النسب والسبب:
خزيمة بن ثابت بن الفاكِه... بن مالك بن الأوس الأنصاريّ.
كنيته:
أبو عُمارة، ولقبه «ذو الشهادتَين»؛ لحادثة وقعت زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله، خلاصتها أنّ أعرابيّاً باع فَرَساً لرسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ أنكر الأعرابيّ البيعَ فأقبل خزيمة بن ثابت حتّى انتهى إلى الموقف وقال: أنا أشهد يا رسول الله لقد اشتريتَه منه. فقال الأعرابي: أتشهد ولم تحضرنا ؟! وقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أشَهِدتَنا ؟ فقال خزيمة:لا يا رسول الله، ولكنّي علمتُ أنّك قد اشتريتَه، أفأُصدِّقك بما جئتَ به من عند الله ولا اُصدّقك على هذا الأعرابيّ الخبيث ؟! فعجب له رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: يا خزيمة، شهادتك شهادة رجلَين.
فصارت مقولة النبيّ صلّى الله عليه وآله وساماً له، فصار يُقال له: «خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ذو الشهادتين».
المولد:
لم يتوفّر لنا في المصادر التاريخيّة تأريخاً محدّداً لمولد هذا الصحابيّ الجليل، ولا لكثير من الصحابة، لكنّ القرائن المستفادة من الوقائع والسِّير تشير إلى أنّ خزيمة بن ثابت كان قد وُلد في حدود سنة 20 قبل الهجرة النبوية المباركة فما قبلها.
معالم الشرف:
يكفي الصحابةَ الأخيار شرفاً ما جاء فيهم من التقريض والمدح على لسان المعصومين عليهم السّلام، وخزيمة واحد من الذين يفخر التاريخ الإسلاميّ بهم، إذ وسمه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله بوسام ذي الشهادتين، ووصفه أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بأنّه من إخوانه الذين ركبوا الطريق معه ومضَوا على الحقّ.
وكان خزيمة الأنصاريّ رضوان الله عليه ممّن تنبّهوا ـ بعد أن مال الناس عن الإمام عليه السّلام ـ فاستيقن الأمر وعرفه، واتّبع الحقّ ورجع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام مزيحاً عن صدره وساوس تشكيكات القوم. وكان أيضاً من الصحابة الأبرار الأتقياء الذين مضَوا على منهاج نبيّهم صلّى الله عليه وآله، لم يغيّروا ولم يبّدلوا.. عدّدهم الإمام الرضا عليه السّلام فيما كتب للمأمون في محض الإسلام، وهم: سلمان الفارسيّ، وأبو ذرّ الغِفاريّ، والمقداد بن الأسود، وعمّار بن ياسر، وحُذَيفة اليمانيّ، وأبو الهيثم بن التيِّهان، وأبو أيوّب الأنصاريّ، وأبو سعيد الخُدريّ.. وآخرون أمثالهم، من بينهم: خزيمة بن ثابت الأنصاريّ ذو الشهادتين.
وخزيمة هو أحد الذين أنكروا على مَن أنكر واقعة الغدير وتنصيب الإمام عليّ عليه السّلام فيها أميراً للمؤمنين، وخليفة لرسول ربّ العالمين. إذ كانت له كلمته، وكان له موقفه الشجاع الحقّ.. وإذ شهد مع الجماعة المخلصة ـ ومنهم: أبو أيوّب وقيس بن سعد بن عُبادة وعبدالله بن بُدَيل بن وَرْقاء ـ أنّهم سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم غدير خمّ: مَن كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه.
حوادث.. ومواقف:
• حين ظهر نور الإسلام، كان خزيمة الأنصاريّ من أوائل المبادرين إليه، ثمّ شهد أوّلَ ما شهد «اُحُداً»، وما بعدها من المشاهد.
• كان هو وعُمَير بن عَديّ يكسّران أصنام بني خَطْمة. ثمّ حمل راية بني خطمة يوم فتح مكّة، ودخل مع رسول الله صلّى الله عليه وآله.
• شهد معركة «مُؤتة» وشارك فيها مشاركة مشهودة.
• كان من السابقين الذين عاوا إلى الإمام عليّ عليه السّلام، وقد وقف إلى جانبه ودعا إلى بيعته وأنكر على مخالفيه، وقال لأحدهم: ألستَ تعلم أنّ رسول الله قبِل شهادتي وحدي ؟ فقال: بلى، قال خزيمة: فإني أشهد بما سمعته منه، وهو قوله: إمامُكم بعدي عليّ؛ لأنّه الأنصح لاُمّتي، والعالم فيهم.
وفي رواية اُخرى، قال: يا أبا فلان، ألستَ تعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قَبِل شهادتي وحدي، ولم يُرِدْ معي غيري ؟ قال: نعم، قال خزيمة: فاُشهد بالله أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: أهل بيتي يُفرِّقون بين الحقّ والباطل، وهمُ الأئمّة الذين يُقتدى بهم.
• وشهد خزيمة ـ مع جماعة ـ لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام حين استُشهد، بحديث الغدير. وقبل ذلك كان من أوائل المبايعين والمؤيّدين له في مسيره لقتال الناكثين، وكذلك كان عند المسير لحرب القاسطين.
• شارك إلى جانب الإمام عليّ عليه السّلام في حربَيه: الجمل، وصِفيّن، حيث استُشهد فيها.
شاعريّته:
لمواقفه المبدئيّة الولائيّة.. كان خزيمة مُعتَّماً على حياته، في أخباره وأدواره، فلم يُنقَل من شعره إلاّ النَّزر اليسير، مع أنّه كان يجيد الشعر ويقوله منذ زمن مبكّر على عهد النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في أبياته التي مدح فيها الإمام عليّاً عليه السّلام فتهلّل وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأبياته التي ذكر فيها قصّة التصدّق بالخاتم في حال الركوع، حيث قال:
أبا حسنٍ، تفديك نفسي واُسـرتي وكلُّ بطيءٍ في الهُدى ومُسارعِ
فأنتَ الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاً زكاةً.. فَدتْكَ النفسُ يا خيرَ راكعِ
فأنـزلَ فـيك اللهُ خـيرَ ولايـةٍ وبَيّنها فـي مُـحكَماتِ الشرائعِ
ولكنّ الذي يسدّ خلل المؤرخين الذين أهملوا قصائد خُزيمة.. أنّ الذي نقلوه ـ مع قلّته ـ يحفل بالمضامين العقائديّة العالية ما تُضاهي المطوَّلات، وكانت تعابيره ومصطلحاته مسامير في عيون الأعداء، وأبياته مرآة عاكسة للواقع الذي عاشه المسلمون.
وقد أكّد خريمة بن ثابت الأنصاريّ على الإمامة الحقّة لأمير المؤمنين عليه السّلام، ووصايته، فخاطب يوماً إحدى زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله قائلاً لها:
وصيُّ رسول الله مِن دون أهلهِ وأنتِ على ما كان مِن ذاك شاهده
وفي هذا الصدد، نجد خزيمة يُكثر من استعمال كلمة «إمام»، كما في قوله:
وصيّ الرسول، وزوج البتول إمامُ البريّةِ شمسُ الضحى
ويقول كذلك:
فَديتُ عليّاً إمامَ الورى سراجَ البريّة مأوى التُّقى
تصدّق خاتَمَهُ راكعاً فأحسِنْ بفعل إمام الورى
والبارز في شعر خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، هو أنّه غالباً ما يأتي في شعره بالاستدلال والتحليل والبرهان، فحين يُفاضِل ويُثبت التقدّم للإمام عليّ عليه السّلام.. يقول:
ويلكم! إنّه الدليل على اللّـ ـهِ وداعيهِ للهدى وأمينُهْ
كلُّ خيرٍ يَزينُهُم هـو فـيهِ ولَهُ دُونَهم خصالٌ تَزينُهْ
ويقول كذلك:
ففيه الذي فيهم من الخيرِ كـلِّهِ ومـا فيهمُ مِثلُ الذي فيه من حَسَنْ
وإنّ قـريـشاً لا تـشقّ غُبارَهُ إذا ما جرى يوماً على الضُّمَّرِ البُدُنْ
وصيّ رسول الله من دون أهلِهِ وفـارسُهُ قد كان في سالفِ الزَّمَنْ
حفل شعر خزيمة بالمديح الذي ركّز فيه على ذكر الفضائل والمناقب، وقد هزّته الشجاعة العلويّة فراح يتغزّل بها ويصف الفروسيّة والمواقف القتاليّة. وفي كلّ ذلك لا ينسى خزيمة أن يثبّت الفكرة الصحيحة والعقيدة السليمة، والأخلاق والقيم السامية.
ثمّ إنّ شعر خزيمة امتاز بالسلاسة والجماليّة والوضوح، مخلّفاً تراثاً خالداً وسجلاًّ حافلاً بالوقائع التاريخيّة، تنقل لنا صوراً حقيقيّة من حياة الإسلام والمسلمين، ومشاهدَ رائعة من المناقب والفضائل.. فيكون بذلك وثيقةً أدبيّة لتلك الفترة، وشاهداً تاريخياً يعضد الشواهد الصادقة الاُخرى.
شهادته:
روى الخطيب البغداديّ أنّ عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كنت بصفّين، فرأيت رجلاً راكباً متلثّماً.. يقاتل الناس قتالاً شديداً، يميناً وشمالاً، فقلت: يا شيخ، أتقاتل الناسَ يميناً وشمالاً ؟!
فحسَرَ عن عمامته ثمّ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: قاتِلْ مع عليٍّ وقاتل. وأنا خزيمة بن ثابت الأنصاريّ.
فكان خزيمة يجاهد أعداء الله وهو على بصيرة، وكان يعرف مَن هم الناكثون والقاسطون والمارقون، ولكنّه حينما رأى عمّاراً يقع شهيداً اشتدّ شوقه إلى لقاء الله تعالى، فلم يصبر حتّى استلّ سيفه وقاتل قتال مَن عشقَ الشهادة، فلا يريد رجعة من الحرب إلاّ وقد لحق بنبيّه وأحبّته، وهو الذي كان يقول قُبيل شهادته:
كم ذا يُرجّي أن يعيشَ الماكثُ! والناسُ موروثٌ وفيهم وارثُ
هـذا عـليٌّ.. مَـن عـصاه نـاكثُ
فخاض غمارَ المعركة، ونال ما تمنّاه من الشهادة المشرِّفة، فهي قتْلةٌ في طاعة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام وبين يديه، وهي قتلة على أيدي شِرار الخلق أعداء الله.
وحسب خزيمة بن ثابت من الإكرام والتجليل ما أبّنه به الإمام عليّ عليه السّلام وتلهّف عليه، وتشوّق إليه، وأثنى عليه.. حيث قال: أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضَوا على الحقّ ؟! أين عمّار، وأين ابن التيِّهان، وأين ذو الشهادتَين [ أي خُزَيمة بن ثابت ]، وأين نُظَراؤهم مِن إخوانهمُ الذين تعاقَدوا على المنيّة.. ؟! قال نَوف: ثمّ ضرب عليه السّلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء، ثمّ قال: أوَّه على إخوانيَ الذين تلَوُا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيَوُا السنّة، وأماتوا البدعة، دُعوا إلى الحرب فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه.
وبعد لوعة إمامه، نسمع لوعة ابنته ضبيعة بنت خزيمة ترثي أباها:
عينُ جُودي على خزيمةَ بالدَّمـْ ـعِ، قتيلِ الأحزابِ يومَ الفراتِ
قتلوا ذا الشـهـادتـيـنِ عتُوّاً أدركَ الله مـنهـمُ بـالـتِّـراتِ
لـعـنَ اللهُ مـعشـراً قَتلـوهُ ورَمـاهـم بالخِـزيِ والآفـاتِ
المصادر
1 ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ ـ مؤسّسة الأعلميّ، بيروت.
2 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير.
3 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلانيّ ـ دار إحياء التراث العربي، بيروت.
4 ـ الإكمال / ج 6، لابن ماكولا.
5 ـ تاريخ الطبريّ / ج 5.
6 ـ الخصال، للشيخ الصدوق ـ جامعة المدرّسين بقمّ.
7 ـ رجال العلاّمة الحليّ.
8 ـ رجال الكشيّ، للشيخ الطوسيّ.
9 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ ـ دار إحياء الكتب العربيّة في القاهرة.
10 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام / ج 2 للشيخ الصدوق ـ قمّ.
11 ـ الكافي / ج 7 للشيخ الكلينيّ ـ قمّ.
12 ـ الكامل في التاريخ / ج 3 لابن الأثير.
13 ـ الوافي بالوفيات / ج 3 للصفديّ ـ دار نشر فرانز شتاينز بفيسبادن.
14 ـ وقعة صفّين، لابن مزاحم المنقريّ ـ مكتبة المرعشيّ بقمّ.