحد عشر الذين يزعمون أنهم المعصومون . فالمفتي إذا علم أن مقصود المستفتي له أن يترك ذكر الخلفاء وأن يذكر الإثني عشر وينادي بحي على خير العمل ليبطل الأذان المنقول بالتواتر من عهد النبي ويمنع قراءة الأحاديث الثابتة الصحيحة عن رسول الله ( يقصد في فضل أبي بكر وعمر ) ويعوض عنها بالأحاديث التي افتراها المفترون ( يقصد في مدح أهل البيت عليهم السلام ) ويبطل الشرائع المعلومة من دين الإسلام ويعوض عنها بالبدع المضلة ، ويتوسل بذلك من يتوسل إلى إظهار دين الملاحدة الذين يبطنون مذهب الفلاسفة ويتظاهرون بدين الإسلام ، وهم أكفر من اليهود والنصارى ، إلى غير ذلك من مقاصد أهل الجهل والظلم الكائدين للإسلام وأهله ، لم يحلَّ للمفتي أن يفتي بما يجرُّ إلى هذه المفاسد . وإذا كان ذكر الخلفاء الراشدين هو الذي يحصل به المقاصد المأمور بها عند مثل هذه الأحوال ، كان هذا مما يؤمر به في مثل هذه الأحوال وإن لم يكن من الواجبات التي تجب مطلقاً ، ولا من السنن التي يحافظ عليها في كل زمان ومكان ) . انتهى.
فقد اعترف ابن تيمية بأن بعض فقهاء مذاهب الخلافة أفتوا بصحة مرسوم السلطان بحذف ذكر أبي بكر وعمر من خطبة الجمعة ، لأنه لا يوجد دليل على تشريع ذكرهما فيها ! لكن ابن تيمية رد فتواهم وأفتى بأن ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة واجب وإن لم يكن فيه تشريع ! وذلك لأجل حفظ دين الحكومات ومذاهبها والذي من أصوله العداء لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم !! 2 .
وختاماً ، تدل النكتة التالية على مبالغتهم في فرض الصحابة والشيخين على عوام المسلمين ! رواها منهم أبو حيان في البصائر والذخائر / 712 ، قال : ( قال بعض المغفلين وقد جرى ذكر الصحابة : أنا لا أعرف إلا الشيخين : الله والنبي ) ! 3 .
_____________
1. مجالس المؤمنين : 2 / 361 عن تاريخ الحافظ آبرو ، تحفة العالم : 1 / 176 ، خاتمة المستدرك : 460 إحقاق الحق 1 / 16 11 ، أعيان الشيعة 5 / 400 ، وغيرها .
2. راجع نقد السيد الميلاني لاستدل ابن تيمية على مشروعية بدعتهم ، في شرح منهاج الكرامة : 1 / 316 .
3. كيف رد الشيعة غزو المغول ( دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 218 ـ 231 .