المقداد بن الأسود الكندي
الفناء في الإسلام
عن أحد المواقع
نشأته:
هو المقداد بن عمرو، بن ثعلبة، بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود
البهراني، ولكنه اشتهر باسم آخر، وهو (المقداد بن الأسود الكندي).
كان والده عمرو بن ثعلبة من شجعان بني قومه، يتمتع بجرأة عالية دفعته إلى
قتل بعض أفراد بني قومه، فاضطر إلى الجلاء عنهم حفاظاً على نفسه من طلب
الثأر، فلحق بحضرموت، وحالف قبيلة كندة التي كانت تحتل مكانة مرموقة بين
القبائل، وهناك تزوج امرأة منهم، فولدت له المقداد.
نشأ هذا الفتى في ظل مجتمع ألف مقارعة السيف، ومطاعنة الرماح، فاتصف
بالشجاعة، حتى إذا بلغ سنّ الشباب، أخذت نوازع الشوق تشدّه إلى مضارب قومه
في (بهراء)، ما دفعه إلى تخطي آداب (الحلف)، لأنّه كان يعتبر أنّ الحلف لا
يعني أكثر من قيد (مهذب) يضعه الحليف في عنقه وأعناق بنيه، ولذا لم يكن هو
الآخر أسعد حظاً من أبيه، حيث اقترف ذنباً مع مضيفيه و(أخواله)، فاضطر إلى
الجلاء عنهم أيضاً نتيجة خلاف وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي ـ أحد
زعماء كندة ـ فهرب إلى مكّّّّّّة، ولما وصل إليها، كان عليه أن يحالف بعض
ساداتها كي يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري
أحد جبابرة قريش، فتبناه، وكتب إلى أبيه يطلب إليه القدوم إلى مكّّّّّّة،
وأصبح منذ ذلك اليوم يعرف بالمقداد بن الأسود، نسبةً لحليفه، والكندي،
نسبةً لحلفاء أبيه.
إسلامه:
يظهر من مجمل النصوص أنّ المقداد كان من المبادرين الأُول لاعتناق الإسلام،
حيث ذكر ابن مسعود أنّ أوّل من أظهر إسلامه سبعة، وعدّ المقداد واحداً
منهم، إلاّ أنّه كان يكتم إسلامه عن سيِّده الأسود بن عبد يغوث خوفاً منه
على دمه، شأنه شأن بقية المستضعفين من المسلمين الذين كانوا تحت قبضة قريش
عامةً، وحلفائهم خاصة.
ولكنّ المقداد كان يتحيّن الفرص للتخلّص من ربقة (الحلف) الذي أصبح يشكل
بالنسبة له ضرباً من العبودية، وفي السنة الأولى للهجرة، قيّضت له الفرصة
لأن يلحق بركب النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم)، وأن يكون واحداً من كبار
صحابته المخلصين. فقد عقد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) لعمه الحمزة
لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعترضوا عير قريش، وكان هو وصاحب
له، يقال له عمرو بن غزوان لا زالا في صفوف المشركين، فخرجا معهم يتوسلان
لقاء المسلمين، فلما لقيهم المسلمون انحازا إليهم وذهبا إلى المدينة للقاء
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم)، حيث كانت بداية الجهاد الطويل.
بين الرسول والمقداد:
وفي وقت كان فيه المسلمون والمهاجرون يعانون وضعاً مادّياً صعباً، حيث
إنّهم كانوا قد تركوا كُلّ ما لديهم في مكّّّّّّة، حلّ المقداد وجماعة معه
في ضيافة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم)، فضلاً عن أنّ قوافل المهاجرين
الجدد لم تنقطع، وكان على النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يستقبلهم
ويهيئ لهم ما يحتاجون إليه من متطلبات الحياة الضرورية.
وقد لعب دوراً في حركة المسلمين التي كان يقودها النبي، حيث إنّه أطلق سراح
الحكم بن كيسان، الذي وقع في قبضة المسلمين أسيراً مع عثمان بن عبد الله،
أثناء قيام المسلمين بسرية نخلة، وذلك ردّاً على اختفاء اثنين من المسلمين
كانا قد ضلاّ الطريق وتأخرا عن أصحابهم، فظنّ الناس أنّ قريشاً قد حبستهما
أو قتلتهما، ويحدّثنا المقداد عن ذلك فيقول:
أراد أمير الجيش أن يضرب عنقه، فقلت دعه نقدم به على رسول الله، ولما قدمنا
إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، جعل رسول الله يدعوه إلى
الإٍسلام، وأطال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) الكلام، حتى طلب منه عمر
أن يضرب عنقه، ولكنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) رفض ذلك، حتى أعلن
الحكم أخيراً إسلامه.
ومن مآثر المقداد دوره الفذّ في تحويل المسار باتجاه المواجهة وتصليب موقف
المسلمين في موقعة بدر الكبرى. وحيث كان التوازن مفقوداً بين قوات المسلمين
وقوات المشركين. وقد جاء في قول المقداد: يا رسول الله، امضِ لأمر الله
فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: أذهب أنت وربك فقاتلا
إنّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك
بالحقّ، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه...
ثُمّ طلب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) من أصحابه المشورة، فتحدّث بمثل
ذلك سعد بن معاذ، سيد الأوس، والمهاجرون ، بكلمات تبعث في نفوس المسلمين
الأمل بالنصر على عدوهم.
ويبدو أنّ كلمات المقداد كان لها وقع خاص في نفس النبي(صلى الله عليه وآله
وسلّم)، فإنّه حين سمعها انفرجت أسارير وجهه ابتهاجاً، كما يظهر من حديث
ابن مسعود، حيث قال: لقد شهدت مع المقداد مشهداً لئن أكون صاحبه أحب إليّ
مما طلعت عليه الشمس...، ثُمّ قال: فرأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله
وسلّم) يشرق وجهه بذلك وسرّه وأعجبه.
أمّا في موقعة أحد، برز المقداد كقائد يتولّى إمرة خيل المسلمين إلى جانب
الزبير كما جاء في بعض الروايات، ومما يُروى أيضاً أنّه كان أحد المسلمين
القلائل الذين وقفوا إلى جانب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما لاذ
المسلمون بالفرار وتفرّقوا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، حيث
ذكر أنّهم كانوا سبعة، منهم: علي وطلحة والزبير وأبو دجانة، وقد روي عن ابن
عباس أنّه قال: ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود، ومنهم من أثبت سادساً،
وهو المقداد بن عمرو.
كما شارك المقداد في غزوة الغابة التي وقعت في السنة السادسة للهجرة، وتسمى
غزوة ذي قرد، وكانت على إثر إغارة عيينة بن حصن بأربعين فارساً على لقاح
(إبل حامل) لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، وقد أمر رسول الله
بالخيل لثمانية وهم: المقداد، وأبو قتادة، ومعاذ بن ماعص، وسعد بن زيد،
وأبو عيّاش الزُرَقي، ومُحرز بن نَضْلة، وعكّاشة بن محْضَن، وربيعة بن
أكتم، إضافةً إلى الأعداد الأخرى، فاستنقذوا عشر لقائح، وقتل في هذه
المعركة من المسلمين واحد ومن المغيرين خمسة.
الزواج:
كانت مشكلة الشعور بالتفوّق العرقي لدى العرب تحول دون شدِّ الأواصر فيما
بينهم، فضلاً عن تثبيتها بينهم وبين القوميات الأخرى، فكان العربي الذي
ينتمي إلى قبيلة ما، يأنف من تزويج كريمته إلى عربي آخر من جنسه ينتمي إلى
قبيلة أخرى يراها دونه في الحسب والنسب، فضلاً عن أن يزوّجها إلى رجل حليف،
أو غير عربي، فإنّه يرى في ذلك مجلبةً للمهانة عليه، بل ومدعاةً للصغار
والذلة بين القبائل الأخرى.
وكان المقداد يريد الزواج من ابنة عبد الرحمن، فرفض وأغلظ القول، فقصد
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) يشكو ما أصابه، فزوّجه(صلى الله عليه
وآله وسلّم) ابنة عمه (ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب)، وهي التي درجت في
أعزِّ بيت في قريش والعرب، وأعزّ بيت في الإسلام.
الشورى:
وانسحب ذلك الدور الريادي الذي أدّاه المقداد على مَن جاء بعد رسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، ما جعل عمر يوكل إليه مهمة جمع أعضاء
الشورى، حيث قال له: (إنّ اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه، وإن اتفق أربعة
وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتفق ثلاثة، وخالف ثلاثة، فانظر الثلاثة
التي فيها عبد الرحمن، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة
الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر،
فاضرب أعناق الستة، ودع المسلمين يختارون: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع
هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم). ولعلّه إنّما أشار على المقداد بذلك
ليكون ممثلاً للمهاجرين في مراقبة الشورى.
جمع المقداد أعضاء الشورى الستة في بيت، ووقف أبو طلحة الأنصاري على الباب
ومعه خمسون رجلاً متقلدين سيوفهم تنفيذاً لوصية عمر، أمّا عبد الرحمن بن
عوف، فقد أمضى أياماً ثلاثة يشاور الناس في أمر الخلافة.
وكان الناس قد انشطروا بين مؤيد لعليّ ومؤيد لعثمان، وكان المقداد الأسود
وعمار بن ياسر من المؤيدين لعلي(عليه السّلام)، والفريق الممثل بابن أبي
سرح وابن أبي المغيرة من المؤيدين لعثمان.
أقبل المقداد بن الأسود على الناس، فقال: (أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أنا
المقداد بن عمرو، إنكم إن بايعتم علياً سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان
سمعنا وعصينا)!.
وردّ عليه عبد الله بن أبي ربيعة المخزوم، وقال: (أيها الناس، إنّكم إن
بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا).
فانتفض المقداد وردّ عليه فقال: يا عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ كتابه،
ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون.
وهكذا ردّ عليه عبد الله بن أبي سرح، وتدّخل آخرون، حتى كادت أن تقع
الفتنة، فوهب طلحة حقه من الشورى لعثمان، والزبير لعلي، وسعد لعبد الرحمن،
وهكذا أسفرت الجولة هذه عن رجحان بيّن لعبد الرحمن، حتى أضحى مركز الثقل.
وفي الجولة الثانية: فقد تمّت مبايعة عثمان بعد أن رفض الإمام علي(عليه
السّلام) شروط البيعة، وقد عبر علي(عليه السّلام) عن عدم رضاه عن هذه
النتيجة، وتسليمه بالأمر الواقع، قائلاً:
(لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصة).
وكان للمقداد موقف من الشورى تجلى بقوله: (تالله ما رأيت مثل ما أتي إلى
أهل هذا البيت بعد نبيهم، وأعجباً لقريش، لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم
أنّ أحداً أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعواناً)،
ولذلك اتهمه عبد الرحمن بأنّه إنّما يثير الفتنة..
ولكنّ تحرّك المقداد لم يتوقف عند هذا الحدّ، حيث إنّه كان في اليوم الأول
قد صعد المنبر، وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله، ولم يجلس أبو
بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة،
فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: (اليوم ولد الشر).
وما أثار حفيظة المسلمين ودفعهم إلى الجهر بالمعارضة، ما تناهى إلى سمعهم
من قول لأبي سفيان في محضر الخليفة يستشف منه بداية التفكير في تحويل
الخلافة إلى ملك، وكان ذلك بعد خلوته ببني أمية التي أنكر فيها النبوة
والرسالة، حيث قال: (أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا لا، قال: تلقفوها يا بني
أمية تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة
ولا نار، ولا بعث ولا قيامة). فانتهره عثمان وساءه بما قال، وأمر بإخراجه.
وشاعت مقالة أبي سفيان بين المسلمين، فكان لعمار والمقداد وعبد الرحمن
موقف، ودخل الأخير على عثمان وطلب منه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
ويعلن براءته من مقالة أبي سفيان، وعندما التقى المقداد في اليوم التالي
عبد الرحمن قال له: (إن كنت أردت ـ بما صنعت ـ وجه الله، فأثابك الله ثواب
الدنيا والآخرة، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فأكثر الله مالك)!….
وهكذا يبدو أنّ المقداد كان قد نشب بينه وبين عثمان الخلاف منذ بداية توّلي
عثمان أمر الخلافة، ولكنه تعاظم مع تصرّفات عثمان وتعطيله للحدود، والإسراف
في مال الله ووضعه في غير مستحقيه، كإعطاء مروان خمس خراج أرمينية، وإقطاعه
فدكاً، وإعطاء ابن أبي سرح جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح أفريقيا
وما إلى ذلك من الأمور، والتي كان آخرها إرساله إلى ابن أبي سرح ـ واليه
على مصر ـ كتاباً يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين، مما لم يدع مجالاً
للسكوت، فكان آخر ما قام به المقداد في هذا المضمار ـ هو وتسعة نفر من
الصحابة ـ أن وجهوا إلى عثمان كتاباً يعرضون فيه بعض الأمور التي خالف بها
سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) وسنة صاحبيه، كما يقول ابن قتيبة
ـ وتعاهدوا ليدفعنّ الكتاب في يد عثمان، ومضى عمّار بن ياسر بالكتاب إلى
عثمان، فكان الردّ أن ضُرب وفتقت بطنه.
كان المقداد يرى أنّ الخلافة حقّ مشروع لعلي(عليه السّلام) وله دون غيره،
ومما قاله: (وا عجباً لقريش! ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أوّل
المؤمنين وابن عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، أعلم الناس
وأفقههم في دين الله وأعظمهم فناءً في الإسلام وأبصرهم بالطريق وأهداهم
للصراط المستقيم)!. وما إلى ذلك من النصوص التي تتحدث عنه.
توفي المقداد في سنة 33 للهجرة أو أقلّ ـ على اختلاف الروايات ـ بعد أن شهد
فتح مصر، وقد بلغ من العمر سبعين سنةً، وذلك بعد أن شهد كُلّ مواقع الجهاد
مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم)، ودفن في الجرف، في مكان قريب من
المدينة.