علاقة المسلمين بالتراث تلفت أنظار العديد من الباحثين في المجالات الفكرية والدينية والتاريخية من خارج النطاق الإسلامي، وتشكل لهم ظاهرة تستقطب الانتباه في شدتها وتواصلها وفاعليتها، وبطريقة لا يجدوها عند باقي الأمم والمجتمعات التي تنتمي إلى ديانات وثقافات أخرى. فالمسلمون هم من أكثر الأمم تعلقا وارتباطاً وتواصلاً بالتراث، والذي يمثل العامل الأقوى تأثيراً في مجرى حياتهم الدينية والثقافية والاجتماعية.
والسؤال من أين جاءت مصدر القيمة للتراث عند المسلمين؟
معرفياً تتحدد قيمة التراث من حيث نشأته وتكوّنه في الإطار الزمني الإسلامي، من جهتين،
الأولى: من جهة علاقته بالوحي، الذي كان إطاراً مرجعياً وثيق الارتباط به. فالتراث الفكري والديني الإسلامي كان متصلاً ومتفاعلاً بمرجعية الوحي. ومن هذه الجهة ظهرت وتبلورت وتأسست أبرز وأهم وأثمن المعارف والعلوم والمنهجيات ذات النسق الإسلامي، مثل علوم القرآن والتفسير، وعلوم السنة والحديث، وعلوم الفقه وأصوله، وهكذا العقائد والإلهيات، التاريخ والسيرة، الأخلاق والسلوك إلى غيرها.
والجهة الثانية: هي علاقة التراث بالحضارة التي نهض بها المسلمون، وشهد لها العالم بالتقدم والتمدن. فالتراث الإسلامي تراث حضارة لها عبقريتها وابتكاراتها واكتشافاتها التي استفادت وتعلمت منها البشرية، بما في ذلك حضارة الغرب المعاصرة، بشهادة علمائها ومفكريها ومستشرقيها. ومن هذه الجهة ظهرت وتطورت ونمت علوم الفلك والجغرافيا والصيدلة والكيمياء والطب والحساب والجبر...إلى غير ذلك. وهي العلوم التي ساهم المسلمون في ارتقائها وتعريف العالم بها. وحسب قول المستشرق الألماني جوزيف شاخت (لا يكاد يوجد شيء من جهود المسلمين في ميدان العلوم لم يتأثر به الغرب بطريق أو بآخر).
الجهة الأولى تحدد الإطار الديني والمنظور الفكري والمعرفي، والجهة الثانية تحدد الإطار الزمني والمنظور التاريخي والحضاري. وهذا التصنيف لا يعني الفصل أو القطيعة بين هذين الإطارين أو الحقلين من المعارف والعلوم، لأن التصور الإسلامي يرتكز على الوحدة النسقية للعلوم، الناشئة من التصور التوحيدي والإلهي إلى العالم. والوحدة النسقية هي وراء ترابط العلوم وتفاعل علائقها وتداخل نظمها المعرفية وطرائقها المنهاجية.
وفي الغرب هناك من توصل إلى مثل هذه الفكرة، وهي في اصطلاح إدوارد ويلسون يطلق عليها (وحدة تناسق المعرفة) حيث اعتبر (إن السعي الأعظم للعقل كان وسيظل دائماً محاولة ربط العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية. فالتشظي المتواصل للمعرفة، والتشوش الحاصل في الفلسفة ليس انعكاساً للعالم الحقيقي، ولكنهما ناتجان من صنع الإنسان في طلبه للعلم. ومفتاح توحيد المعرفة هو التناسق)
ولقد جسد علماء المسلمين في عصور الازدهار الحضاري هذه الوحدة النسقية للعلوم، حينما كانوا ضالعين في أكثر من علم بكفاءة وابتكار، فنجد أن عالماً مثل ابن سينا يكون طبيباً ويؤلف في الطب كتابه الشهير (القانون في الطب) الذي اكتسب شهرة علمية واسعة في معاهد وجامعات أوروبا حتى عام 1650م، حسب رأي المستشرق الأيرلندي ديلاسي أوليري في كتابه (الفكر العربي ومكانه في التاريخ). ويصبح ابن سينا أيضاً وزيراً وعالماً في الإلهيات ويصنف كتابه المعروف (الشفاء) الذي هو أشبه ما يكون بدائرة معارف تجمع وتضم حقول الإلهيات والطبيعيات والرياضيات. أو عالماً مثل ابن رشد يكون طبيباً وقاضياً وفقيهاً وفيلسوفاً، ويؤلف في كل هذه الحقول، حيث قال عنه ابن الأبار (كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه) لذلك فقد اكتسب ابن رشد شهرة واسعة، وتأثيراً فكرياً قل نظيره في الفكر الأوروبي الذي اخترقه بتيار عرف بالرشدية، وكتب عنه المستشرق الفرنسي أرنست رينان في كتابه (ابن رشد والرشدية). وهذان العالمان ابن سينا وابن رشد هما من أبرز علماء المسلمين شهرة وحضوراً في الفكر العالمي. وهناك غيرهم أيضاً من جسد مثل تلك الوحدة النسقية للعلوم.
فمصدر القيمة المعرفية إذا للتراث نابعة من جهة علاقة التراث بالوحي، ومن جهة علاقته أيضا بالحضارة1.
_________
1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 3 نوفمبر 2004م، العدد 13948.