حِوار.. حول الصلاة
  • عنوان المقال: حِوار.. حول الصلاة
  • الکاتب: السيد علي الشهرستاني
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 3:48:42 4-9-1403

حِوار.. حول الصلاة

عودة

منذ صدر الإسلام، تتابَعَت الوقائع والحوادث والتداخلات والملابسات في حياة المسلمين وآرائهم ومواقفهم، فتعارضت المواقف بمقدار ما كان الابتعاد عن الأصول: الكتاب والسنّة، وعن العقل والغَيرة على مباني الدين ومقوّماته ودعائمه.

هذا ما كان، أمّا ما نَتَج فهو جملة اختلافات، أورَثَت خلافات، ومع أنّنا وَرِثنا ما ورثنا من المعضلات إلاّ أنّ الأصول ـ والحمدُ لله ـ ما زالت محفوظةً يُقِرّ بها الجميع، والثوابت ما زالت ـ ولله الحمد ـ شاخصةً بيّنةً تفرضُ الحُجّةَ على الجميع. ومن هنا ظهرت في الآونة الأخيرة دراساتٌ امتازت بالعلميّة والأدلّة المنطقيّة والاستدلالات المبرهَنة، تعيدُنا إلى الأسس التي ثبّتها الإسلام الحنيف وألزم المسلمين بالاعتقاد بها والعمل وفقها، وهي واضحةٌ كلَّ الوضوح في آياتٍ بيّنات، ورواياتٍ صريحةٍ شريفات.

وهذه الأسس قد رَسَمت لنا صورَ العبادات بشكلٍ جليّ لا غبَشَ عليه ولا شكَّ فيه، لو عَمِلنا بها لمَضَينا موحِّدين، ومتّحدين. ومن هنا جاءت الدَّعَوات الوَحْدويّة المخلصة الصادقة مِن قِبل علماء الشيعة، تنادي بالحوار العلميّ، لا الطائفيّ، وبالاحتجاج البرهانيّ، لا الجَدَليّ، في أجواء هادئة ونياتٍ سليمة، وعقولٍ متفتّحة تريد معرفة الحقيقة، وقلوبٍ مؤمنةٍ تريد أن تعبد اللهَ من حيث يُريد ويُحبّ، لا مِن حيث تريد الأهواء والنزعات التعصبيّة الضالّة وتُحبّ.

وقد كان من تلك الحوارات المطلوبة والمحبوبة، ما جرى بين عالمَين، كلٌّ مُنتمٍ إلى مذهب، ولكنْ جمَعَهكا حبُّ معرفة الحقيقة، فأجلَسَهما دقائق أثمرت عن نتائج نافعة لدنيانا وأُخرانا معاً.

 

* * *

 

الحوار

نحن هنا ننقل ذلك الحوار عن العالم الشيعي، يحدّثنا بما جرى مع أحد علماء السنّة والجماعة، وقد زاره وكان بينها حديث شائق.

قال: زارني في مدينة مشهد ( في إيران ) أحد علماء السنّة والجماعة، فدارَ الحديث بيننا حول وضع الأمّة الإسلاميّة، وما آل بها الأمر من الفُرقة والاختلاف.. إلى أن بلغ بنا الحديث أن حمّل كلٌّ مسؤوليّة ذلك على الآخر، حتّى حان وقت الصلاة.

قلت له: نقوم نصلّي.

قال: نعم، جعَلَك الله مِن المصلّين، ولكن كيف ؟ هل أُصلّي بصلاتك أم تصلّي بصلاتي ؟

قلت: كلامك هذا دعاني إلى أن نبحث معك كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكيف حدث الاختلاف فيها مع أنّنا ننقل شيئاً وأنتم تنقلون عنه شيئاً آخر.

قال: وضّحْ لي صلاتك.

قلت: حسَناً، دَعْنا نتّفق على منهجٍ واضحٍ يُعرّفنا بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وليكن القاسم المشترك بيننا الإتيان بما هو لازمٌ وواجب، وترك ما هو مُخِلّ بالصلاة مُبطل لها عند الطرفين، وما هو أفضل وما يجوز وما لا يجوز.

قال: مرحباً، هَلُمَّ ما عندك.

 

* * *

 

بدأت معه ( والحديث للعالم الشيعيّ ) فقلت: نحن نعلم جميعاً أنّ الصلاة، أوّلها التكبير، وآخِرها التسليم.

قال: نعم، هي هكذا.

ـ فكبّرتُ تكبيرة الإحرام، ثمّ أسبلتُ يَدَيّ، فاعترض قائلاً:

ـ هذا الذي أتيتَ به أوّلاً مخالفٌ لصلاتنا!

قلت: إذن ماذا أفعل ؟ هل أقبض بيدي اليمنى على اليُسرى وأجمعهما تحت السُّرّة ـ على فقه أبي حنيفة ـ، أو فوق السرّة ـ كما قال به الشافعي ـ، أو أقبض بيدي اليمنى على اليسرى أم أضعها عليه ـ كما جاء عن أحمد بن حنبل ـ، أم يلزم علَيّ الأخذ بالعضد بأحدِ قَولَي ابن حنبل، أم أُبقيهما على الإرسال كما ثبتَ عن مالك ؟!

رأيته متحيّراً ماذا يقول، فمضيتُ أقول له وهو ينظر إليّ ويُنصت:

ـ إنّ المسألة ـ يا شيخ ـ خلافيّة عندكم، ولم تحدّدوا لنا كيف كانت صورة الصلاة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فلمّا كان من الشيخ جواب السكوت، واصلتُ كلامي على نحو سؤال:

ـ الآنَ يا شيخ لو صلّيتُ مُسبِلاً يَدَيّ، هل تصحّ صلاتي طبقَ أصول فقهكم، أم تكون صلاتي باطلة ؟

لم يُجِبْني إلاّ بعد لحظاتٍ طالت نوعاً ما، قائلاً:

ـ إفعَلْ ما تحبّ، فقد فعَلَ ذلك رسول الله ( أي إسبال اليدَين )!

قلت: نعم، إنّ الإسبال ـ إذن ـ سنّة من سنن النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد عَمِل بها جملة الصحابة حتّى قطع بها مالكُ بن أنس، وكان عَمِل بها أهل بيت النبيّ عليه وعليهم السلام.

وهنا أَحبّ العالم السنّي أن يكون له خروج من هذه المسألة بدل أن يقابلها بالصمت، فماذا قال ؟

قال: لكن كان يمكنك القبض لِما رُوي.

قلت له: دعني عمّا هو ممكن وغير ممكن.. أسألك بالتحديد: هل صلاتي في نظرك هكذا باطلة ؟

قال: لا، بل صلاتك على هذا النحو صحيحة.

فقلت له: الحمد لله، لكنّ صلاتك طبق فقهنا باطلة؛ لأنّك تأتي بفعلٍ ليس من أفعال الصلاة، وهو مبطلٌ في نظرنا للصلاة، فعليك أن تتركه احتياطاً. فإرسال اليدين ـ حسب رواياتك، وحسب رأي بعض فقهائك ـ لا يُبطل الصلاة، أمّا القبض فهو مُخِلّ بالصلاة ومبطلٌ لها حسب رواياتنا وفقهنا، وهنا يدعوك الاحتياط إلى تركِ المشكوك المختلَف عليه، والعملِ بالمتّفق عليه عندنا وعندكم.

 

* * *

 

(وعند هذه النقطة انفتح أمامي أفقٌ علميّ أحببت بيانه )، فقلت له:

ـ ولأجل هذا ـ يا شيخ ـ وجدنا الصحابة منزعجين من التحريفات التي أُدخِلت في الصلاة، يعلّل هذا الأمر البخاريُّ نفسه في ( صحيحه 480:2 / ح 697 ـ الباب 480 ) بقوله أنّ الناس كانوا يُؤمَرون بأن يضع الرجل يدَه اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة! أي أصبحت القضيّة أمراً لم يكن للمسلمين به عهدٌ سابق، فدعاهم الحال إلى الانسحاب، حتّى روى مسلم في ( صحيحه 91:1 )، والبخاريّ أيضاً في ( صحيحه 116:2 ) عن حُذَيفة بن اليمان أنّه قال: إبتُلينا، حتّى جعل الرجل لا يصلّي إلاّ سرّاً!

أجل ـ يا شيخ ـ فالصحابة أخذوا يأسفون على تلاعب الحكّام بشرايع الإسلام، وتغييرهم للسنّة، فغيّروا مواقيت الصلاة، وألزموا الناس بالبدع المستحدثة، مصوِّرين لهم أنّها واجبة! قال: كيف هذا يا تُرى ؟!

قلت: دَعْني أضربْ لك مثلاً ـ يا شيخ ـ في هذا، فقد جاء عن الزهريّ ـ وهو من رواة أهل السنّة المعروفين ـ قال: دخلتُ على أنس بن مالك ( الصحابي ) بدمشق وهو وحدَه يبكي! فقلت: ما يُبكيك ؟! قال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلاّ هذه الصلاة، وقد ضُيِّعَت!!

قال: مَن يا ترى روى ذلك ؟

قلت: النميري في ( جامع بيان العلم 244:2 )، وابن سعد في ( الطبقات الكبرى ـ ترجمة أنس )، والبخاريّ في ( صحيحه 141:1 )، والترمذي في ( الجامع 632:4 ). ثمّ يا شيخ ـ إليك هذه أيضاً: ـ أخرج البخاريّ في ( صحيحه 166:1 )، وأحمد ابن حنبل في ( مسنده 244:6 )، وابن حجر العسقلاني في ( فتح الباري 109:2 ) عن أمّ الدرداء قالت: دخل علَيّ أبو الدرداء وهو مُغضَب، قلت: ما أغضَبَك ؟! قال: واللهِ لا أعرف فيهم مِن أمر محمّدٍ شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً!

أي ضيّعوا كلَّ شيءٍ إلاّ الجماعة الظاهرة، فيما قال آخر: ما أعرفُ شيئاً ممّا أُدرك في الناس إلاّ النداءَ في الصلاة! ( الموطّأ لمالك بن أنس 93:1 ـ عن أبي سهل بن مالك عن أبيه، ورواه النميريّ أيضاً في: جامع بيان العلم 244:2 ).

أمّا من رواياتنا ـ يا شيخ ـ فقد روى الشيخ المجلسي في ( بحار الأنوار 91:66 ) عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: « لا واللهِ ما هُم على شيءٍ ممّا جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلاّ استقبالَ الكعبة فقط ».

وفي المقابل أقرّ الصحابة أنّ بعد ذلك الابتعاد، وبعد أن آلَت الخلافة الظاهريّة إلى أمير المؤمنين ووصيّ رسول الله، عليٍّ عليه السلام، وصلّى بالناس، عند ذاك عادت الذكريات طيّبةً إلى خواطر المسلمين، فماذا قال قائلهم يا ترى ؟!

قال لي: ماذا قال أو قالوا ؟

أجبتُه: قال عِمران بن حُصَين لمطرف بن عبدالله لمّا صلَّى خلفَ عليّ بن أبي طالب: لقد صلّى صلاةَ محمّد، ولقد ذكّرني صلاة محمّد، صلّى الله عليه وآله. وقال أبو موسى الأشعري: ذكّرنا عليٌّ صلاةً كنّا نُصلّيها مع النبيّ، إمّا نَسِيناها، وإمّا تركناها عمداً! ( يراجع: مسند أحمد بن حنبل 428:4، 429، 441، 444، 400، 415، وكنز العمّال للمتّقي الهندي 413:8، والسنن الكبرى للبيهقي 68:2 ).

فما ذنبُنا ـ يا شيخ ـ لو صلّينا صلاة الإمام عليّ عليه السلام وقد كان أقربَ الناس من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأخصَّهم به وأدراهم بسُننه ؟! وما بالنا اليومَ لا نعود إلى تلك الصلاة الطاهرة التي تُذكّر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله كما أقرّ الصحابة الأوائل ؟!

ثمّ ـ يا شيخ ـ هنا يطرح نفسَه سؤالٌ وجيه يقول: ألَم تُفصح هذه النصوص عن أنّ تحريفاً كان وَقَع في الشريعة، لا سيّما في الصلاة ؟!

وهنا أطرق الشيخ رأسه متفكّراً، ثمّ قطع على نفسه سكوته راغباً في المواصلة يقول لي:

ـ لا عليك، دَعْنا نواصل الحديث مِن حيث انتهينا.

ـ حَسَناً، إذن عاد إليّ الدَّور لأقول شيئاً آخَر.

 

* * *

 

عُدتُ مِن جديد أذكر أجزاء الصلاة بعد أن بحثنا بعد تكبيرة الإحرام موضوعَ الإسبال والقبض، فأخذت أواصل وأقرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيْم .

سألني: ما هذه البسمَلة ؟ ( أي لماذا أتيتَ بها ؟).

قلت: أريد أن أقرأ السورة، فلابدّ أن أبدأ بالبسملة، فما الأمر ؟

قال: وما يكون لو قرأت السورة بدون بسملة كما فعل بعض الصحابة وكما هو منقولٌ عن الرسول ؟

قلت: لا، بل أطرح عليك سؤالاً: ألَم يكن عندنا وعندكم لزومُ الإتيان بسورةٍ كاملة ؟

قال: نعم، هكذا.

قلت: فعندنا البسملة جزءٌ من السورة، فإن لم نأتِ بها كانت السورة ناقصة، أي غير مُجْزية.

قال: لِمَ، وكيف، وبعض الصحابة لم يأتوا بها، وقد أخفاها أبو بكر وكذا عمر.

قلت: جاء في ( التفسير الكبير 168:1 ) للفخرالرازي أنّ عليّاً عليه السلام كان مذهبه الجهر بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » في جميع الصلوات. وهذا يعني أنّ الصحابة الآخرين كانوا يأتون بالبسملة، فَهُم على نهجَين، وقد مال الفخرالرازي إلى الإتيان بها قائلاً في الموضع نفسه: إن هذه الحجّة قويّةٌ في نفسي، راسخةٌ في عقلي لا تزول البتّة بسبب كلمات المخالفين، ( أي المخالفين لذِكر البسملة ).

ومن ( التفسير الكبير ) لنذهب ـ يا شيخ ـ إلى كتاب ( الأمّ ) للشافعي، فقد روى في الجزء الأوّل على الصفحه ( 108 ) بإسناده أنّ معاوية بن أبي سفيان لمّا قَدِم المدينة صلّى بالناس فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبّر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية! سرقتَ من الصلاة! أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود ؟! فصلّى بهم صلاةً أخرى!

ثمّ كان للشافعي بعد روايته تعليقة ظريفة، حيث قال: إنّ معاوية كان سلطاناً عظيم القوّة، شديد الشوكة، فلولا أنّ الجهر بالتسمية ( أي البسملة ) كان كالأمر المتقرَّر عند كلّ الصحابة من الأنصار والمهاجرين، وإلاّ لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.

ثمّ جاء الشافعيّ بروايةٍ أخرى في ( الأمّ ) أيضاً، مفادُها أنّ معاوية جاء بالتسمية في فاتحة الكتاب ( أي سورة الحمد ) ولم يأتِ بها في السورة الثانية، فاعترض الصحابة عليه حتّى اضطُرّ إلى إعادة الصلاة بهم!

( ما زال الشيخ يستمع، وأنا أواصل ) أقول متابعاً:

ـ نعود إلى الفخرالرازي حيث نقرأ قوله على الصفحة التالية ( أي في التفسير الكبير 169:1 ) فنجده يقول: إنّ عليّاً كان يبالغ في الجهر بالتسمية ( أي بسم الله الرحمن الرحيم )، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر؛ سعياً في إبطال آثار عليٍّ عليه السلام.

أمّا في ( أحكام القرآن 16:1 ) فقد روى الجصّاص عن أمّ سلمة أمّ المؤمنين قائلةً: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله في بيتي فيقرأ: « بسم الله الرحمن الرحيم ». وقد اعترض مرّةً عبدالله بن عبّاس على عثمان لعدم إتيانه بالبسملة في الصلاة.

(وهنا توجّهتُ إلى الشيخ أستوقفه بهذا التساؤل: )

ـ فأسألك بالله ـ يا شيخ ـ: ألَم تُصبح كلّ هذه الأخبار والروايات مُوجِبةً للإتيان بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » في الصلاة ؟! وأعود أسألك مرّةً أخرى: هل تكون قراءة البسملة قبل السورة مبطلةً للصلاة ؟!

أجابني صريحاً: لا، لا إشكالَ أبداً في إتيانكم بها، وكذلك عندنا، مَن أتى بالبسملة قبل السورة فلا شيء عليه.

قلت: الحمد لله، إذن وافَقْتَني على هذا أيضاً.

 

* * *

 

( ثم واصلتُ الصلاة الاحتجاجيّة فقرأتُ سورة الفاتحة إلى كلمة « ولا الضّالّين »، بعدها جئتًُ بالبسملة لقراءة سورة صغيرة بعد سورة الحمد، وهنا انتفض الشيخ معترضاً: ).

ـ أين « آمين » ؟ لِمَ لَم تأتِ بها ؟!

ـ لم أَأَتِ لأنّها كلمةٌ إضافيّ زائدة لم يأمر بها الله، ولم يأت بها رسول الله، فتكون مُبطلة للصلاة عندنا.

قال: لكنّ الصحابة أتَوا بها.

قلت مُذكِّراً: لقد اتّفقنا ـ يا شيخ ـ على أن لا نخرجَ على المتّفَق عليه عندنا وعندكم. وأسألك هنا: لو لم أأتِ بها ـ خصوصاً في صلاة الانفراد ـ هل ستكون صلاتي عندكم باطلة ؟

قال: لا.

قلت: فنحن لم نأتِ بها لبطلانها للصلاة عندنا، أمّا عدم الإتيان بها عندكم فهو غير مُبطل للصلاة، فما المانع من تركها احتياطاً، وتحاشياً للخلاف، وحَذَراً من الوقوع في البدعة، واحترازاً للاتّفاق بيننا.

قال مذعناً للمنطق والعقل: لا مانع من ذلك إذن.

( ثمّ مضيتُ في إكمال السورة الصغيرة بعد بسملتها، فأشار إليَّ بيده أن: اقطَعْ صلاتك، فقطعت ).

فقال: لماذا تقرأ سورةً كاملة، وكان يَجْزيك بعد الحمد أن تقرأ آيةً أو آيتين من القرآن ؟

أجبتُه: عندنا ـ يا شيخ ـ لا يجزي بعد الحمد إلاّ قراءةُ سورة كاملة، وقد تعوّدنا قراءة إحدى السور القصار عند ذلك.

قال: لكن كان يكفيك الآية والآيتان، وقد فعَلَ ذلك الصحابة.

عدتُ أذكّره: دَعْنا عن هذا وقل لي: هل الإتيان بسورةٍ كاملةٍ بعد الحمد مبطلٌ للصلاة عندكم ؟

قال بتسليم: لا، يجوز لك أن تأتيَ بها، وليس ذلك مُبطلاً لصلاتك أبداً.

قلت: أُعيد عليك: هل صلاتي إلى الآن في نظرك صحيحة أم لا ؟

قال: صلاتك صحيحة على هذا النحو حسب مذاهبنا.

فقلت: أمّا عندنا فلا يجوز إلاّ أن تأتيَ بسورةٍ كاملةٍ بعد الحمد، ثمّ أحبّ أن أسألك: أليس الإتيان بسورة كاملة من السور الصغار بدل الآية والايتين أقربَ إلى الاحتياط والأوفق للشريعة، وقد أوجب ذلك أهلُ بيت النبوّة والوحي والرسالة ؟!

فقال الشيخ مسلّماً أيضاً: صدقت.. أكمِلْ صلاتك.

( لم أُكمل، فقد بقي لي تعليقةٌ على هذا الموضوع، لذا )

قلت: يؤيّد كلامي ـ يا شيخ ـ عبدالرزّاق في ( مُصنَّفه 100:2 ) حيث روى عن الزُّهري عن عبدالله بن أبي رافع قال: كان عليٌّ يقرأ في الأُولَيين من صلاتَي الظهر والعصر بأمّ القرآن (أي الحمد) وسورة، وفي الأُخريَين بأمّ القرآن. قال الزهريّ: والقوم ( أي الشيعة ) يقتدون بإمامهم.

ثمّ قلت: وبعد أن نُكمل قراءة السورة الصغيرة نذهب إلى الركوع فنقول فيه ذِكراً لله تعالى.

قال: ونحن كذلك.

قلت: وأفضل ذِكرٍ عندنا هو: « سبحانَ ربّيَ العظيمِ وبِحَمدِه ».

قال ولم يعترض: ولَنِعم الذِّكرُ هذا!

فقلت: ثمّ أرفعُ رأسي من الركوع حتّى انتصب واقفاً، ثمّ أهوي إلى السجود.

فقال: هُنَيئة، فقد وَصَلْنا إلى الطامّة الكبرى !

 

* * *

 

نعم، لقد استوقفني هنا ما جعلني أتساءل راجياً ألاّ يكون الأمر كذلك، فيه طامّة كبرى!

فقلت: رَحِمنا الله، ما هي تلك الطامّة الكبرى يا تُرى، أعادْنا الله من كلِّ طامةٍ كُبرى أو صُغرى ؟!

فسألني بإمعان وتحفّز: إذا هَوَيتَ إلى السجود، فعلى أيِّ شيءٍ تسجد ؟!

فأجبتُه على الفور مطمئنّاً: أسجدُ على ما علّمني السجودَ عليه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله حيث قال: « جُعِلَت ليَ الأرضُ مسجداً وطَهُوراً » ـ ( رواه البخاري في صحيحه 128:1 ـ في باب مَن لم يجد ماءً ولا تراباً / الحديث 328 ) ـ. أي أسجد ـ يا شيخ ـ على الأرض وما ينبت عليها، بشرط ألاّ يكون ذلك الذي نبت عليها من نوع المأكول أو الملبوس.

فقال وكأنّه يريد أن يكسب نقطةً علميّةً لصالحه: أنتم تسجدون على حَجَرٍ تُسمّونه « تُربة ».

فقلت: وهذا ما أفصحتُ عنه لو كنتَ توجّهتَ إلى كلامي. دَعْني أنقل لك هذه الرواية ذكرها أحمد بن حنبل في ( مسنده ) ونقلها الطبري في ( تهذيب الآثار 193:1 / ح 301 )، وهي عن وائل بن حجر إذ قال: رأيتُ النبيَّ صلّى الله عليه وآله إذا سجد وَضَع جبهته وأنفه على الأرض. وهناك روايات تؤكّد سجوده على الحصى وعلى الخُمرة ( أي الحصيرة أو السجّادة المنسوجة من سعف النخل مُرمَّلةً بالخيوط )، وكذا على الحَجَر كما روى البيهقي في ( السنن الكبرى 102:2 ) عن ابن عبّاس. وقد أقرّت عائشة بذلك قائلة: ما رأيتُ رسول الله متّقياً وجهَه بشيء، أي في صلاته ( كنز العمّال 212:4 ).

(وهنا جاء الشيخ بابتسامةٍ على استحياء جمعت مزاحاً إلى جدّ، وسيلةً منه إلى الخروج من برهانٍ علميٍّ واضحٍ وصريح، قائلاً: ).

ـ لكن البعض يقول: أنتم تسجدون لصنم اسمُه تُربة!

قلت: لقد أجَبتُك بعدّة رواياتٍ من كتبكم وأنت تقول لي هذا الكلام المفترى ؟! مَعاذ الله أن نسجد لغير الله سبحانه وتعالى، وكيف نسجد لصنمٍ ونحن نقول في سجودنا: « سبحانَ ربّيَ الأعلى وبِحمدِه » ؟!

أقول: كيف طاوعتم أنفسَكم أن تُلقوا بهذه التهم علينا لأنّنا نسجد على تربةٍ طاهرةٍ امتثالاً لسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟! ثمّ ألَم تُفرّق إلى الآن ـ يا شيخ ـ بين السجود على الشيء والسجود له ؟! إنّنا نسجد على هذه التربة خضوعاً لله وتذلّلاً بين يَدَيه، ولا نسجد لها أبداً وإن كنّا نحترمها لكونها مأخوذةً من أرض سيّد الشهداء الإمام السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين سيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وهنا قال الشيخ وكأن هدير كلامي أحرجه: هَوِّنْ عليك، فقد كنتُ مازَحتُك.

قلت: لا تثريب عليك، فَلْنَعد إلى ما اتّفَقنا عليه، فأقول سائلاً: سجودي هذا يا شيخ على التراب أو الخشب أو القرطاس، هل يصحّ أولا، وهل هو مُبطلٌ للصلاة أولا ؟

قال الشيخ بتسليمٍ كذلك: لا، هو غير مبطل أبداً، وقد صحّت معه صلاتك، فقد جاء عندنا في ( صحيح البخاري 280:1 / ح 780 ) وكذا في ( صحيح مسلم 826:2 / ح 1167 ) أنّ صحابيّاً قال: صلّى بنا النبيُّ صلّى الله عليه وآله حتّى رأيتُ الطينَ والماء على جبهته وأرنبته ( أي طرف أنفه الشريف ).

(وهنا فاجَأتُه بقولي: ) الآن تمّت الصلاة النظريّة، فقُمْ نجعَلْها صلاة عمليّة.

ضحك الشيخ وقال: إذن نُصلّي صلاةً شيعيّة!

سألته مبتسماً: وما يمنعكم من ذلك ـ يا شيخ ـ إذا كانت الصلاة الشيعيّة التي أوردتُها صحيحةً في نظركم ؟! لقد أردتُ أن أقول: إن رَغِبتُم عن الصلاة بصلاتنا، فلا تحملوا علينا حملاتكم المشحونة بالتُّهم، ولا تقولوا ما ليس لكم به علم.

(وانتهى الحوار، وقمتُ صلّيتُ صلاتي وأنا أكثرُ ثقةً بها وشكّاً في غيرها، فصلاتي هي المتّفَق عليها غير معارَضةٍ بإبطال، وغيرها معارَضةٌ لم يُتّفَق على صحّتها، فحَمِدتُ الله عزّوجلّ أن هداني إلى التمسّك بالثقلين: كتابِ الله تبارك وتعالى، وأهلِ بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله سفنِ النجاة، وأئمّةِ الهدى، ومصابيحِ الدجى، وأعلامِ التُّقى، ومحالِّ معرفة الله، ومعادنِ حكمة الله، والدعاةِ إلى الله، والأدلاّءِ على مرضاة الله. اللّهمّ أكرمنا بالتمسّك بحُجزتهم وولايتهم، والممات على محبّتهم وهدايتهم.

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأزكى الصلاة على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين )

ـ عن كتاب: توثيق فقه الإماميّة من الصحاح والسُّنن، منهجٌ جديد لدراسة الفقه المقارن، تأليف السيّد علي الشهرستاني، نشر: مركز الأبحاث العقائديّة ـ قمّ المقدّسة، سنة 1431 هـ.