عبد الله بن جعفر
لا أراني
بحاجة إلى التحدّث عن حياة جعفر الطيّار ـ رضوان الله عليه ـ والد عبد الله
، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن حياة سيدنا أبي طالب ( عليه السلام ) أو
عقيل أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأسرة ، الذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي
طالب.
وإنّما المقصود ـ هنا ـ هو التحدّث عن حياة عبد الله بن جعفر ، وذلك
لكونه زوج السيدة زينب الكبرى عليها السلام.
كان عبد الله شخصيّة لامعة في عصره ، يمتاز عن غيره نسباً وحسباً ،
وجوداً وكرماً ، فقد ذكره أرباب التراجم ـ من الفريقين ( السُنّة والشيعة )
في كتب التاريخ والحديث والرجال ـ بكلّ ثناء وتقدير ، وعدوّه من أصحاب رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإمام أمير المؤمنين ، والإمام الحسن
والإمام الحسين والإمام السجاد ( عليهم السلام ).
وقد كان رابِط الجأش (1) قويّ القلب ،
شُجاعاً ، شملته ـ في طفولته ـ بركة دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) وامتدّت إلى آخر حياته.
فقد ذكر سبطُ إبن الجوزي في كتابه ( تَذكرة الخواص ) في ذِكر أولاد
جعفر بن أبي طالب :
« عبد الله ، وبه كان يُكنّى (2) ، ومحمد
، وعَون ، وأمّهم : أسماء بنت عميس ، ولدتهم بأرض الحبشة
(3) وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهجرة
الثانية.
وأشهرهم : عبد الله ، وكان من الأجواد ، وهو من الطبقة الخامسة
(4) ممّن توفّي رسول الله ( صلى الله عليه
وآله وسلم ) وهو حَدث ، ولمّا ولدته أمّه أسماء بالحبشة ، وُلد ـ بعد ذلك
بأيّام ـ للنجاشي وَلَد (5) فسمّاه عبد الله ، تبرّكاً باسمه ، وأرضعت
أسماءُ عبد الله بن النجاشي بلَبَن ابنها عبد الله.
(6)
وقال ابن سعد في كتاب ( الطبقات ) (7) :
حدّثنا الواقدي ، عن محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبي يعلى ، قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول : « أنا أحفظُ حينَ دخل رسول الله ( صلى
الله عليه وآله وسلم ) على أمّي فنعى إليها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على
رأسي ورأس أخي وعيناه تَذرفان ـ أو تهرقان ـ بالدموع حتّى تقطر لحيته.
ثم قال : « اللهم إنّ جعفراً قد قَدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في
ذريّته بأحسن ما خلفت أحداً مِن عبادك في ذريّته ».
الذين حضروا يوم بدر قِسماً خاصاً وطبقة اولى ، وهكذا ... وحسب تقسيمه جعل عبد الله بن جعفر من الطبقة الخامسة.
ثمّ قال : «
يا أسماء ! ألا أُبشّركِ ؟ »
قالت أمّي : بلى ، بأبي انت وأمّي يا رسول الله !
قال : « فإن الله قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة ».
فقالت : يا رسول الله فأعلم الناس بذلك.
فقام رسول الله فأخذ بيدي ومسح برأسي ، ورقى المنبر ، فاجلسني أمامه
على الدرجة السفلى ـ والحزن يُعرف عليه ـ (8)
فتكلّم وقال :
« إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا : إنّ جعفراً قد استشهد ، وقد
جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنّة ».
ثم نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودخل بيته وأدخلني معه ،
وأمر بطعام فصُنع لأهلي.
ثمّ أرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده غذاءً طيّباً مباركاً ...
وأقمنا ثلاثة أيام ، ندور معه في بيوت أزواجه ثم رجعنا إلى بيتنا.
فأتانا رسول الله وأنا أُساوم بشاة أخاً لي (9)
، فقال : « اللهم بارِك له في صفقته » (10) ،
فما بِعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه ». (11)
ولعبد الله بن جعفر حوار وكلام في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، يدلّ على
ما كان يتمتّع به عبد الله من قوّة القلب ، وثَبات الجَنان ، والإيمان
الراسخ بالمبدأ والعقيدة ، وعدم الإكتراث بالسلطات الظالمة الغاشمة.
أضف إلى ذلك الفصاحة والبلاغة ، والمستوى الأدبي الأعلى الأرقى. فقد
ذكر إبن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) عن المدائني :
قال : بينا معاوية ـ يوماً ـ جالس ، وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن
(12) : قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
فقال عمرو : والله لأسوأنّه اليوم !
فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فإنّك لا تنتصف منه ، ولعلّك
أن تُظهر لنا من مغبّته ما هو خفيّ عنّا ، (13)
وما لا نحبّ ان نعلمه منه !!
وغشيهم عبد الله بن جعفر (14) فأدناه
معاوية وقرّبه.
فمال عمرو إلى جُلساء معاوية فنال مِن علي ( عليه السلام ) جهاراً غير
ساترٍ له ، وثلبه ثلباً قبيحاً !! (15)
فالتمع لون عبد الله ، واعتراه الأفكَل (16)
حتى أرعدت خصائله (17) ثم نزل عن السرير
كالفنيق (18) فقال عمرو : مَه يا أبا جعفر ؟
فقال له عبد الله : مَه ؟ لا أمّ لك ؟ ثم قال :
أظنّ الحِلمَ دلّ عليّ قومي وقد يتجهّل الرجل الحليم
ثمّ حسَر عن ذراعيه (19) ، وقال :
يا معاوية ! حتى متى نتجرّع غيظك ؟
وإلى كم الصبر على مكروه قولك ، وسيّئ أدبَك ، وذَميم أخلاقك ؟
هَبَلَتك الهبول !! (20)
أما يَزجُرك ذمامُ المجالسة من القَذع لجليسك
(21) إذا لم يكن له حرمة من دينك تَنهاك عمّا لا يَجوز لك ؟!
أما : والله لو عطفتك أواصر الأرحام ، أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام ما
أرخَيتَ ـ لبني الإماء المُتك (22) والعَبيد
المُسك (23) ـ أعراض قومك.
وما يَجهل موضع الصَفوة إلا أهل نَجوة (24).
وإنّك لتعرف وشائط قريش (25) ، وصقوة
عوائدها ، فلا يَدعوّنك تصويبُ ما فَرط مِن خَطاك في سفك دماء المسلمين ،
ومُحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ،
فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عمهُك عن سبيل الرشد
(26) ، وخَبطُك في دَيجور ظلمة الغيّ ، فإن أبَيت إلا أن تُتابعَنا
في قُبح اختيارك لنفسك فاعفِنا عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإيّاك الندي
(27) ، وشأنُك وما تريد إذا خلَوت ، والله
حسيبُك ، فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك.
ثم قال : إنّك إن كلّفتني ما لم أُطِق ساءك ما سرّك منّي مِن خُلق.
فقال معاوية : يا أبا جعفر : اقسمتُ عليك لَتجلسنّ ، لعن الله من أخرجَ
ضبّ صدرك مِن وجاره (28) ، محمولٌ لك ما قلتَ
، ولكَ عندنا ما أمّلت ، فلو لم يكن مَجدك ومَنصِبُك لكان خَلقُك وخُلُقك
شافِعَين لك إلينا ، وأنت إبن ذي الجناحين وسيد بني هاشم.
فقال عبد الله : كلا ، بل سيّدا بَني هاشم حسنٌ وحسين ، لا يُنازعهما
في ذلك أحَد.
فقال معاوية : يا أبا جعفر أقسمتُ عليك لما ذكرتَ حاجة لك قضيتها
كائنةً ما كانت ، ولو ذهبت بجميع ما أملك.
فقال : أمّا في هذا المجلس فلا.
ثمّ انصَرف ، فأتبعه معاوية بصُرّة. (29)
فقال : والله لَكأنّه رسول الله ، مشيُه وخَلقه وخُلقه وإنّه لمن شكله ،
ولودَدتُ أنّه أخي بنفيس ما أملك.
ثمّ التفت إلى عمرو فقال : أبا عبد الله ما تَراه منَعَه مِن الكلام
معك ؟
قال : ما لا خفاء به عنك.
قال : أظنّك تقول : إنّه هابَ جوابك ، لا والله ولكنّه ازدَراك
(30) واستحقَرك ولم يَرك للكلام أهلاً ، أما
رأيت إقباله عليَّ دونَكَ ، زاهداً بنفسه عنك.
فقال عمرو : هل لك أن تَسمع ما أعددته لجوابه ؟
قال معاوية : إذهب ، إليك أبا عبد الله ، فلاتَ حين جواب سائر اليوم
(31) ، ونهض معاوية وتفرّق الناس.
(32)
_______________________
1 ـ
الجأش : النَفس ، والقَلب. يُقال : هو رابط الجأش أي : ثابتٌ عند الشدائد ،
وقويّ القلب في الحروب والمنازعات. المحقق
2 ـ أي : وكان جعفر يُكنّى بـ « أبي عبد الله ».
3 ـ بلاد الحبشة : هي دولة « إثيوبيا » المعاصرة ، وعاصمتها « اديس آبابا »
، وهي تَقع في قارّة إفريقيا ، يَحُدّها من الشمال والغرب : جمهورية
السودان ، ومِن الشرق : البحر الأحمر وجمهورية الصومال ، ومن الجنوب :
الصومال وكينيا. المحقق
4 ـ لقد قسّم مؤلّف كتاب « الطبقات الكبرى » صحابة رسول الله ( صلى الله
عليه وآله وسلم ) إلى تقسيمات خاصّة ، وبكيفيّة معيّنة تَبادرت إلى ذِهنه ،
وعبّر عن كلّ قسم بـ « الطبقة » فجعل ـ مثلاً ـ الصحابة
5 ـ النجاشي : لقب مَلِك الحبشة يومذاك ، واسمه : الاصحَم بن أبجر.
6 ـ المصدر : كتاب « تذكرة الخواص » لسبط ابن الجوزي ، ص 189.
7 ـ على ما حكاه عنه سبط إبن الجوزي في كتابه « تذكرة الخواص » ص 189 ـ
190.
8 ـ أي : والحزن ظاهر على ملامح وجهه الكريم.
9 ـ أساوم : المساومة : طلب البائع المُغالاة في الثمن ، طلب المُشتري
التَخفيض في ذلك. وقيل : هو الكلام الذي يَسبق المُعاملة التجارية. «
المحقق »
10 ـ الصفقة : ضرب اليد على اليد في البيع. وكان العرب إذا أرادوا إنهاء
معاملة البيع ضَرَب أحدهما يده على يد صاحبه. والمعنى : اللهم بارك له في
صفقاته التجارية ومعاملاته. « المحقق »
11 ـ تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، ص 189 ـ 190.
12 ـ الآذِن : الحاجِب ، ويُعبّر عنه ـ حاليّاً ـ بالسكرتير والبَوّاب.
13 ـ مغبّته : عاقبة أمره. وفي نسخة : من منقبته ما هو خفيّ عنا.
14 ـ غشيَهم : دخل عليهم.
15ـ ثلبه : تنقّصه وذكر معايبه. ومن الواضح أنّه لم يكن في الإمام أمير
المؤمنين علي ( عليه السلام ) عيب أو منقصة ، لكنّ الأكاذيب لها دورها ،
والنفسيات اللئيمة القذرة تُعبّر عن هويّتها ونواياها ، وتظهر عن طريق
تصرّفات الإنسان وسلوكه. وكلّ من يدير ظهره للحق لابدّ له أن يَسحق وجدانه
، ويُسكّت إرسالات تأنيب الضمير .. بالأكاذيب والتُهم التي يعلم ـ بنفسه ـ
زيفَها. ثمّ إنّ محاولة التزلّف إلى معاوية تجعل القبيح حَسناً والحسن
قبيحاً. المحقّق
16 ـ الأفكَل : رَجفة شديدة تعتري الإنسان عند شدّة الغضب أو شدّة الخوف أو
البرد.
17 ـ ذُكر في أكثر كتب اللغة : أنّ الخصائل ـ جمع خصيلة ـ : كلّ لحمة فيها
عصَب. والظاهر أنّ شدة الغضب جَعلت الرجفة تظهر على ملامح عبد الله وعلى
يديه وأعضاء جسمه. المحقق
18 ـ الفنيق ـ من الناقة ـ : الفحل المُقرم الذي لا يؤذي ولا يُركَب. كما
عن كتاب « العين » للخليل بن أحمد ، وجاء فيه ـ أيضاً ـ ناقة فَنَق :
جَسيمة وحَسَنة الخَلق.
ولعلّ تشبيه عبد الله بالفنيق .. لأنّه كان ضخم الجسم. المحقق
19 ـ أي : رَفَع أكامم ثوبه وكشف عن ذراعيه ، إستعداداً للمواجهة الشديدة
والحرب الكلاميّة مع معاوية ، الذي سكت عن الموقف العدواني لعمرو ، حيث إنّ
المتكلّم الذي يريد استعمال إشارات يديه أثناء الكلام الجادّ .. يَرفع
أكمامه ، مع الإنتباه إلى الأكمام الواسعة الطويلة التي كانت مُتعارفة في
ملابس ذلك الزمان. المحقق
20 ـ هبلتك الهَبول : هَبَلَت الأمّ ولدها : ثكلته ، فهي هَبول. كما في
المعجم الوسيط.
21 ـ أي : أما يَمنعُك آداب المجالسة مَن منع مَن يريد إهانة جليسك وجَرح
مشاعره ؟!
22ـ الإماء ـ جَمع أمَة ـ : العَبدة. المُتك ـ بضمّ الميم ـ : جَمع متكاء :
المرأة المُفضاة : وهي التي تَمزّق منها الغشاء الفاصل بين مخرج البول
ومجرى دم الحيض ـ بسبب كثرة إستقبالها للرجال !! ـ وقيل : هي المرأة التي
لا تستطيع ضَبط نفسها من البول. قال الخليل بن أحمد ـ في كتاب « العين » ـ
: يُقال في السبّ : يابن المَتكاء. المحقق
23 ـ المُسَك ـ جَمع مَسيك ـ : البَخيل.
24 ـ لعلّ المعنى : وما يَجهل مكانة الشرفاء إلا أصحاب النفوس الدنيئة ،
ونَجوة : المحل الذي يُتغوّط فيه. وفي نسخة : وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل
الجفوة. المحقق
25 ـ وشائظ : السَفَلة ، أو الدُخَلاء في القوم ، لَيسوا مِن صَميمهم. كما
في « لسان العرب » لابن منظور.
26 ـ عَمهُك : تَرَدّيك في الضلالة. كما يُستفاد من كتاب « العَين » للخليل
بن أحمد.
27 ـ النَديّ والنادي : مجلس القوم ، والجمعُ : أندية. ويُعبّر عنه حاليّاً
بـ « الديوان » و « الديوانيّة ». المحقق
28ـ أي : أخرَج غَيظ صدرك من مكانه ، أو : مِن حلقِك. يقال : وَجَرَ
فُلاناً : أي : أسمعه ما يَكره. كما في كتاب المعجم الوسيط.
29 ـ وفي نسخة : ببَصَره.
30 ـ إزدراك : إحتَقَرك واستخفّ بك.
31 ـ أي : ليس الآن وقتُ ذكرك للجواب. أو : لا أريد أن أسمع جوابك الآن ..
إلى آخر النهار.
32 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، طبع مصر ، عام 1385 هـ ، ج 6 ص
295 ـ 297.