خروج مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة
باقر شريف القرشي*
كُتُب أهل الكوفة
تتابعتْ كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين(عليه السلام) ، وهي تحثُّه على المسير والقدوم إليهم ؛ لإنقاذهم من ظلم الأمويِّين وعُنفهم . فأنفذوا جماعةً معهم نحو مائة وخمسين صحيفة , من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة ، يسألونه القدوم عليهم ، وهو مع ذلك يتأنَّى ولا يجيبهم . فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب ، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها ـ في نُوَبٍ متفرِّقة ـ اثني عشر ألف كتاب.
ثمَّ لم يمسِ الحسين(عليه السلام) يومه ذلك ، حتى ورد عليه بشر بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبيد الأرحبي ، ومعهما خمسون كتاباً من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها.
ثمَّ قدِم عليه صباحاً هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ، بهذا الكتاب ـ وهو آخر ما ورد على الحسين (عليه السلام) من أهل الكوفة ـ وفيه:
( بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحسين بن علي من شيعته والمسلمين
أما بعد ، فحَيَّ هَلا (1) ، فإنّ الناس ينتظرونك ، ولا رأي لهم غيرك (2) ، فالعجل ثمَّ العجل.
والسلام)(3).
فصلَّى الإمام الحسين (عليه السلام) ركعتين بين الركن والمقام ، وسأل الله الخِيَرة في ذلك . ثمَّ طلب ابن عمِّه مسلم بن عقيل ، وأطلعه على الحال ، وكتب معه جواب كتبهم يعدهم بالقبول.
جواب الحسين (عليه السلام) لأهل الكوفة
كََتَبَ الإمام الحسين (عليه السلام) إليهم جميعاً كتاباً واحداً ، ودفعه إلى هاني بن هاني ، وسعيد بن عبد الله ، نسخَتُه:
( بسم الله الرحمن الرحيم
من الحسين بن علي إلى مَن بلغه كتابي هذا ؛ من أوليائه وشيعته بالكوفة
سلام عليكم
أمَّا بعد ، فقد أتتني كتبكم ، وفهمت ما ذكرتم من محبَّتكم لقدومي عليكم . وإنِّي باعث إليكم بأخي وابن عمِّي وثقتي من أهلي (مسلم بن عقيل) ؛ ليَعْلَم لي كُنه أمركم ، ويكتب إليّ بما يتبيَّن له من اجتماعكم.
فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم ، وأخبرتني به رسُلكم ، أسرعتُ القدوم عليكم إن شاء الله.
والسلام).
وقد كان مسلم بن عقيل خرج معه من المدينة إلى مكَّة ، فقال له الحسين (عليه السلام) : ( يا ابن عم ، قد رأيتُ أن تسير إلى الكوفة ، فتنظر ما اجتمع عليه رأي أهلها . فإن كانوا على ما أتتني به كتبهم ، فعجِّل عليَّ بكتابك ؛ لأُسرع القدوم عليك ، وإن تكن الأخرى ، فعجِّل
الانصراف)(4).
مسلم بن عقيل سفير الحسين (عليه السلام)
تَسلَّم مسلم الكتاب ، وغادر مكَّة ليلة النصف من رمضان ، وَودَّع أهله وأصحابه ، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم . واستأجر دَليلين من قَيس ؛ يَدُلاَّنَه عَلى الطريق . واتَّجهَ صَوبَ العِراق , حتى وصل الكوفة . فلمَّا وقفوا على الكتاب استبشروا بإيابه , فأنزلوه في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وصارت الشيعة تختلف إليه . فلمَّا اجتمع إليه منهم جماعة ، قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) ، وهم يبكون ، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(5).
كتاب مسلم للحسين (عليه السلام):
ازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل من أهل الكوفة ، فكتب للإمام يستحثُّه فيها على القدوم إليهم ، وكان قد كتبها قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة ، وهذا نَصُّها:
(أمَّا بعد ، فإنّ الرائد لا يَكْذِب أهلَه ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً (6) . فعجِّل حين يأتيك كتابي ؛ فإنَّ الناس كلهم معك ، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى)(7).
لقد كتب مسلم هذه الرسالة لأنّه لم يرَ أيَّة مقاومة لدعوته ، وإنَّما رأى إجماعاً شاملاً على بيعة الإمام ، وتلهُّفاً حارَّاً لرؤيته . وحمل الكتاب جماعة من أهل الكوفة ، وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري . وقَدِم الوفد مكَّة المكرَّمة ، وسلَّم الرسالة إلى الإمام (عليه السلام) . وقد استحثُّوه على القدوم إلى الكوفة ، وذكروا إجماع أهلها على بيعته ، وما قاله مسلم من الحفاوة البالغة منهم ، وعند ذلك تهيَّأ الإمام إلى السفر للكوفة.
موقف والي الكوفة من الثورة
كان موقف النعمان بن بشير(8) من الثورة موقفاً يتَّسم باللِّين والتسامح ، وقد اتهمه الحزب الأموي بالضعف ، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام بسلامتها ، فأجابهم: (لأن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله ، أحبُّ إليّ من أن أكون قويَّاً في معصية الله . وما كنتُ لأهتك ستراً ستره الله)(9).
وقد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوَّة ، وشجَّعهم على العمل ضدَّ الحكومة علناً . ولعل سبب ذلك يعود لأمرين:
1 ـ إنّ مسلم بن عقيل كان ضيفاً عند المختار ، وهو زوج ابنته عمرة ، فلم يعرض للثوَّار بسوء رعاية للمختار.
2 ـ إنّ النعمان كان ناقماً على يزيد ؛ وذلك لبغضه للأنصار . فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم ، فثار لهم النعمان.
ولعل لهذا ولغيره لم يتَّخذ النعمان أيَّ إجراءٍ مضادٍ للثورة.
خطبة النعمان
أعطى النعمان للشيعة قوة في ترتيب الثورة وتنظيمها ، وهيَّأ لهم الفرص في إحكام قواعدها ؛ ممَّا ساء الحزب الأموي ، فأنكروا عليه ذلك ، وحرَّضوه على ضرب الشيعة ، فخرج النعمان وصعد المنبر ، فأعلن للناس سياسته المتَّسمة بالرفق ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
(أمَّا بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفُرقة ؛ فإنّ فيها تهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال . إنّي لم أقاتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على مَن لا يثب عليّ ، ولا أشاتمكم ، ولا أتحرَّش بكم ، ولا آخذ بالقَرْف ولا الظِّـنَّة ولا التُّهمة . ولكنَّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله إلا هو ، لأضربنَّكم بسيفي ما ثَبَتَ قائمُه في يدي ، ولو لم يكن منكم ناصر . أمَا إنِّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحق منكم أكثر ممَّن يُرديه الباطل)(10).
وليس في هذا الخطاب أي ركون إلى وسائل العنف والشدة ، وإنَّما كان فيه تحذير من مغبَّة الفتنة وحب للعافية ، وعدم التعرُّض لمَن لا يثب على السلطة ، وعدم أخذ الناس بالظِّـنَّة والتُّهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه والي العراق.
اتصال الحزب الأموي بدمشق
فزع الحزبُ الأموي من تجاوب الرأي العام مع مسلم واتساع نطاق الثورة ، في حين أنّ السلطة المحلِّية أغضت النظر عن مجريات الأحداث ، وقد اتهمتها بالضعف أو بالتواطؤ مع الثوَّار . وقام الحزب الأموي باتصال سريع بحكومة دمشق ، وطلبوا منها اتخاذ الإجراءات الفورية قبل أن يتسع نطاق الثورة ، ويأخذ العراق استقلاله ، وينفصل عن التبعية لدمشق . ومن بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي ، جاء فيها:
(أمَّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قَدِم الكوفة ، وبايعته الشيعة للحسين بن علي . فإن كان لك بالكوفة حاجة ، فابعث إليها رجلاً قويَّاً يَنْفِذُ أمرَك ، ويعمل مثل عملك في عدوك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضَعيف ، أو هو يتضعَّف)(11).
وتدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه ، واستعمال شخصٍ آخر مكانه ، قوي البطش ؛ ليتمكَّن من القضاء على الثورة ، فإنّ النعمان لا يصلح للقضاء عليها . كتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد.
موقف يزيد
فزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحسين ، فراودته الهواجس ، وظلَّ يُنفق ليله ساهراً ، يطيل التفكير في الأمر . فهو يعلم أنَّ العراق مركز القوة في العالم الإسلامي ، وهو يَبغضه ويَحقد على أبيه ؛ فقد أصبح موتراً منهم لمَّا صبُّوا عليه من الظلم والجور . وإنّ كراهية أهل العراق ليزيد لا تقِلُّ عن كراهيَّتهم لأبيه ، كما أنَّه على يقين أنّ الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطَّش لحكم الإمام الحسين (عليه السلام) ؛ لأنَّه المَثَل الشرعي لجَدِّه وأبيه ، ولا يرضون بغيره بديلاً.
استشارته لسرجون
أحاطت الهواجس بيزيد ، وشعر بالخطر الذي يهدَّد ملكه ، فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ، ومن أدهى الناس ، فعرض عليه الأمر ، وقال له: (ما رأيك أنّ حسيناً قد توجَّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يُبايع للحسين . وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيِّئ ، فما ترى مَن استعمل على الكوفة ؟).
تأمَّل سرجون ، وأخذ يطيل التفكير ، فقال له : ( أرأيت أنَّ معاوية لو نُشِر ، أكنتَ آخذاً رأيه ؟) ، فقال يزيد: نعم . فاخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : ( هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب)(12).
دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة
فهي لا تخلو من أمرين:
1 ـ إنَّه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه ، وإنَّه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره . فهو الذي يتمكَّن من القضاء على الثورة ؛ بما يملك من وسائل الإرهاب والعنف.
2 ـ إنَّه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح ؛ فإنَّ ابن زياد رومي.
ولاية ابن زياد على الكوفة
كان يزيد ناقماً على ابن زياد كأشدِّ ما تكون النقمة ، وأراد عزله عن البصرة ؛ وذلك لمعارضة أبيه في البيعة له ، إلاّ أنَّه استجاب لرأي سرجون ، فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته ، فأمر له بولاية الكوفة والبصرة ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه.
كتاب يزيد لابن زياد
كتب إليه هذه الرسالة:
(أمَّا بعد ، فإنَّه كَتَبَ إليّ شيعتي من أهل الكوفة ، يُخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقِّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل كطلب الخَرَزَةَ ، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام).
أشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها من مسلم ابن عقيل ، وقد شدَّدتْ على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة ؛ لإلقاء القبض عليه . وتنُصُّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد: (إنْ كان لك جناحان ، فطِرْ إلى الكوفة)(13) ، وهذا ممَّا يُنبئ عن الخوف الذي ألمَّ بيزيد من الثورة في العراق . وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة.
ابن زياد يتوجَّه إلى الكوفة
تسلَّم ابن زياد من الباهلي العهد له بولاية الكوفة ، وقد طار فرحاً ؛ فقد تمَّ له الحكم على جميع أنحاء العراق ، بعد ما كان مهدَّداً بالعزل عن ولاية البصرة . وقد سُرَّ بما خوَّلته دمشق من الحكم المطلق على العراق ، وبما سوَّغت له من استعمال الشدة والقسوة وسفك الدماء لكل مَن لا يدخل في طاعة يزيد ، أو يشترك بأيَّة مؤامرة ضده . وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ، ممَّا يتَّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان من عوامل استمتاعاته النفسية حبُّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردُّد في سفك الدماء.
دخول الطاغية للكوفة
سار الخبيث الدنس من البصرة متَّجها إلى الكوفة ، ليقترف أعظم موبقة لم يقترفها شقيٌّ غيره ، وقد صحبه من أهل البصرة خمسمائة رجل.
نزل الطاغية فلبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وتلثَّم ؛ ليوهم مَن رآه أنَّه الحسين (عليه السلام) ، وسار وحده فدخل الكوفة , وأوهم الناس أنَّه الحسين (عليه السلام) ؛ وقد تذرَّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه . وتنُصُّ بعض المصادر أنَّه حبس نفسه عن الكلام ؛ خوفاً من أن يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.
في قصر الإمارة
أسرع الخبيث نحو قصر الإمارة وقد علاه الفزع , وساءه كأشد ما يكون الاستياء من تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحسين (عليه السلام) . ولمَّا انتهى إلى باب القصر ، وجده مغلقاً ، والنعمان بن بشير مشرفٌ من أعلا القصر ، وكان قد توهَّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السلام) ؛ لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته ، فانبرى يخاطبه:
(ما أنا بمؤدٍّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، ومالي في قتالك من إرْب...).
ولَمَس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار ، فصاح به بنبرات تقطر غيظاً: (افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك)(14) . ولمَّا تكلَّم ، عرفه بعض مَن كان خلفه ، فصاح بالناس: (إنّه ابن مرجانة وربِّ الكعبة).
ومن الغريب أنّ ذلك المجتمع لم يُميِّز بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلَّاً منهما قد عاش فترةً في ديارهم . ولعل الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبِزَّته ، ولبسه للعمامة السوداء , فإنّ الناس حينما علموا أنّه ابن زياد ، جفلوا وخفُّوا مسرعين إلى دورهم.
خطبة الطاغية في الكوفة
بادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الأموي ، فأخذوا يحدُّثونه عن الثورة ويعرِّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخطَّطات للقضاء عليها.
عندما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير ، وقد خيَّم عليها الذعر والخوف . وخرج ابن زياد متقلِّداً سيفه ومعتماً بعمامة ، فاعتلى أعواد المنبر ، وخطب الناس فقال:
(أمَّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ ، ولَّاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدَّة على مريبكم . فأنا لمطيعكم كالوالد البر الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَن ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد...)(15).
وحفل هذا الخطاب بما يلي:
1 ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم ، وعزل النعمان بن بشير عنه.
2 ـ تعريفهم أنَّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَن يتبع السلطة ولم يتمرَّد عليها ، واستعمال الشدة والقسوة على الخارجين عليها.
لم يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحسين (عليه السلام) وسفيره مسلم ؛ خوفاً من انتفاضة الجماهير عليه وهو بعد لم يُحْكِم أمره.
نشر الإرهاب
عمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف . يقول بعض المؤرِّخين: (إنّه لمَّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة ، صال وجال ، وأرعد وأبرق ، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة)(16) . وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب ، وصرف الناس عن الثورة.
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد , وخرج إليهم بزيٍّ غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً ، تهدَّد فيه وتوعَّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:
(أمَّا بعد ، فإنّه لا يَصلح هذا الأمر إلاَّ في شدَّة من غير عنف ، ولينٍ من غير ضعف . وأن آخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي)(17).
انتقال مسلم إلى دار هاني
تحوَّل مسلم إلى دار هاني , واضطر مسلم إلى تغيير مقرِّه ، وإحاطة نشاطه السياسي بكثير من السر والكتمان . فقد شعر بالخطر الذي داهمه حينما قَدِم الطاغية إلى الكوفة ؛ فهو يعلم بخبث هذا الوغد ، وأنّه لا يرجو لله وقاراً ، ولا يتحرَّج من اقتراف الإثم . وقد أجمع أمره على مغادرة دار المختار ؛ لأنّه لم تكن عنده قوة تحميه ، ولم يكن يأوي إلى ركن شديد ، فالتجأ إلى دار هاني بن عروة ، فهو سيد المصر وزعيمٌ مرادٌ ، وعنده من القوة ما يضمن حماية الثورة والتغلُّب على الأحداث.
بثُّ الخوف بين أهل الكوفة
أوعز الطاغية إلى جماعة من وجوه أهل الكوفة أن يبادروا ببثِّ الذعر ونشر الخوف بين الناس ، وبين صفوف جيش مسلم ، فأخذوا يشيعون الخوف ، ويبثُّون الأراجيف فيهم ، ويُظهرون لهم الإخلاص والولاء ؛ خوفاً عليهم من جيوش أهل الشام ، فكان ممَّا قالوا :
(أيُّها الناس ، الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشر ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن أقمتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيتكم ، أن حَرَمَ ذُرِّيَّتكم العطاء ، ويُفرِّق مَقَاتِلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا تبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلاَّ ذاقها وبال ما جرت أيديها)(18).
وكان هذا التهديد كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة ؛ فقد كان يحمل ألوانا قاسية من الإرهاب ، وهي:
أ ـ التهديد بجيوش أهل الشام . فقد زحفت إليهم ، وهي ستشيع فيهم القتل والتنكيل إنْ بقوا مصرِّين على المعصية والعناد.
ب ـ حرمانهم من العطاء . وقد كانت الكوفة حامية عسكرية ، تتلقَّى جميع مواردها الاقتصادية من الدولة.
ج ـ تجميرهم في مغازي أهل الشام ، وزجهم في ساحات الحروب.
د ـ إنَّهم إذا أصرُّوا على التمرُّد ، فإنّ ابن زياد سيعلن الأحكام العرفية ، ويسوسهم بسياسة أبيه ، التي تحمل شارات الموت والدمار ، حتى يقضي على جميع ألوان الشَّغَب والعصيان.
وقام بقية عملاء السلطة بنشر الإرهاب وإذاعة الذُّعر . وكان من جملة ما أذاعوه بين الناس:
(يا أهل الكوفة ، اتقوا الله ، ولا تستعجلوا الفتنة ، ولا تشقُّوا عصا هذه الأمة ، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام ، فقد ذقتموها ، وجربتم شوكتها...) .
وسَرَت أوبئة الخوف والفزع في نفوس الكوفيين ، وانهارت أعصابهم . وكان الموت قد خيَّم عليهم ، فجعل بعضهم يقول لبعض:
(ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغداً تأتينا جموع أهل الشام . ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا ، وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم)(19).
هزيمة جيش مسلم
مُني جيش مسلم بهزيمة مُخزية ، لم يحدث لها نظير في جميع فترات التاريخ . فقد هزمته الدعايات المضلِّلة ، من دون أن تكون في قباله أيَّة قوة عسكرية . ويقول المؤرِّخون:
(إنَّ مسلماً كلَّما انتهى إلى زقاق ، انسلَّ جماعة من أصحابه ، وفرُّوا منهزمين وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين!)(20).
ولم يمضِ قليل من الوقت حتى انهزم معظمهم ، وقد صلَّى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم ، فكانوا يفرُّون في أثناء الصلاة . وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا بأجمعهم ، بما فيهم قادة جيشه ، ولم يجد أحداً يدلَّه على الطريق ، وبقى حيراناً لا يدري إلى أين مسراه.
خطبة ابن زياد
ولمَّا أيقن الطاغية بفشل ثورة مسلم ، وتفلُّل قواته المسلَّحة ، أمر بجمع الناس في الجامع ، فتوافدت الجماهير وقد خيَّم عليها الذعر والخوف ، فجاء الطاغية ، وهو يرعد ويبرق ، ويتهدَّد ويتوعَّد ، فصعد المنبر وخطب.
وحفل هذا الخطاب(21) بالقسوة والصرامة ، وفيه هذه التقاط التالية:
أ ـ الحكم بالإعدام على كل مَن آوى مسلماً ، مهما كانت لذلك الشخص من مكانة اجتماعية في المصر.
ب ـ إنّ ديَّة مسلم تكون لمَن جاء به.
ج ـ إنّ مَن ظفر بمسلم تمنحه السلطة عشرة آلاف درهم.
د ـ إنّ مَن يأتي به يكون من المقرَّبين عند يزيد ، وينال ثقته.
هـ ـ تكافئ السلطة مَن جاء به بقضاء حاجة له في كل يوم.
وتمنَّى أكثر أولئك الأوغاد الظفر بمسلم ؛ لينالوا المكافأة من ابن مرجانة ، والتقرُّب إلى يزيد بن معاوية.
شهادة مسلم (عليه السلام)
طوى مسلم ليلته حزيناً ، قد ساورته الهموم ، وتوسَّد الأرق ، وكان ـ فيما يقول المؤرِّخون ـ قد قضى شطراً من الليل في عبادة الله ، ما بين الصلاة وقراءة القرآن . وقد خَفَقَ في بعض الليل ، فرأى عمَّه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فأخبره بسرعة اللحاق به ، فأيقن عند ذلك بدنو الأجل المحتوم منه).
وبعد أن جرت معركة غير متكافئة بين مسلم وبين أزلام ابن زياد ، جُرح فيها مسلم وسقط على الأرض ، فوقع في أسر أعدائه ، وسلَّموه إلى الطاغية ابن زياد ، فأمر بإلقائه من أعلى القصر.
استقبل مسلم (عليه السلام) الموت بثغرٍ باسم ، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبح الله ويستغفره بكل طمأنينة ورضا ، وهو يقول: (اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا)(22). وأشرف به الجلاَّد على موضع الحذَّائيين ، فضَرَبَ عنقه ، ورمى برأسه وجسده إلى الأرض(23).
وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم ، الذي يحمل نزعات عمِّه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومُثُل ابن عمِّه الحسين (عليه السلام) . وقد استشهد دفاعاً عن الحق ، ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطَهدين.
ـــــــــــــــــــــــ
* مقتطف (بتلخيص) من كتاب: حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) / ج2 / مطبعة الآداب / النجف الأشرف / ط1 / سنة 1975.
(1) حَيَّ هَلا: اسم فعل بمعنى أقبل وعجِّل.
(2) في تاريخ اليعقوبي (2 / 215): لا إمام لهم غيرك.
(3) الإرشاد / ص 224.
(4) الأخبار الطوال / الدينوري / ص 210.
(5) تاريخ الطبري / ج 6 / ص 224.
(6) في رواية البلاذري: (إنّ جميع أهل الكوفة معك).
(7) تاريخ الطبري / ج 6 / ص 224.
(8) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي ، كان قد
ولَّاه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمن بن الحكم . وكان عثماني الهوى ، يجاهر
ببغض علي ويسئ القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصِفِّين ، وسعى بإخلاص
لتوطيد المُلْك إلى معاوية . وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابية على بعض
المناطق العراقية . ويقول المحقِّقون : إنَّه كان ناقماً على يزيد ،
ويتمنَّى زوال الملك عنه ، شريطة أن لا تعود الخلافة لآل علي.
ومن الغريب في شأن هذا الرجل أنّ يزيد لمَّا أوقع
بأهل المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيام ، لم يثار النعمان لكرامة وطنه
وقومه.
وفي الإصابة (3 /530): إنّه لمَّا هلك يزيد ، دعا
النعمان إلى ابن الزبير ، ثمَّ دعا إلى نفسه ، فقاتله مروان ، فقتل ، وذلك
في
سنة ( 65 هـ) . وكان شاعراً مجيداً ، له ديوان شعر طُبع حديثاً.
(9) سِيَر أعلام النبلاء / ج 3 / ص 206.
(10) تاريخ ابن الأثير / ج 3 / ص 267.
(11) تاريخ ابن الأثير / ج 3 / ص 267.
(12) تاريخ ابن الأثير / ج 3 / ص 268.
(13) سير أعلام النبلاء / ج 3 / ص 201 .
(14) (لا فتحت) : دعاء عليه ، أي لا فتحت على نفسك باباً من الخير . (فقد طال ليلك) : أي كثر وامتد همُّك ، أو انتظارك.
(15) مقاتل الطالبيين / ص 97.
(16) الفصول المهمة / ص 197.
(17) الفتوح / ابن أعثم / 5 / 67.
(18) تاريخ الطبري / ج 6 / ص 208.
(19) الفتوح / ج 5 / ص 87.
(20) الدُّر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء / ج 1 / ص 108.
(21) الفتوح / ج 4 / ص 90.
(22) الفتوح / ج 5 / ص 103.
(23) المسعودي / موج الذهب / ج3 / ص9.