أبو طالب منزلته
وإسهامه في الإسلام *
عبد مناف بن عبد المطّلب ، المشهور بأبي طالب ، أحد العشرة من أولاد عبد المطّلب (١) . وكان عبد المطّلب الوجه المتألِّق في قريش ، وله منزلته السامقة في أوساطها . ثمّ جاء بعده ولده أبو طالب فورث تلك المكانة الاجتماعيّة العليّة (٢) . وكانت أُسرة أبي طالب أوّل الأُسر التي اجتمع فيها زوجان هاشميّان (٣) .
تولّى أبو طالب رعاية النبي ( صلّى الله عليه وآله ) الذي فقد أبويه في طفولته ، ثمّ فقد جدّه (٤) . ولمّا بُعث أمين قريش ( صلّى الله عليه وآله ) ، لم يدّخر أبو طالب وسعاً في دعمه ومؤازرته على ما هو بسبيله في مسيرته الجهادية الشاقّة .
وآمن به أرسخ الإيمان (٥) ، وأصحر بذلك في شِعره (٦) . وكانت منزلته الاجتماعيّة السامية بين قريش وأهل مكّة ، ودعمه السخي لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ حائلَين أصليّين دون وصول الأذى إليه ( صلّى الله عليه وآله ) من قريش (7) .
رافقه في حصار الشِّعب ، وتحمّل مصائب المقاطعة الاقتصاديّة على كبر سنّه ، ولم يتنازل عن معاضدته ومواساته (8) .
وكان له حقّ عظيم على الإسلام والمسلمين في غربة الدين يومئذٍ . وبعد خروجه من الشِّعب فارق الحياة حميداً . ففَقَدَ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بوفاته ووفاة خديجة ( عليها السلام ) عضدَين وفيَّين مضحِّيين . واشتدّ أذى قريش وتعذيبها للمؤمنين عقب ذلك (9) .
وهذه بعض النصوص التي تبيِّن إيمانه ومنزلته ( عليه السلام ) :
1 ـ كمال الدين عن الأصبغ بن نباتة : سمعت أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول : ( والله ، ما عبد أبي ، ولا جدِّي عبد المطّلب ، ولا هاشم ، ولا عبد مناف صنماً قطّ ) ، قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : ( كانوا يصلّون إلى البيت ، على دين إبراهيم ( عليه السلام ) ، متمسّكين به ) (10) .
2 ـ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ أبا طالب أظهر الكفر وأسرَّ الإيمان . فلمّا حضرته الوفاة ، أوحى الله عزّ وجلّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : اخرج منها ; فليس لك بها ناصر ؛ فهاجر إلى المدينة ) (11) .
3 ـ عنه ( عليه السلام ) : ( كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُعْجِبُه أن يُروى شعر أبي طالب وأن يُدوَّن ، وقال : تعلَّموه وعلِّموه أولادكم ; فإنّه كان على دين الله ، وفيه علم كثير ) (12) .
4 ـ وفي كتاب " إيمان أبي طـالب " عن علي بن محمّد الصوفي العلوي العمري : أنشدني أبو عبد الله بن منعية (13) الهاشمي ـ معلِّمي بالبصرة ـ لأبي طالب :
لَقَد أَكرَمَ اللَهُ النَبِيَّ مُحَمَّداً = فَأَكرَمُ خَلقِ اللَهِ في الناسِ أَحمَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِن اسمه لِيُجِلَّهُ = فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ (14)
5 ـ وفي كتاب " إيمان أبي طـالب " عن ضوء بن صلصال : كنت أنصر النبي ( صلّى الله عليه وآله ) مع أبي طالب قبل إسلامي ، فإنِّي يوماً لجالس بالقرب من منزل أبي طالب في شدّة القيظ ، إذ خرج أبو طالب إليّ شبيهاً بالملهوف ، فقال لي : يا أبا الغضنفر ، هل رأيت هذين الغلامين ؟ ( يعنى النبي وعليّاً (صلوات الله عليهما) ) فقلت : ما رأيتهما مذ جلست ، فقال : قم بنا في الطلب لهما ; فلست آمَنُ قريشاً أن تكون اغتالتهما .
قال : فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكّة ، ثمّ صرنا إلي جبل من جبالها ، فاسْتَرْقيناه إلى قُلَّته ، فإذا النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) عن يمينه وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان ويسجدان . قال : فقال أبو طالب لجعفر ابنه : صِل جناح ابن عمّك ، فقام إلى جنب علي ، فأحسّ بهما النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فتقدّمهما ، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا ممّا كانوا فيه ، ثمّ أقبلوا نحونا ، فرأيت السرور يتردّد في وجه أبي طالب ، ثمّ انبعث يقول :
إِنَّ عَلِيّاً وَجَعفَراً ثِقَتي = عِندَ مُلِمِّ الزَّمَانِ والنُّوَبِ
لا تَخذُلا وَاِنصُرا اِبنَ عَمِّكُما = أَخي لأُمّي مِن بَينِهِم وَأَبي
وَاللَهِ لا أَخذُلُ النَبِيَّ وَلا = يَخذُلهُ مِن بَنِيَّ ذو حَسَبِ (15)
6 ـ وفي كتاب " الفصول المختارة " في ذكر ما جرى في شِعب أبي طالب : لمّا نامت العيون ، جاء أبو طالب ومعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وأضجع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مكانه ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا أبتاه ، إنِّي مقتول ، فقال أبو طالب :
إِصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصَبرُ أَحجى = كُلُّ حَيٍّ مَصيرُهُ لِشَعوبِ
قد بذلناك والبلاءُ شديدٌ = لفِدَاءِ النجيبِ وابن النجيبِ
لِفِدَاءِ الأَغَرِّ ذي الحَسَبِ الثا = قِبِ وَالباعِ والفِنَاءِ الرَّحِيْبِ
إِن تُصِبكَ المَنونُ فَالنَبلُ تَتَرى = فَمُصيبٌ مِنها وَغَيرُ مُصيبِ
كُلُّ حَيٍّ وَإِن تَمَلّى بِعَيْشٍ = آخِذٌ مِن سِهَامِها بِنَصيبِ
قال : فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
نصر
أتَأمُرُني بالصَّبرِ في نَصرِ أحمدٍ = و والله ما قُلتُ الَّذي قلتُ جازعا
ولكنَّني أحببتُ إظهارَ نُصرتي = وتعلمَ أنّي لم أزل لك طائعا
وسَعْيِي لوجه اللهِ في نَصرِ أحمدٍ = نبيِّ الهُدي المَحمودِ طفلاً ويافعا (16)
7 ـ وفي كتاب " الكافي " عن إسحاق بن جعفر ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قيل له : إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافراً ؟ فقال : ( كذبوا ، كيف يكون كافراً وهو يقول :
ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّا وَجَدنا مُحَمَّداً = نَبِيَّاً كَمُوسى خُطَّ في أوَّلِ الكُتُبِ )
وفى حديث آخر : ( كيف يكون أبو طالب كافراً وهو يقول :
لَقَد عَلِموا أنَّ ابنَنَا لا مكذَّبٌ = لدينا ولا يعْبأ بقِيل الأباطِلِ
وَأبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بوجْهِهِ = ثِمالُ اليتامى عِصمةٌ للأرامِلِ ) (17)
8 ـ وفي كتاب " إيمان أبي طـالب " عن الحسن بن جمهور العمي يرفعه : قيل لتأبّط شرّاً الشاعر ـ واسمه : ثابت بن جابر ـ : مَن سيّد العرب ؟ فقال : أُخبرُكم : سيّد العرب أبو طالب بن عبد المطّلب .
وقيل للأحنف بن قيس التميمي (18) : من أين اقتبست هذه الحِكَم ، وتعلّمت هذا الحِلْم ؟ قال : من حكيم عصره وحليم دهره ; قيس بن عاصم المنقري (19) . ولقد قيل لقيس : حلمَ مَن رأيتَ فتحلّمت ؟ وعِلْمَ مَن رويتَ فتعلّمت ؟ فقال : من الحليم الذي لم تحلّ قطّ حبْوته ، والحكيم الذي لم تنفد قطّ حكمته ; أكْثَم بن صَيْفي التميمي (20) . ولقد قيل لأكثم : ممّن تعلّمت الحِكَم والرئاسة والحِلْم والسياسة ؟ فقال : من حليف الحلم والأدب ، سيّد العجم والعرب ; أبي طالب بن عبد المطّلب (21) .
ـــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس وتنسيق
(مع تصرُّفٍ يسير ) قسم المقالات في " شبكة
الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) للتراث والفكر الإسلامي " ، عن :
الريشهري ، محمد ، ( بمساعدة : الطباطبائي ، السيد محمد كاظم ، والطباطبائي
، السيد محمود ) ،
" موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في الكتاب
و
السُّـنَّة و التاريخ " ،
تحقيق : مركز بحوث دار الحديث ، دار الحديث للطباعة والنشر ـ قم ، ج 1 ، ط
2 ، 1425 هـ ، ص 63 ـ 68 .
ملاحظة : عنوان
المقال أعلاه من وضع " شبكة الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) للتراث
والفكر الإسلامي " .
(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١١ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢١٩ .
(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٣ .
(٣) الكافي : ١ / ٤٥٢ ; المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ١١٦ / ٤٥٧٣ ، فضائل الصحابة لابن حنبل : ٢ / ٥٥٥ / ٩٣٣ ، المعجم الكبير : ١ / ٩٢ / ١٥١ ، سير أعلام النبلاء : ٢ / ١١٨ / ١٧ ، أُسد الغابة : ٧ / ٢١٣ / ٧١٧٦ ، الاستيعاب : ٤ / ٤٤٦ / ٣٤٨٦ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ١٤ ، المناقب لابن المغازلي : ٦ / ٢ ، المناقب للخوارزمي : ٤٦ / ٩ .
(٤) الطبقات الكبرى : ١ / ١١٩ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٧٧ ، مروج الذهب : ٢ / ٢٨١ ، أنساب الأشراف : ١ / ١٠٥ .
(٥) الكافي : ١ / ٤٤٨ / ٢٨ ـ ٣٣ ، الأمالي للصدوق : ٧١٢ / ٩٧٩ .
(٦) الكافي : ١ / ٤٤٨ / ٢٩ ، الأمالي للصدوق : ٧١٢ / ٩٨٠ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣١ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٢٢ ; السيرة النبويّة لابن هشام : ١ / ٣٧٧ ، شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٧٧ .
(7) السيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ٥٧ .
(8) الطبقات الكبرى : ١ / ٢٠٩ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٣٣٦ ، الكامل في التاريخ : ١ / ٥٠٤ ، السيرة النبويّة لابن هشام : ١ / ٣٧٦ .
(9) الطبقات الكبرى : ١ / ٢١١ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٣٤٣ ، الكامل في التاريخ : ١ / ٥٠٧ ، السيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ٥٧ ، الكافي : ١ / ٤٤٩ / ٣١ وج ٨ / ٣٤٠ / ٥٣٦ ، كمال الدين : ١٧٤ / ٣١ .
(10) كمال الدين : ١٧٤ / ٣٢ ، بحار الأنوار : ٣٥ / ٨١ / ٢٢ .
(11) كمال الدين : ١٧٤ / ٣١ عن محمّد بن مروان ، بحار الأنوار : ٣٥ / ٨١ / ٢١ .
(12) إيمان أبي طالب لفخّار بن معد : ١٣٠ عن علىّ بن أحمد بن مسعدة عن عمّه ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١١٥ / ٥٤ .
(13) كذا في المصدر ، وفي بحار الأنوار : " بن صفيّة " .
(14) إيمان أبي طالب لفخّار بن معد : ٢٨٤ ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١٢٨/ ٧٣ ، الإصابة: ٧ / ١٩٧ / ١٠١٧٥ .
(15) إيمان أبي طالب لفخّار بن معد : ٢٤٨ ، كنز الفوائد : ١ / ٢٧٠ نحوه ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١٢٠ / ٦٣ ، شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٦٩ نحوه .
(16) الفصول المختارة : ٥٨ ، المناقب لابن شهرآشوب : ١ / ٦٤ ، روضة الواعظين : ٦٤ وفيه إلى ( بنصيب ) ، بحار الأنوار : ٣٥ / ٩٣ / ٣١ ، شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٦٤ .
(17) الكافي : ١ / ٤٤٨ / ٢٩ ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١٣٦ / ٨١ .
(18) راجع : موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في الكتاب و السُّـنَّة و التاريخ ، ج 12 ، ق 16 ( أصحاب الإمام علي ( عليه السلام ) وعماله ) ، ص 47 : الأحنف بن قيس .
(19) هو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس ، وفد على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في وفد بني تميم وأسلم سنة تسع . ولمّا رآه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قال : ( هذا سيّد أهل الوبر ) . وكان عاقلاً حليماً مشهوراً بالحلم .
قيل للأحنف بن قيس : ممَّن تعلّمت الحلم ؟ فقال : من قيس بن عاصم ; رأيته يوماً قاعداً بفناء داره ، محتبياً بحمائل سيفه يحدّث قومه ، إذ أُتِىَ برجل مكتوف وآخر مقتول ، فقيل : هذا ابن أخيك قتل ابنك ، قال : فوالله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه . فلمّا أتمّه ، التفت إلى ابن أخيه فقال : يابن أخي ! بئسما فعلت ; أثمت بربّك ، وقطعت رحمك ، وقتلت ابن عمّك ... ثمّ قال لابن له آخر : قُم ـ يا بُنيَّ ـ إلى ابن عمّك فحلّ كتافه ، ووارِ أخاك ، وسُق إلى أُمك مئة من الإبل دية ابنها فإنّها غريبة .
قال الحسن البصري : لمّا حضرت قيس بن عاصم الوفاة ، دعا بنيه فقال : يا بَنيَّ ، احفظوا عنّي ، فلا أحد أنصَحَ لكم منّي : إذا أنا متّ ، فسَوِّدوا كِبَارَكم ولا تسَوِّدوا صغارَكم ؛ فتُسفّه الناس كباركم وتهونوا عليهم ... . وإيّاكم ومسألة الناس ؛ فإنّها آخر كسب المرء . ولا تقيموا عليَّ نائحة ; فإنِّي سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) نهي عن النائحة (أُسد الغابة : ٤ / ٤١١ / ٤٣٧٠) .
(20) هو أكثم بن صيفي بن عبد العزّي . ولمّا بلغه ظهور رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، أرسل إليه رجلين يسألانه عن نَسَبه وما جاء به ، فأخبرهما وقرأ عليهما : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِِْْحْسَانِ ... ) (النحل : ٩٠) . فعادا إلى أكثم فأخبراه وقرأا عليه الآية . فلمّا سمع أكثم ذلك ، قال : يا قوم ، أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهي عن مَلائِمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا أذناباً ، وكونوا فيه أوّلاً ولا تكونوا فيه آخراً .
فلم يلبث أن حضرته الوفاة ، فأوصى أهله : أُوصيكم بتقوى الله وصِلَة الرحم ; فإنّه لا يبلى عليها أصل ، ولا يهتصر عليها فرع (أُسد الغابة : ١ / ٢٧٢ / ٢١٨) .
(21) إيمان أبي طالب لفخّار بن معد : ٣٣٢ ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١٣٣ / ٧٨ .