النسب.. والمولد:
عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك... بن يَعرُب بن قَحطان.
وُلد بمكّة المكرّمة، إذ كان أبوه قدم إليها مع أخوين له يُقال لهما: مالك والحارث، بحثاً عن أخ رابع لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكّة وتزوّج بـ «سُميّة».. وقد استُشهِد والداه رضوان الله عليهما تحت وطأة التعذيب على أيدي جلاّدي قريش، فوقف رسول الرحمة صلّى الله عليه وآله يقول: صبراً آل ياسر ، فإنّ موعدكم الجنّة.
أمّا سنة ولادة عمّار، فتنحصر بين 53 و 57 قبل الهجرة النبويّة.
شهادات في إيمانه وولائه:
يُعدّ عمّار بن ياسر من القلّة القليلة التي شهد لهم الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السّلام بالدرجات الرفيعة والمراتب العالية من الإيمان.
• في كتاب الله تعالى تُذكر ظُلامته من جهة ويُوصف قلبه المؤمن بالاطمئنان من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة يُلتمَس له العذر ويُصبح موقفه حكماً شرعيّاً.. سأل سائلٌ الإمام الصادق عليه السّلام:
أرأيت أن أختار القتل ـ أي الاستشهاد ـ دون البراءة ـ أي من أمير المؤمنين عليه السّلام إجباراً ـ ؟ فأجابه الإمام عليه السّلام قائلاً:
واللهِ ما ذلك عليه وما له، إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل الله عزّوجلّ: إلاّ مَن اُكرِهَ وقلبُه مُطمئنٌّ بالإيمان (1)، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله عندها: يا عمّار، إن عادوا فعُد؛ فقد أنزل الله عزّوجلّ عُذرك، وأمرك أن تعود إن عادوا.
• وعن أبي جعفر الباقر عليه السّلام، وكذا عن ابن عبّاس في قوله تعالى: أوَ مَن كانَ مَيْتاً فأحيَيناهُ وجَعَلْنا له نوراً يمشي به في الناس.. (2) أنّه عمّار بن ياسر حين آمن، كمَن مثَلُه في الظُلماتِ ليس بخارجٍ منها ؟! أنه أبو جهل. وفي الروايات: وجَعَلْنا له نوراً يمشي به في الناس النور: الولاية، أو الإمام الذي يأتمّ به، يعني عليَّ بن أبي طالب صلوات الله عليه.
وقد كان عمّار رضوان الله عليه من أهل الولاية، ومن الموالين لأمير المؤمنين عليه السّلام والمخلصين المتفانين في محبّته، والمستشهَدين على هداه.
• أمّا كلمات رسول الله صلّى الله عليه وآله في عمّار فهي كثيرة ووافرة، وصريحة ومتظافرة.. تشير إلى جلالته ورفعة مقامه وسموّ درجاته في الدنيا والآخرة، من ذلك:
ـ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قَرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.
ـ مرحباً بالطيِّب المطيَّب.. ائذنوا له.
ـ دم عمّار ولحمه وعظمه حرام على النار.
ـ الجنّة تشتاق إليك [ أي: يا عليّ ] وإلى عمّار وإلى سلمان، وإبي ذرّ والمِقداد.
• وحين ألقته قريش في النار دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله قائلاً: يا نار كوني برداً وسلاماً على عمّار، كما كنتِ برداً وسلاماً على إبراهيم. فلم تصل إليه النار، ولم يصل إليه منها مكروه.
• ولمّا أخذ المسلمون يبنون مسجد المدينة، جعل عمّار يحمل حَجَرينِ حَجَرين، فمسح النبيّ صلّى الله عليه وآله ظهره ثمّ قال: إنّك من أهل الجنّة، تقتلك الفئة الباغية.
• وقال له مبشّراً: أبشر يا أبا اليقظان؛ فإنك أخو عليّ في ديانته، ومن أفاضل أهل ولايته، ومن المقتولين في محبّته، تقتلك الفئة الباغية، وآخر زادك من الدنيا ضياح من لبن (أي لبن رقيق كثير ماؤه).
الولاء الصادق:
تجلّى إيمان عمّار بالإمامة الحقّة من خلال مواقفه المشرّفة في الدفاع عن أمير المؤمنين عليه السّلام بيده ولسانه، مستدلاًّ على أحقيّته هاتفاً بقريش:
يا معشر قريش، يا معشر المسلمين، إن كنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بإرثه، وأقوَمُ بأمور الدين، وآمَنُ على المؤمنين، وأحفَظُ لملّته، وأنصح لاُمّته. فمُروا صاحبكم ليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم... فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعليٌّ من بينهم وليّكم بعهد الله ورسوله.
وقد قام هو وأبو ذرّ والمقداد فقالوا لأمير المؤمنين عليه السّلام: ما تأمر ؟ والله إن أمرتنا لنضربنّ بالسيف حتّى نُقتل، فقال عليه السّلام لهم: كُفّوا رحمكمُ الله، واذكروا عهد رسول الله وما أوصاكم به، فكَفُّوا.
ولعلم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله بوفاء عمّار وثباته أودعه بعض أسرار الإمامة، وعرّفه بأعلام الهدى والحقّ، يقول عمّار: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في بعض غزواته، وقَتَل عليّ عليه السّلام أصحاب الألوية وفرّق جمعهم، فأتيتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلت له: يا رسول الله، إنّ عليّاً قد جاهد في الله حقّ جهاده! فقال: لأنّه منّي وأنا منه، وارث علمي، وقاضي دَيني، ومُنجز وعدي، والخليفة بعدي، ولولاه لم يُعرَف المؤمن المحض. حربه حربي وحربي حرب الله، وسِلمه سلمي وسلمي سلم الله. ألا إنّه أبو سِبطَيّ والأئمّة، من صُلبه يُخرج الله تعالى الأئمّة الراشدين، ومنهم مهديّ هذه الاُمّة. فقلت: بأبي واُميّ يا رسول الله، ما هذا المهديّ ؟ قال: يا عمّار، إنّ الله تبارك وتعالى عَهِد إلي أنّه يخرج من صلب الحسين تسعة، والتاسع من وُلده يغيب عنهم، وذلك قول الله عزّوجلّ: قل أرأيتُم إنْ أصبَحَ ماؤُكم غَوراً فمَن يأتيكم بماءٍ مَعين ! يكون له غَيبة طويلة، يرجع عنها قوم ويثبت عليها آخَرون، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، ويقاتل على التأويل كما قاتلتُ على التنزيل، وهو سَميّي وأشبه الناس بي.
ثمّ قال صلّى الله عليه وآله يرشده ويُنبئه، بل ويبشّره:
يا عمار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتّبعْ عليّاً وحزبه، فإنّه مع الحقّ والحقّ معه. يا عمّار، إنّك ستقاتل بعدي مع عليٍّ صنفَين: الناكثين والقاسطين، ثم تقتلك الفئة الباغية.
منزلته:
حظي عمّار بن ياسر بمراقي الشرف والكرامة؛ لموالاته للنبيّ وآله صلوات الله عليه وعليهم.. فتسنّم المنازل الرفيعة والمراتب السامقة، إذ جرى ذِكر فضائله على لسان أهل بيت النبوّة والعصمة عليهم السّلام، فكان أحدَ «الأركان الأربعة» مع سلمان والمقداد وأبي ذرّ. وكان أحد الماضين على منهاج نبيّهم صلّى الله عليه وآله من جماعة الصحابة الأبرار الأتقياء الذين لم يبّدلوا تبديلاً. وكان رضوان الله عليه من السبعة الذين بهم يُرزَق الناس وبهم يُمطَرون، وبهم يُنصَرُون.. سيّدهم أمير المؤمنين عليه السّلام، ومنهم سلمان والمقداد وأبو ذرّ وعمّار وحذيفة وعبدالله بن مسعود، وهم الذين صَلَّوا على جثمان فاطمة الزهراء عليها السّلام.
وكان عمّار أحد الاثني عشر الذين قالوا بخلافة الإمام عليّ سلام الله عليه ووقفوا عند أمرهم ذاك وأنكروا خلافه ومخالفته. ولعمّار ـ بالخصوص ـ قيام وخطاب، واحتجاج واستدلال وجواب.. في موقف شجاع لا يقوم به إلاّ من كان ثابت الإيمان راسخ الاعتقاد.
وعمّار بن ياسر من شرَطة الخميس، وقد سئل الأصبغ: كيف سُمّيتم شرطة الخميس ؟ فقال: إنّا ضمِنّا له ـ أي لأمير المؤمنين عليه السّلام ـ الذَّبح، وضمنَ لنا الفَتح.
وقائع مهمّة، ومواقف مكرِّمة:
• يُعدّ عمّار بن ياسر من المسلمين الأوائل الذين تحمّلوا أصناف التعذيب والتنكيل.
• وهو من المهاجرين إلى المدينة.
• صلّى إلى القِبلتَين، واتّخذ في بيته مسجداً، وكان أوّل من بنى مسجداً في الإسلام.
• شهد بدراً والخندق والمشاهد كلّها، وقَتَل مجموعة من رؤوس الكفر والشرك.
• دعا إلى بيعة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، وكان من السابقين إلى الالتحاق به والمدافعين عنه حين هوجمت دار الزهراء عليها السّلام.
• كان عمّار من الخواصّ الذين صلَّوا على جثمان الصدّيقة فاطمة عليها السّلام، وشيّعوها ودفنوها سرّاً.
• ولي الكوفة، وشارك في فتح مدينة «تُستَر»، وساهم في تعبئة الجيوش لفتح «الريّ» و «الدستبى» و «نهاوند» وغيرها.
• مواقفه مشهودة في الاعتراض على السقيفة، والشورى التي غبنت حقوق الإمام عليّ عليه السّلام. وكان يجاهر بنصرة الحقّ ولم يُداهن الولاة، حتّى دِيست بطنه وأصابه الفتق وغُشي عليه.
• كان عمّار من المشاركين في توديع أبي ذرّ حين نُفي إلى الربذة، رغم المرسوم الصادر بالمنع من تشيعه، وقد هُدّد عمّار بالنفي وكاد يقع لولا احتجاج الإمام عليّ عليه السّلام وبني مخزوم.
• سارع إلى مبايعة أمير المؤمنين سلام الله عليه، ووبّخ الذين شقّوا عصا الطاعة وأحدثوا الفُرقة في عهد الخليفة الحقّ.
• توجّه بأمر الإمام عليّ عليه السّلام مع الإمام الحسن عليه السّلام ومِن بعدهما ثلّة من المؤمنين.. لعزل أبي موسى الأشعريّ عن الكوفة، واستنفار أهلها. فخطب هناك واحتجّ احتجاجات رائعة، وسحب أبا موسى من على المنبر.
• لشجاعته وشهامته وإقدامه.. ولاّه أمير المؤمنين عليه السّلام مناصبَ حربيّة عديدة في معركة الجمل. وقد قتل عدداً من صناديد جيش الناكثين، وشارك في عقر جمل الفتنة.
• كان من أوائل المشاوَرين في حكومة الإمام عليّ عليه السّلام، قُبيل واقعة الجمل وقبيل وقعة صفّين التي أبلى فيها بلاءً كبيراً، وقاتل فيها قتالاً شديداً، وما حجزه عن المواصلة إلاّ الليل، وكان له أثر واضح في الظفر.. ثمّ كان فيها شهادته المباركة رضوان الله عليه.
أدبه الرساليّ:
لمّا كان عمّار بن ياسر متميّزاً بالإيمان الثابت، والتضحية والإيثار، والبصيرة والوعي.. فقد انعكس ذلك كلّه على أدبه وشعره، متّسماً بالصدق كما اتّسم هو رضوان الله عليه بالثبات على المبادئ فلم يتقلّب في التيارات المنافقة، ولم ينجرف نحو المطامع والأهواء.
وكما كان عمّار نفسه غيوراً على الإسلام مدافعاً عنه بيده في حالة من الإخلاص والفداء.. كذا كان شعره يقاتل وهو يتحدّر من قلب مؤمن شجاع غيور.
وكم ارتجز مثيراً نخوة الجهاد، ومشوّقاً نفسه وإخوانه للشهادة ولُقيا الماضين من الشهداء!
وكم أنشد لوحاتٍ من المعاني الإسلاميّة الحقّة، يطلب بها مرضاة ربّه وسعادة الآخرة، وتثبيت الحقيقة!
وكان شعر عمّار مرآة عاكسةً لما جال في قلبه، فترنّم بأمجاد إمامه أمير المؤمنين عليه السّلام وفضائله، وتغنّى بمنهجه وهو الصراط المستقيم، ونابذ أعداءه الذين أخطأوا حظهم فاختاروا معصية الله تعالى. فكان يقول:
طلحةُ فيها والـزبيرُ غـادرُ والحـقّ في كفّ عليٍّ ظاهرُ
ويقول أيضاً:
سيروا إلى الأحزابِ أعداءِ النبي سيروا فخيرُ الناس أتباعُ عليّ
أمّا خطباته فهي مثمرة بروائع من الكلمات والاحتجاجات الغلاّبة، فيصدع بالمتخاذلين والناكثين والمنهزمين قائلاً:
ـ معاشر المسلمين، إنّا قد كنّا وما نستطيع الكلام؛ قلّةً وذِلّة.. فأعزّنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله ربّ العالمين.
يا معشرَ قريش، إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟! تحوّلونه ها هنا مرّة، وها هنا مرّة، وما أنا آمنٌ أن ينزعه الله منكم ويضعَه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.
وكأنّنا بعمّار رضوان الله عليه يترسّم خطى إمامه عليه السّلام ويقتدي به في بيان الحقّ ونصرته، وفضح الباطل وتخذيله.
الشرف المختار:
من عنايات الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين المخلصين.. أن اختار لهم خاتمة الشرف والكرامة، حيث رُزقوا الشهادة ولو بعد عمر مديد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله بشّره قائلاً:
ـ يا عمّار، إنّك ستتقاتل بعدي مع عليٍّ صنفين: الناكثين والقاسطين، ثمّ تقتلك الفئة الباغية. وهنا يتساءل عمّار سؤال الرجال الكبار: يا رسول الله، أليس ذلك على رضى الله ورضاي ؟ فيقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: نعم، على رضى الله ورضاي، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.
وكانت صفّين.. فخرج عمّار بن ياسر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قائلاً: يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال ؟ قال: مهلاً رحمك الله. فلمّا كان بعد ساعة أعاد عليه، فأجابه بمثله، فأعاد عليه ثالثة، فبكى أمير المؤمنين عليه السّلام إذ يرى عمّاراً يلحّ على أجَله وقد اقترب منه، فيقول عمّار: يا أمير المؤمنين، إنّه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وهنا ينزل أمير المؤمنين عليه السّلام عن فرسه ويعانق عمّاراً يودّعه، ويقول له: يا أبا اليقظان، جزاك الله عن الله وعن نبيّك خيرا، فنِعم الأخُ كنت، ونعم الصاحب كنت. ثمّ بكى عليه السّلام وبكى عمّار وقال: يا أمير المؤمنين، ما تبعتك إلاّ ببصيرة، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم خيبر: يا عمّار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتّبع عليّاً وحزبه؛ فإنّه مع الحقّ والحقُّ معه، وستقاتل الناكثين والقاسطين. فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فقد أدّيت وأبلغت ونصحت.
ثمّ ركب، وركب أمير المؤمنين عليه السّلام، وبرز عمّار إلى القتال وقد دعا بشربة من ماء، فقيل له: ما معنا ماء، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن، فشربه ثمّ قال: هكذا عهد إليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من اللبن.
وما برز عمّار إلاّ متثبّتاً على البيّنة والمحجّة، فحين شرب ضياح اللبن قال: الجنّة، تحت الأسنّة، ثمّ قال:
اليومَ ألقى الأحبّهْ مـحمّداً وحـزبَهْ
والله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات «هَجَر» لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل. ثمّ حمل على القوم فقتل منهم ثمانية عشر، وحمل عليه ابن جَون السكونيّ وأبو العادية الفزاريّ، فكان الفزاريّ أن طعنه، أما ابن جون فقد احتزّ رأسه.
جرى ذلك في شهر صفر من سنة 37 من الهجرة الشريفة، وكان عمر عمّار يوم استُشهد رضوان الله عليه واحداً وتسعين عاماً، أو أربعاً وتسعين.. شيبةً كريمة مجاهدة، وشخصيّة صبورة مضحّية، فقد قضى وهو على طاعة إمامه، مجاهداً بين يدَيه، مدافعاً عن مبادئه الإلهيّة الحقّة، بعد أن تحمّل أنواع المآسي من أجل دينه وعقيدته.
وأخيراً حصل على بغيته، فنال وسام الشهادة، وسعد وفاز.. إلاّ أنّه خلّف إمامه أمير المؤمنين عليه السّلام متلهّفاً متأسّفاً عليه، حزيناً مكتئباً على فراقه، متشوّقاً إليه، متذكّراً أحبّته الذين فارقوه، يقول:
ـ أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضَوا على الحقّ ؟! أين عمّار، وأين ابن التَّيِّهان، وأين ذوالشهادتين ؟! وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، وأُبرِد برؤوسهم إلى الفجرة ؟!
ثمّ ضرب عليه السّلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء ثمّ قال: أوِّهِ على إخواني الذين تلَوُا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيَوُا السنّة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه.
وسمع معاوية الخبر فأظهر فرحه وشماتته بشهادة هذا الصحابيّ الجليل، فكان يقول: كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان، قُطعت إحداهما يوم صفّين ـ يعني عمّار بن ياسر..
أمّا أمير المؤمنين عليه السّلام فقد أبّنه أروع تأبين، واقفاً عليه وقفة إكبار وإجلال واعتزاز، إذ جاءه إلى مصرعه وجلس إليه ووضع رأسه في حِجره وأنشد يقول:
ألا أيّها الموت الذي هو قاصدي أرحني فقد أفنيتَ كلّ خليلِ
أراك بـصـيـراً بالذين أحبُّهُم كـأنّك تنحو نحوَهم بدليلِ
ثمّ حمله، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول:
وما ظبيةٌ تسبي القلوب بطَرفِها إذا التـفـتَـت خِلْنا بأجفانها سِحْرا
بأحسنَ ممّن كلّل السيفُ وجهَهُ دَماً في سبيل الله حتّى قضى صبرا
ثمّ قال عليه السّلام: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، إنّ امرأً لم تدخل عليه مصيبة مِن قتل عمّار فما هو من الإسلام في شيء. ثمّ قال: رحم الله عمّاراً يوم يُبعث، ورحم الله عمّاراً يوم يُسأل... قاتلُ عمّار، وسالب عمّار، وشاتم عمّار في النار.
ثمّ إنّه عليه السّلام صلّى عليه، ودفنه بثيابه.
المصادر
1 ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ ( ق 6هـ ) ـ منشورات الأعلميّ، بيروت 1403هـ.
2 ـ الاختصاص، للشيخ المفيد ( ت 413هـ ) ـ قمّ 1402هـ.
3 ـ الإرشاد، للشيخ المفيد ـ قمّ.
4 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبدالبرّ ( ت 463 هـ ) تحقيق البجاويّ ـ مصر.
5 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير ( ت 630 هـ ) ـ دار إحياء التراث العربيّ.
6 ـ أمالي الشيخ المفيد ـ قمّ.
7 ـ الإمامة والسياسة، لابن قتيبة ( ت 276 هـ ) ـ قمّ 1413هـ.
8 ـ أنساب الشراف، للبلاذريّ ( ق 3 هـ) ـ دار الفكر، بيروت 1403هـ.
9 ـ تاريخ بغداد، للخطيب البغداديّ.
10 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام ـ قمّ.
11 ـ تنقيح المقال، لعبد الله المامقانيّ.
12 ـ الجَمل، للشيخ المفيد ـ مكتبة الإعلام الإسلاميّ، قمّ 1413هـ.
13 ـ جمهرة أنساب العرب.
14 ـ الخصال، للشيخ الصدوق ( ت 381 هـ ) ـ قمّ 1403هـ.
15 ـ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، للسيّد علي خان المدنيّ ( ت 1120 هـ ) ـ قمّ 1397هـ.
16 ـ رجال الكشّيّ أو اختيار معرفة الرجال، للطوسيّ ( ت 460 هـ ) ـ قمّ 1404هـ.
17 ـ السقيفة وفدك، للجوهريّ ( ت 323 هـ )، تحقيق محمد هادي الأمينيّ ـ طهران 1401هـ.
18 ـ سير أعلام النبلاء، للذهبيّ.
19 ـ سيرة ابن هشام ـ أو السيرة النبويّة، لابن هشام الحميريّ ( ت 218 هـ ) ـ مصر 1329هـ.
20 ـ الشافي في الإمامة، للشريف المرتضى ( ت 436 هـ ) ـ طهران 1410هـ.
21 ـ شذرات الذهب، لابن العماد الإصفهانيّ.
22 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ( ت 656 هـ ) ـ دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة 1385هـ.
23 ـ الطبقات الكبرى، لابن سعد ( ت 230 هـ ) ـ دار الفكر، بيروت.
24 ـ العقد الفريد، لابن عبد ربّه ( ت 328 هـ ) ـ دار الكتب العلميّة، بيروت 1407هـ.
25 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للشيخ الصدوق ـ قمّ 1985م.
26 ـ الفتوح، لابن أعثم الكوفيّ ( ت 314 هـ ) ـ دار الكتب العلميّة، بيروت 1406هـ.
27 ـ الكامل في التاريخ، لابن الأثير ـ دار صادر، بيروت 1385هـ.
28 ـ كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السّلام، للإربلّيّ ( ت 693 هـ ) ـ المطبعة العلميّة، قمّ 1381هـ.
29 ـ كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر، للخزّار الرازيّ.
30 ـ المعارف، لابن قتيبة.
31 ـ المغازي، للواقديّ ( ت 207 هـ ) ـ مؤسّسة الأعلميّ، بيروت 1409هـ.
32 ـ نور الثقلين، للحويزيّ ( ت 1112 هـ ) ـ قمّ.
33 ـ الوافي بالوفيات، للصفديّ ( ت 767 هـ ) ـ دار فرانز شتاينز 1401هـ.
34 ـ وقعة صفّين، لابن مزاحم المنقريّ.