صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين
  • عنوان المقال: صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين
  • الکاتب: حسن الأمين
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 7:18:4 3-9-1403

صلاح الدين الأيُّوبي

 بعد معركة حطِّين *

حسن الأمين

 

 تقام في بعض العواصم العربية احتفالات مرور 800 سنة على وقعة حطِّين ، التي كانت في 4 تموز  1187 / 15 ربيع الآخر سنة 583 هـ ، والتي انتهت بهزيمة الصليبيِّين واسترداد المسلمين للقدس ، والتي قاد فيها المسلمين صلاح الدين الأيوبي . وهذه الوقعة جديرة بكل هذه الاحتفالات ، ولكن المغالاة والزعم أنَّها كانت المعركة الفاصلة في الحرب مع الصليبيِّين ، هما ما يتنافى مع حقائق التاريخ . أصحيح أنَّه كان لمعركة حطِّين هذه النتائج التي ينوِّه بها مَن ينوِّه ؟ وهل صحيح أنَّها كانت المعركة الحاسمة في تاريخ الحروب الصليبية ؟ إنَّنا سنبسط هنا أمام القارئ هذه الحقائق التاريخية ، ونترك له أن يحكم :

 لا شك أنَّ النصر في "حطِّين" كان نصراً مؤزَّراً ، ولا شك أنَّ ما أسفرت عنه المعركة من استرداد القدس كان إنجازاً عظيماً . ولكن إلى أي مدى أمكن استغلال هذا النصر ، وإلى أي نتيجة عملية وَصَل ؟ إنَّنا نقول ـ مستندين إلى ما سجَّله مؤرِّخو تلك الأحداث ، ومعتمدين على الوقائع المسلَّم بها ـ :

لقد أضاعت التصرُّفات التي تلت معركة "حطِّين" ما كان يمكن استغلاله من هذا النصر ، وأضاعت أية نتيجة عملية حقيقية له ! ويجب أن لا يصرفنا التحمُّس للمعركة ، ولا التصفيق المتواصل لمَن قادوها ، عن التبصُّر فيما أدَّت إليه تلك التصرُّفات من عواقب وخيمة لكل ثمرات النصر . ولا أن ننزلق في تهويمات خيالية ، وتفكيرات سطحية ، تبعدنا عن النظر البعيد في تقليب صفحات تاريخنا . فماذا جرى بعد معركة حطِّين ؟

 كان المفروض مواصلة الكفاح لإجلاء الصليبيِّين عن البلاد ، فإذا كان استرداد القدس أُمنية غالية تحقَّقت بعد النصر ، فليست القدس هي كل الوطن ، وأهميَّتها من حيث الواقع لا تختلف عن أهمية أية مدينة تسترد من الأعداء ، ولكن أهميَّتها تفوق هذا الواقع بما تحتوي من مقدسات إسلامية ، وبما ترمز إليه أنَّها أولى القبلتين ، وثالث الحرمين ؛ لذلك كان لاستردادها ذاك الصدى العاطفي البعيد ، ويبدو أنَّ ذلك الصدى قد خدَّر تفكير الناس فألهاهم عن التبصُّر في العواقب ! خدَّر تفكير الناس يومذاك ، وما زال يخدِّر تفكير معظم الناس حتى اليوم .

جرى بعد حطِّين : أنَّ صلاح الدين الأيوبي ـ وهو المنتصر في حطِّين ـ المعقودة عليه الآمال في مواصلة الزحف لإنهاء الاحتلال الأجنبي ، واقتلاع آخر جذوره فيها . أنَّ صلاح الدين هذا ، بطل حطِّين ، لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة ، حتى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدقه ، لولا أنَّه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة فيما سجَّله مؤرِّخو تلك الحقبة ! المؤرِّخون الذين خدَّرت عقولهم روائع استرداد القدس فذهلوا عمَّا بعده ، لم تتخدّر أقلامهم فسجَّلوا الحقائق كما هي . وظل تخدير العقول متواصلاً من جيل إلى جيل ، تتعامى حتى عمَّا هو كالشمس الطالعة ! حصل بعد حطِّين أنَّ صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء ، والتسليم بعد التمرد ، فأسرع يطلب إلى الفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام ، وما وراء ذلك من اعتراف بوجودهم وإقرار لاحتلالهم ودولتهم ، وسمَّى ذلك : "هدنة" .

ويبدو جلياً أنَّ الصليبيِّين قد استغلوا هذا الطلب أحسن الاستغلال ، فاشترطوا للقبول بالهدنة أن يُعاد إليهم الكثير ممَّا كان قد أخذه صلاح الدين منهم بعد النصر في حطِّين ، ولم تكن القدس بين ما طالبوا به ، ولا كان من الممكن أن يجيبهم صلاح الدين إلى ذلك لو فعلوا ؛ لأنَّه لو أجاب لبطل مفعول المخدِّر وتنبَّهت العقول .

ووافق الصليبيُّون على إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام ، وعقدت "الهدنة" في 21 شعبان ، سنة 588 هـ ، وقبض الصليبيُّون الثمن الباهظ الذي دفعه صلاح الدين لهم لقاء قبولهم بالمهادنة ، فأعاد إليهم حيفا ويافا وقيسارية ونصف اللد ونصف الرملة وغير ذلك ، حتى لقد صار لهم من يافا إلى قيسارية إلى عكا إلى صور ، بل صارت لهم فلسطين إلاَّ أقل القليل ، ولم يكن لهم ذلك من قبل .

يقول ابن شدَّاد في كتابه "الأعلاق الخطيرة في أُمراء الشام والجزيرة" ، وهو يتحدَّث عن حيفا (ص 177 ـ 178) : لم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاثة وثمانين ، فلم تزل في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة التي وقعت بينه وبينهم ، وذلك سنة ثمان وثمانين وخمسمئة ، ثمّ لم تزل بعد في أيديهم .

وقال ، وهو يتحدَّث عن الرملة واللد (ص 173 ـ 184) : لم تزل في أيديهم إلى أن ملكها وملك معها "لد" الملك الناصر صلاح الدين ، يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة . ولم تزل في يده إلى أن وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج سنة ثمان وثمانين ، فنزل لهم عن البلاد وجعل لد والرملة بينه وبينهم مناصفة .

وقال ، وهو يتحدَّث عن يافا (ص 259) : ولم تزل في أيديهم (الفرنج)  إلى أن فتحها عنوة الملك الناصر صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمئة على يد أخيه العادل ، وخرَّبها وبقيت خراباً إلى أن تقرَّرت الهدنة بين الملك الناصر صلاح الدين وبين الفرنج ، وشرطوا عليه إبقاءها في أيديهم .

ولنلاحظ هنا كلمة : "شرطوا عليه" ، ودلالتها المؤلمة التي توضح لنا أنَّ صلاح الدين هو المتوسِّل لطلب الهدنة ، وأنَّ الفرنج هم واضعو الشروط .

 ليس ما ذكرناه هنا كل النصوص لهذه الحقائق ، ولم نخترها اختياراً ، وإنَّما عمدنا إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فتناولناه ، فكان كتاب "الأعلاق الخطيرة" . وتلا هذا التسليم للصليبيين فعلٌ أنهى كل تفكير في مقاومتهم وإجلائهم عن البلاد في المستقبل ، بل أدَّى إلى ما هو شر من ذلك : أدى إلى توسيع رقعة احتلالهم ، وتمكينهم في مناطق أخرى غير التي مكَّنهم منها صلاح الدين نفسه .

 كان ورثة صلاح الدين من أخ وأولاد كثيرين ، فرأى أن يقسِّم البلاد بينهم ، وأن يقطع كل واحد منهم جزءاً من الوطن يستقل به عن غيره . وهكذا فلم يكد يموت صلاح الدين حتى انفرد كل واحد من إخوته وأولاده بالرقعة التي خُصِّصت له ، فعاد الوطن مِزَقاً بين الوَرَثَة ، ونسي هو ، ونسي ورثته أنَّ الاحتلال الصليبي لا يزال جاثماً على صدر الوطن ، وأنَّ ذلك لا يستدعي تمزيق الوطن وتشتيت شمل حكَّامه ، بل يستدعي تماسك وحدته وتضافر أُمرائه .

ولم يقنع كل واحد من هؤلاء الورثة بما تحت يده من مخلَّفات صلاح الدين ، بل راحوا يتنازعون ويتقاتلون ، ويستنصرون في هذا التنازع والتقاتل بالصليبيِّين ، مُغْرِين إيَّاهم بإعطائهم ما يشاؤون من بلاد وعباد !

ولن نسترسل في تفاصيل تلك النزاعات وتلك الأعطيات ، بل سنكتفي بذكر واحدة منها ، هي الطامة الكبرى التي قضت على كل ثمرة من ثمرات معركة "حطِّين" ، وأضاعت كل نتيجة من نتائجها ، وجعلتها كأنَّها لم تكن .

 فإذا كان استرداد القدس على يد صلاح الدين قد أكسب ذلك الزمن،  كل ذلك التألُّق ، وأعطاه كل ذلك الوهج ، ثمّ خدَّر الأفكار والعقول وأعماها عن التبصُّر في الحقائق ، فإنَّ تصرُّف صلاح الدين نفسه قد أطفأ ذلك الألق ومحا ذلك الوهج ، وإن لم يبطل مفعول المخدِّر . فكان من تقسيمه البلاد بين أقربائه ، وما نتج من تنازعهم وتشاكسهم واستنصارهم بعضهم على بعض بالصليبيِّين ، أنَّ وَلَدَي أخيه العادل ، وهما : الكامل والأشرف ، سلَّما إلى الصليبيِّين القدس نفسها وأعاداهم إليها .

وهكذا إذا كان الانتصار في معركة حطِّين يثير في النفس البهجة ، فإنَّ البهجة لا تلبث أن تتلاشى حين نتذكَّر التصرُّفات التي أعقبت المعركة وذهبت معها دماء المقاتلين هدراً وفي سبيل لا شيء .

وقد ردَّ عليَّ رادٌ ، فرددتُ عليه بما يلي : الواقع أنَّي كنت رفيقاً كل الرفق بصلاح الدين الأيوبي ، وتعمَّدت أن لا أصدم المخدَّرين صدمات قوية فاجعة ، لأترك لهم منفذاً ، ولو كسَمِّ الخياط ، يتعلَّلون به في مرور 800 سنة على معركة حطِّين .

يقول هاشم الأيوبي : فهذه السنوات القصيرة بين حطِّين ووفاة صلاح الدين كانت جهاداً متواصلاً أكملها مَن جاءوا بعده حتى تسنَّى لهم طرد الصليبيِّين نهائياً .

 ونقول له : كلا ، إنَّها كانت استسلاماً متواصلاً ، ونتحدَّاه أن يذكر لنا معركة واحدة جرت بعد استسلام صلاح الدين وتسليمه البلاد للصليبيين .

نعم ! نتحدَّاه ، ونقول له : إنَّ تلك السنوات كانت استسلاماً في استسلام ، وهواناً في هوان ، وأنَّ سهماً واحداً لم يرمَ ، ورمحاً واحداً لم يُشْرَع ، وسيفاً واحداً لم يجرَّد في تلك المدة في وجه الصليبيِّين ... .

نقول هذا في تحدٍ صارم لا هوادة فيه . وقد كنتُ أحسب أنَّه بقي للخجل مكان فيمتنع سليل الأيُّوبيين ـ إنْ صحَّ أنَّه من سلالتهم ـ عن القول إنَّ الجهاد المتواصل أكمله مَن جاءوا بعد صلاح الدين ، حتى تسنى لهم طرد الصليبيِّين . إنَّ الذين جاءوا بعد صلاح الدين من أسلافك قد واصلوا المهمة ، ولكن لا مهمة الجهاد ، بل مهمة الاستسلام والذل ! مهمة تسليم البلاد للصليبيين . ولن نعدِّد كل أفعالهم ، بل سنورد له أمرين اثنين فقط :

إنَّ الذي فعله صلاح الدين هو أنَّه سلَّم فلسطين كلها للصليبيين ما عدا القدس ، وأعاد إليهم ما كان قد أخذه منهم بعد معركة حطِّين كما بيّناه في مقال سابق . ولم يبقَ في يده إلاَّ بعض ما يُعرف اليوم بالجمهورية اللبنانية ، ما عدا "صور" التي ظل الصليبيُّون متمسِّكين بها .

أمَّا الذين جاءوا بعد صلاح الدين ، فقد تنازلوا للصليبيِّين حتى عن هذا الذي بقي بِيَد صلاح الدين من لبنان والسواحل السورية . فالكامل والأشرف ـ مثلاً ـ سلَّما القدس للمَلِك الصليبي فريدريك الثاني . وهل يعتبر هاشم الأيوبي تسليم القدس للصليبيين جهاداً متواصلاً ؟ وقد مرَّ تسليم خلفاء صلاح الدين القدس للصليبيين بالأدوار التالية :

 1 ـ بعد تسليم الكامل والأشرف القدس للملِك الصليبي فريدريك الثاني سنة 625 هـ/ 1228 م ، ظلت في يد الصليبيِّين حتى استردها منهم الناصر صاحب الكرك سنة 637 هـ/ 1239 م .

2 ـ استنجد الصالح إسماعيل صاحب دمشق بالصليبيِّين ليساعدوه على ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر ، وعلى الناصر داود صاحب الكرك مسترِد القدس . وأعاد إليهم لقاء ذلك القدس 641 / 1244 م . كما سلَّمهم صفد وعسقلان وطبرية وأعمال كل منهما ، وجميع جبل عامل ، بما منه : قلاع هونين وتبنين والشقيق ومدينة صيدا ، أو سائر بلاد الساحل ، وهكذا عادت القدس مرة ثانية إلى الصليبيِّين .

 ووعد الصالح إسماعيل الصليبيِّين أيضاً بأنه إذا مَلَك مصر أعطاهم بعضها . فاستعدَّ الصليبيُّون لمهاجمة مصر وزحفوا إلى غزَّة ، في حين كوَّن الصالح إسماعيل حلفاً من بعض الملوك الأيوبيين في شمال الشام ، وزحفوا جميعاً إلى حلفائهم الفرنج عند غزّة .

أمَّا الصالح نجم الدين أيُّوب ، فقد تقدَّم من مصر إلى غزَّة لمواجهة هذا الهجوم . ولمّا بيَّن لعساكر الشام حقيقة الموقف تمرَّدوا على قوَّادهم ومالوا على الفرنج مع الصالح أيُّوب ، فالتزم الفرنج وانسحبوا إلى عسقلان ، وفاوضوا الصالح أيُّوب سنة 638/ 1240 م ، فاعترف لهم بحقِّهم في ملكية الشقيق ونهر الموجب أرنون وإقليم الجليل ، بالإضافة إلى القدس وبيت لحم ومجدل بابا وعسقلان .

 وهكذا فلم يكن الصالح أيُّوب خيراً من الصالح إسماعيل . وهنا تحالف الصالح إسماعيل مع الناصر داود واستنجدا من جديد بالصليبيِّين مقابل جعل سيطرتهم على القدس كاملة ، بمعنى أن يستولي الصليبيُّون على الحرم الشريف بما فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة ، وهي الأماكن التي ظلَّت ، ولو نظرياً ، في حوزة المسلمين عند ما سلَّم الكامل والأشرف القدس للصليبيِّين سنة 625ـ 1228 م .

 وهنا تقدَّم الصالح أيُّوب إلى الصليبيِّين طالباً مساعدتهم مقابل الثمن نفسه الذي عرضه منافساه . وبذلك يكون الملوك الأيوبيون الثلاثة : الصالح أيُّوب والصالح إسماعيل والناصر داود ، قد أقرُّوا مبدأ استيلاء الصليبيِّين على الحرم الشريف على حدِّ تعبير بعض المؤرِّخين .

على أنَّ الصليبيِّين اختاروا الوقوف إلى جانب الصالح إسماعيل صاحب دمشق ؛ لأنَّه أقرب إليهم من صاحب مصر . وبالتالي فهو أكثر قدرة على التحكُّم في مصائرهم . فشَرَع الصالح إسماعيل في غزو مصر بمساعدة حليفيه الناصر داود صاحب الكرك والمنصور إبراهيم ملِك حمص ، مع الصليبيِّين ، وتقرَّر أن تجتمع قوَّات الحلفاء جميعاً عند غزَّة . فاستنجد الصالح أيُّوب بالخوارزمية (1) ، فأنجدوه بعشرة آلاف منهم ، ساروا من إقليم الجزيرة فمرُّوا بدمشق ، ثمّ استولوا على طبرية ونابلس ، ثمّ القدس سنة 642 /1644 م ، فعادت القدس نهائياً إلى المسلمين .

 والعادل : أعاد للصليبيين سنة 1204 ما كان قد ورثه عن صلاح الدين من المواقع الساحلية ، ما عدا الشقة المحصورة في اللاذقية .

هذا هو الجهاد المتواصل الذي أكمله مَن جاءوا بعد صلاح الدين من ورثته .

يقول هاشم الأيوبي عن مقالنا : إنَّه لا يحمل أية قيمة تاريخية أو علمية .

ونقول له ـ ولا فخر ـ : إنَّ كل العلم وكل التاريخ في هذا المقال . ذلك أنَّه استند إلى مصادر كبرى ووقائع معينة ، حدَّد مكانها وزمانها ، ما لم يستطع معه الأيُّوبي أن يُنكر شيئاً منها ، بل عمَد إلى مثل هذه التهويشات التي يلجأ إليها العاجزون حين تفحمهم الحقائق الناصعة ، فلا يرون غير الشتائم ملاذاً يعوذون به ... التهويشات التي لا تستطيع أن تجعل من الحق باطلاً ، ومن الباطل حقاً .

ومن أطرف الطرائف ، وأضحك المضحكات ، أنَّ دليل الأيوبي على أنَّ المقال لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية ، هو أنِّي صرَّحت بأنِّي عَمَدتُ إلى أول كتاب وقع عليه نظري فتناولته .

 نعم : إنَّ أول كتاب وقع عليه نظري كان كتاب "الأعلاق الخطيرة في أمراء الشام والجزيرة" لابن شداد . وحسبُ المقال ليكون حاملاً للعلم والتاريخ أن يكون مستنداً إلى ابن شداد صاحب "الأعلاق الخطيرة" . وقد عمدتُ الآن مرة ثانية إلى أول كتاب وقع عليه نظري فكان كتاب "الكامل" لابن الأثير ، فإذا بي اقرأ فيه ما يلي :

كان المانع لصلاح الدين من غزو الفرنج الخوف من نور الدين ؛  فإنَّه كان يعتقد أنَّ نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه ، فكان يحتمي بهم عليه ولا يُؤثر استئصالهم . وكان نور الدين لا يرى إلاَّ الجِدَّ في غزوهم بجهده وطاقته . فلمَّا رأى إخلال صلاح الدين بالغزو ، وعلم غرضه ، تجهَّز بالمسير إليه ، فأتاه أمر الله الذي لا يُرد .

ومع أنَّ هذا الكلام واضح كل الوضوح ، نحب أن نزيده لهاشم الأيوبي وضوحاً ، فنقول : كان وضع مصر وبلاد الشام يومذاك يشبه الوضع الذي كانت عليه مصر وسورية أيام قيام الوحدة بينهما باسم الجمهورية العربية المتحدة . فكما أنّ كيان العدو اليهودي كان الفاصل بين سورية ومصر المتّحدتين ، كان الكيان  الصليبي يفصل بين مصر وبلاد الشام المتّحدثين .

والفَرق بين الحالين : هو أنّ العاصمة أيام الصليبيِّين كانت دمشق ، وأنَّها في أيام الصهاينة كانت القاهرة ، فكان صلاح الدين معتبراً تابعاً لنور الدين ووالياً من ولاته . فقرَّر نور الدين استئصال الصليبيِّين بأن يحصرهم بين جبهتين : جبهة مصر ، وجبهة بلاد الشام ، فيزحف هو من دمشق ، ويزحف صلاح الدين من القاهرة ، فيضطر الصليبيُّون للقتال على جبهتين . لذلك أوعز إلى صلاح الدين أن يتقدَّم بالجيش المصري ، ليتقدَّم هو بالجيش الشامي ، ولكن صلاح الدين رفض الامتثال لأوامر نور الدين ، أي أنَّه أعلن إيقاف حال الحرب بين مصر والصليبيِّين ، والتاريخ ـ كما يقال ـ يعيد نفسه دائماً !

وابن الأثير كان واضحاً في تبيان السبب الذي دعا صلاح الدين لإخراج مصر من الحرب مع الصليبيِّين ؛ ذلك أنّ الاحتلال الصليبي لفلسطين كان يعطي صلاح الدين انفصالا كاملاً عن المملكة المتحدة ، وتبقى تبعيته لها اسمية فقط ، فإذا زال الكيان الصليبي من فلسطين تم الاتصال بين بلاد الشام :  سورية وفلسطين ولبنان والأردن ، وبين مصر ، وتصبح مملكة واحدة يكون لصلاح الدين المكان الثاني فيها بعد نور الدين ، بل يصبح مجرد حاكم لمصر تابع فعلياً لا اسميَّاً لنور الدين ، وهذا ما لا يرضي مطامع صلاح الدين الشخصية ؛ لذلك آثر التمرّد على نور الدين وإخراج مصر من الحرب المأمولة لاستئصال الصليبيِّين .

وغضب نور الدين لذلك ، وصمم على التفرُّع لصلاح الدين أولاً وتسليم حكم مصر لمَن يعيد مصر إلى حال الحرب مع الصليبيِّين . ولمَّا أعدَّ عدته للزحف على مصر وإزاحة صلاح الدين ، فاجأه الموت . وكما ساء هاشم الأيوبي مبادرتنا في المرة الأولى إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فكان كتاب "الأعلاق الخطيرة" ، فسيسوءه ـ ولا شك ـ إن كان أول كتاب وقع عليه نظرنا هذه المرة هو كتاب "الكامل" لابن الأثير . فيقول عن قولنا المعتمد على كتاب "الكامل" : إنَّه قول لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية . ويوم يكون "الكامل" و"الأعلاق الخطيرة" لا قيمة علمية أو تاريخية لهما ، فإنَّنا يسرُّنا أن نكون في زمرة ابن الأثير وابن شداد ، وأن تكون لنا القيمة العلمية والتاريخية التي لهما . ونرجو أن لا يضطرنا هاشم الأيوبي لأن نخرج من خزانة الكتب أول كتاب يقع عليه نظرنا للمرة الثالثة فنريه ما هو أدهى  وأمر .

ورد مرة ثانية ، فأجبته بما يلي : لقد كنا نحسب أنَّنا نناقش بحثاً تاريخياً محضاً ، أدلينا منه بأحاديث دوَّنتها أُمهات كتب التاريخ . وكنا نفترض أن نلقى مَن يناقش هذه الأحاديث فيدحضها أو يثبتها ، فإذا بنا أمام بؤرة سفاهة تعجز عن رد الحجة بالحجة ، ولا تستطيع نقض ما أبرمنا ، وإنكار ما أوردنا ، فتلجأ إلى ما تفيض به من سفاهة .

أمَّا الدركة التي انحدر إليها في حديثه عن الأفاعي الشعوبية ، فإنَّنا أرفع رؤوساً ، وأكرم نفوساً ، وأشمخ أنوفاً ، وأنصع صفحات ، وأروع وقَفات ، مَن أن يصل إلى كعوب أحذيتنا مثله من حشرات .

 أمَّا تعريضاته الأخرى التي جمجمت بها كلماته وتلجلجت ، فلن تروّعنا في شيء . وأمَّا ما لجأ إليه ممَّا كان يلجأ إليه أمثاله في ماضي الأزمان ، من التهويل على المعتقدات ولمزها والتخويف بها ، فإنَّنا نقول له : إنَّه ينسى أنَّ الزمن تبدَّل وأنَّنا نعيش الآن في أواخر القرن العشرين ، ويقصر معه لسانه عمَّا كانت تطول به ألسنة الغابرين من سيِّء القول وفحش الوصف وفظيع الشر .

 لقد حدَّدنا الوقائع ، ووعينا زمانها ومكانها ، وكان يستطيع هذا الرجل أن ينهي الأمر كله بسطر واحد ، يقول فيه : إنَّ ما تدَّعيه غير صحيح ، وإنَّ صلاح الدين لم يسلِّم حيفا ويافا وقيسارية ، بل فلسطين كلها ـ ما عدا القدس ـ للصليبيِّين ، بعد أن استردها منهم . ولكنَّه لم يستطع أن ينكر ذلك ، وراح يهوش ويشتم ويحرِّض ويثير الضغائن ، ويملأ أعمدة الجريدة بكلام فارع .

لم يكتب السطر الذي ينهي الأمر كما قلنا ، وأنَّى له أن يكتب هذا السطر وصحف التاريخ أمامه تصفعه وتصفع أمثاله .

ثمّ عُدنا نقول له كلاماً نقلناه بنصه من كتاب "الكامل" لابن الأثير ، وفيه يقول ـ حرفياً ـ بأنَّ صلاح الدين كان يحتمي من نور الدين بالصليبيِّين . وكان يكفيه هنا أيضاً أن يكتب سطراً واحداً . ولكن كيف يستطيع كتابة هذا السطر وصفعات التاريخ تنهال عليه صفعة وراء صفعة . لقد فر من كتابة هذا السطر ولجأ إلى عشرات السطور يتخبَّط بها ما شاء له  التخبُّط ، ويحاول الوصول ولو إلى قشة يتمسَّك بها ، وهو يرى نفسه غريقاً في بحر الضلال ، فلم يستطع أن يصل حتى إلى هذه القشة .

لقد استرسل في هذيان لا يعنينا أن نلتفت إليه ، ولكنَّنا نريد أن ندل القارئ على ثلاثة أشياء نفرزها من ذلك الهذيان :

 1 ـ لقد عدَّد هذا الرجل المدن والقرى التي دخلتها القوى الإسلامية بقيادة صلاح الدين . لقد عدَّدها كأنَّنا ننكر ذلك ، مع أنَّنا قلناه ونقوله ونكرِّر الآن قوله . ولكن هل كان هذا موضوع كلامنا ؟! إنَّ ما جرى من دخول تلك المدن ، هو نتيجة حتمية للنصر في معركة حطِّين ، وهو جزء من تلك المعركة . نحن لم نعرض له بشيء . ولكنَّنا عرضنا لِمَا جرى بعده ، وقلنا بملء الفم قولاً واضحاً صريحاً : إنَّ أعمال صلاح الدين بعد هذا الذي جرى ، قد أبطلت نتائج كل ما جرى . لم يخجل من أن يذكر فيما عدَّده من المدن والقرى أسماء حيفا وقيسارية والرملة ، وهي من البلدان التي ذكرنا أنَّ صلاح الدين أعادها للصليبيِّين .

 2 ـ يقول هذا الرجل ما نصُّه بالحرف : كما يبدو وفاء صلاح الدين لنور الدين عميقاً بعد وفاة نور الدين .

 ونقول له : إنّ هذا الوفاء تجلّى كل التجلّي في المعاملة التي عامل بها صلاح الدين ابن ولي نعمته نور الدين . لقد كان هذا مقيماً في حلب ، وكان على صغر سنه محاطاً برعاية الحلبيين ؛ لاعتباره ملِكَهم المقبل وفاءً لنور الدين ، فكان أول ما فعله صلاح الدين أن قصد إلى حلب ليقضي عليه . ونترك الكلام هنا لابن الأثير : لمَّا مَلَك صلاح الدين حماه سار إلى حلب ، فحصرها ثالث جمادى الآخرة ، فقاتله أهلها . وركب الملك الصالح ابن نور الدين ، وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة ، وجمع أهل الحلب وقال لهم : قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم ، وأنا يتيمكم ، وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ، ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق . وقال من هذا كثيراً وبكى وأبكى الناس ، فبذلوا له الأموال والأنفس ، واتفقوا على القتال دونه ، والمنع عن بلده ... إلى آخر ما قال ابن الأثير .

 هذا هو وفاء صلاح الدين لنور الدين : في حياته ، يحتمي منه بالصليبيِّين ، و بعد موته يحاول القضاء على ولده ذي الاثنتي عشرة سنة .

ليس ما يحرِّكنا إلى كتابة ما نكتب هو ما يُريد أن يُوهم القرَّاء به ؛ استدراراً لعطفهم واستثارة للشرور ، بل إنَّ الذي يحرِّكنا هو الحقيقة وحدها .

وتدخل شخص آخر فردَّ على ردي ، فرَدَدْتُ عليه بما يلي :

الصديق المتواري وراء طلال المنجد ، نبعث له قبل البدء بمناقشة أقواله بتحية صداقة عاطرة ، ونقول له : إنّ تسمية رأي تاريخي برجل تاريخي تحاملاً ، هو التحامل الذي ما بعده تحامل . إنَّنا نطرح قضية تاريخية محضة ، وعلى مَن لا يرى رأينا أن يدحض هذا الرأي بالحجة ، لا بترديد ألفاظ التحامل وأمثال التحامل ، ممَّا هو سلاح العاجزين .

 ولماذا يُعتبر نقد صلاح الدين من الأمور المألوفة في بعض الكتابات انطلاقاً من دوافع وخلفيات وغايات ، ولا يكون التحمّس لطمس الحقائق التاريخية الواضحة التي تلتصق بشخص صلاح الدين من الأمور المألوفة في كل الكتابات ، لا في بعضها ، انطلاقاً من دوافع وخلفيات وغايات ؟!

وإذا كان الصديق المتواري يدعو إلى الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية في الأبحاث التاريخية ، فإنّنا نقول له : لقد كنا فيما كتبناه في أعلى درجات الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية ؛ لأنّنا لم نختلق شيئاً ، ولأنَّنا اعتمدنا على مؤرِّخين هم وحدهم المصدر الأساس لكل مَن يكتب في التاريخ ، وفيهم مَن هو ألصق الناس بصلاح الدين ، ومَن عاشوا في نعمه وكانوا من موظَّفيه المنافحين عنه .

ويروغ الكاتب المتواري عن هذه الحقيقة ، ويدور ويلف ، ثمّ لا يستطيع إلاَّ أن يعترف بها ، ولكنَّه يحاول تغليف اعترافه بقوله عن بهاء الدين ابن شداد : سيرة صلاح الدين التي وضعها ابن شداد ابتداءً من 1188 عام التحق ابن شداد بصلاح الدين كقاضٍ للجيش الأيوبي . وقبل ذلك العام كان بهاء الدين ملازماً الموصل ، ولم يكن يستطيع الرواية إلاَّ بطريقة غير مباشرة ، وغالباً ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني ، إلى آخر ما قال من مثل هذا اللَّف والدوران .

ونقول له : إنّ الوقائع التي لم يستطع ابن شداد إلاّ أن يذكرها كانت وهو صفي لصلاح الدين .

وكذلك لا ينطبق عليها قولك : (وغالباً ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني) . فهو عند ما يقول ـ مثلاً ـ عن تسليم صلاح الدين مدينة حيفا للصليبيِّين : لم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاث وثمانين ، فلم تزل في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة ، التي وقعت بينه وبينهم ، وذلك سنة ثمان وثمانين وخمسمئة ، ولم تزل بعد في أيديهم .

وعند ما يقول عن تسليمه مدينة يافا : وشرطوا الصليبيُّون عليه إبقاءها في أيديهم .

عند ما يقول ابن شداد هذه الأقوال الواضحة الصريحة الدالة على أنَّ الموقف كان هواناً في هوان ، واستسلاماً في استسلام ، وأنَّ الصليبيِّين كانوا يشترطون وصلاح الدين يخضع لشروطهم . عند ما يقول ذلك ، لم يقله وهو في الموصل ، لم يقله وهو بعيد عن الأحداث ، بل كان في صميمها . ولم يروه بطريقة غير مباشرة ، بل بطريقة مباشرة ، طريقة شاهد العيان .

وليس في هذا القول وقوع في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني . وما شأن التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني في تسليم حيفا ويافا للصليبيين والنزول على شروطهم ؟ وأي تفصيلات وأي وثائق وأي تسلسل زمني في أمرٍ تم في غاية البساطة والسهولة ؟ وهو أمرٌ بادٍ ظاهرٌ يراه كل الناس ، ولا يستطيع ابن شداد تجاهله ، وتالياً لا تستطيع أنت إنكاره . ولكن يصعب عليك الاعتراف به ، فرحت تدور وتلف ، ثمّ تدور وتلف ، ولكن بلا جدوى .

ويقول عني : إنّني لا أبالي أن أقع فيما وقع فيه من قبل المؤرِّخ ابن الأثير في تحامله على صلاح الدين . إلى آخر ما قال من مثل اتهامه لابن الأثير بتبديله للوقائع وتحريفه للتواريخ وتغليبه للأهواء والغايات .

ثمّيقول عني : إنّني أعلنت على رؤوس الأرماح انتسابي إلى زمرة ابن الأثير مهما تكن القيمة العلمية والتاريخية له . أجل يا صديقي ، إنَّني لا أبالي بأن أقع فيما وقع فيه ابن الأثير ، وإنَّه ليشرِّفني أن انتسب إلى زمرة ابن الأثير ،  وإنَّني لعالم بقيمته العلمية والتاريخية .

إنَّ ابن الأثير هو إحدى الصخرتين اللتين يقوم عليهما التاريخ الإسلامي : الطبري أولاً ، وابن الأثير ثانياً . وإذا كانت أقوال ابن الأثير لا توافق أهواءك ، ولا تؤيِّد ما لديك من دوافع وخلفيات وغايات ، فإنَّك لن تستطيع أن تحطم الصخرة بكلمة جوفاء تنشرها على صفحات الجريدة ، وقد جرّب ذلك قبلك الوعل ، فأدمى قرنيه ولم يضر الصخرة .

وإنَّك تصرُّ دائماً على أنَّ كل مَن يخالف آراءك هو متحامل : فابن الأثير متحامل ، وابن شداد متحامل ، وحسن الأمين متحامل ، وعلى هذا المنوال لن تستطيع إحصاء المتحاملين . إنَّك تتَّهم ابن الأثير بالباطل ، فابن الأثير يثني على صلاح الدين فيما يوجب الثناء ، ولم يقل كلمة واحدة تمس صلاح الدين .

ولكنَّه ـ وهو المؤرّخ الثقة الأمين ـ لا يستطيع أن لا يذكر في كتابه رفض صلاح الدين أن يفتح جبهة قتال للصليبيين تبدأ من حدود مصر ، بينما يفتح نور الدين جبهة تبدأ من حدود بلاد الشام . ولا أن لا يسجل احتماء صلاح الدين من نور الدين بالصليبيِّين ، وتفضيله الاحتلال الصليبي على أن يكون تابعاً لنور الدين .

وطبيعي أن لا يستطيع ذلك وهو مؤرِّخ العصر ، المفروض فيه تسجيل كل وقائعه . وضاقت بك الدنيا لهذه الحقائق المرة فلم تجد للخروج من مأزقك سوى الشتيمة ، وسوى سب ابن الأثير ، ثمّ سب ابن شداد .

وليس ابن الأثير وحده الذي ذكر ذلك ، بل ذكره كل المؤرِّخين ، ومنهم صنيعة صلاح الدين وعميله أبو شامة ، فهل هو الآخر له ضغينة على صلاح الدين ومتحامل عليه ؟ ولن ننقل هنا أقواله لأنَّها لا تختلف كثيراً عن أقوال ابن الأثير ، بل سننقل أقوال مؤرِّخ آخر هو ابن العديم .

 قال ابن العديم : سار الملك الناصر صلاح الدين من مصر غازياً ، فنازل حصن الشوبك وحصره ، فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام . فلمَّا سمع نور الدين بذلك سار عن دمشق فدخل بلاد الإفرنج من الجهة الأخرى ، فقيل للملك الناصر صلاح الدين : إن دخل نور الدين من جانب وأنت من هذا الجانب ، مَلَك بلاد الإفرنج ، فلا يبقى لك معه بديار مصر مقام . وإن جاء وأنت هاهنا ، فلا بد من الاجتماع به ويبقى هو المتحكِّم فيك بما يشاء . والمصلحة الرجوع إلى مصر . فرحل عن الشوبك إلى مصر .

إذن فقد بدت طلائع النصر وقرر صليبيو الشوبك التسليم ، واقتحم نور الدين الحدود من الجهة الأخرى وانحصر الصليبيُّون بين الجبهتين . وفجأة ينسحب صلاح الدين من المعركة ويعود إلى مصر ، فيضطر نور الدين للانسحاب وتضيع الفرصة العظيمة ، ولماذا ؟ لأنّ صلاح الدين يرفض أن يحكم البلاد نور الدين ويفضّل تركها بيد الصليبيِّين على أن يحكمها نور الدين وهو تابع له . هذا يا صديقي العزيز بعض ما أنكرناه على صلاح الدين ، ولم نكن نحب لك أن تقف مدافعاً عن هذا الموقف انطلاقاً من دوافع وخلفيات وغايات ، وأن يصل بك الأمر إلى النيل من المؤرخ العظيم ابن الأثير لأنّه لا ينطلق من الدوافع والخلفيات والغايات التي تنطلق منها أنت وأمثالك .

 ويوم تحاول ، عبثاً ، تحطيم سمعة ابن الأثير ، فهل تظن أنّه سيبقى حرمة للتاريخ الإسلامي ؟ وها أنت ترى أنّ ليس ابن الأثير وحده هو الذي يروي ذلك ، فهل كل هؤلاء المؤرِّخين مفترون مزوِّرون ؛ لأنَّهم لا ينطلقون ممَّا تنطلق منه أنت وأمثالك ؟

نقول نحن : قال ابن الأثير ، فيرد علينا : قال هاملتون جب ! لا يا صديقي العزيز ، إنَّ تاريخنا لا نأخذه من المستشرق الانكليزي هاملتون جب ، إنَّنا نأخذه من ابن الأثير وابن شداد وابن العديم وأمثالهم ، ولن تبلغ بنا الضعة أن ندع للانكليز أن يدوِّنوا تاريخنا ، ولن يكونوا هم مصدر هذا التاريخ .

إنَّنا نحن الذين نسجّل تاريخنا ، ولن يكون مصدرنا ما يكتبه هاملتون جب ، بل ما هو مدوَّن في "الكامل" و"الأعلاق الخطيرة" وأمثالهما . وإذا كنت اليوم تعتمد في التاريخ الإسلامي هاملتون جب ، فقد اعتمدته قبل اليوم في العقائد الإسلامية ، ولعلك لم تنسَ ذلك .

 ونحن لم نقوِّل ابن الأثير ما لم يقله كما تزعم ، بل نقلنا قوله بنصه ، ولم نطرح احتمالات غامضة وملتبسة كما تدَّعي ، بل طرحنا حقائق واضحة صريحة ، لا غموض فيها ولا التباس . ولا تستطيع أن تغطِّي السماوات بالقبوات ، بإرسال جُمَل متكلِّفة لا محصَّل لها ، فالقبوات أضيق من أن تتسع لتغطية السماوات .

وما قلناه لم يكن اجتهاداً كما تقول ، بل كان نصوصاً ، وأي نصوص ! نصوص أنت أعجز من أن تقف لها . وقد بان عجزك .

وما شأن الظاهر بيبرس في موضوعنا لتحاول أن تتغطَّى به . أما قولك : إنَّ الواقع يكذِّب الاحتمال ، وإلاَّ لاستمرّت ممالك الصليبيِّين حتى يومنا ، فنردُّ عليه بأنّنا لم نحتمل احتمالاً ، بل قرَّرنا واقعاً . والذين أزالوا ممالك الصليبيِّين ولم تبقَ بسببهم حتى اليوم ، ليسوا صلاح الدين وورثة صلاح الدين .

ونحن لم نقل : إنّ الحرب لم تقم بعد زوال صلاح الدين وورثته ، بل قلنا ـ وسنظل نقول ـ : إنّ صلاح الدين أعاد للصليبيين ما استردَّه منهم ، أعاد لهم فلسطين عدا القدس . وأدَّت تصرُّفاته الشخصية لأن يُعيد القدس نفسها للصليبيين أولادُ أخيه . وإنَّه هو نفسه عقد الصلح مع الصليبيِّين ، وأنهى معهم حالة الحرب وما يستتبع ذلك من اعتراف بوجودهم وسلطتهم . وإنَّه بعد معركة "حطِّين" ، وبعد هذا الاستسلام ، لم يشْرَع صلاح الدين ولا ورثته رمحاً ، ولا جرَّدوا سيفاً ، ولا أطلقوا سهماً على الصليبيِّين ، وإنَّ الأمر عاد هواناً في هوان .

وإنّك في كل ما درت به ولففت ، وفي كل ما نمقته من عبارات ، وزخرفته من كلمات ، ولوّحت من تهويلات ، لم تستطع أن تنفي حرفاً واحداً ممَّا قرَّرنا . وكل ما فعلته أنَّك سَبَبْتَ ابن الأثير ، وألحقت به في السب ابن شداد صديق صلاح الدين ، وصديق صديقك هو صديقك كما يقولون  .

وهكذا حملك التخبُّط على أن تتناول بالسباب أصدقاءك وأعداءك على السواء . ويؤسفنا ـ يا صديقنا العزيز ـ أنَّنا كنَّا السبب في إيصالك إلى هذه النتيجة المؤلمة المخزية .

إنّ الحرب لم تقم على الصليبيِّين بعد الاستسلام لهم وإضاعة ثمرات معركة حطِّين ، إلاّ بزوال صلاح الدين وورثته وانقراضهم ، والتهويل بالألفاظ المنمَّقة والجمل المزخرفة ، مثل قولك : لقد أصرَّ السيد الأمين على رؤية حقائق صلاح الدين مقلوبة مثل عملية البصر المعكوسة وغير المتصلة بعصب تصحيح البصر ، فالتوحيد عنده تقسيم والانتصار استسلام .

 إلى آخر ما قلت من مثل هذا الكلام الفارغ . إنَّ التهويل بمثل هذه الجُمل ، ونقل الأمر من علم التاريخ إلى علم البصريات ، لا يستطيعان أن يطمسا الحقائق .

نعم ، لقد قسّم صلاح الدين الوطن بتوزيعه على الإخوة والأولاد ، وتحويله إلى دويلات متناحرة متقاتلة تستسلم في النهاية للأعداء وتسلَّمهم حتى القدس . والانتصار عاد استسلاماً بالخضوع لشروط الصليبيِّين وإعادة فلسطين إليهم . هذا القول قاله كل مؤرِّخي ذاك الزمن ، وكل ما عملناه نحن أن نقلنا أقوالهم بنصِّها . فإنْ كان لك من كلام ، فلتوجِّهه إلى أولئك المؤرِّخين ، لا إلينا . عليك أن تكذّب ابن الأثير وابن شداد وأبا شامة وابن العديم وأضرابهم ، ولا شغل لك معنا ، ولا كلام لك ولا لغيرك لدينا .

ولكن من العيب أن يكون جزاؤهم على تسجيل الحقائق سبّك لهم ، وأنَّنا لنعتذر لهم في قبورهم لأنَّنا كنا سبب هذا السب . وممَّا سيدعوهم لقبول عذرنا ، أنَّنا نالنا نصيب من هذا السب ؛ لأنَّنا نقلنا حقائقهم للناس كافة ، وفي سبيل حمل الحقيقة ونقلها يهون كل شيء .

أمَّا حديثك عن دائرة المعارف ، فإنَّا كنا نحب لك ـ حفاظاً عليك ـ أن لا تذكره . إنَّ دائرة المعارف ينطبق اسمها على مسمَّاها تماماً ، وهي تصحح أغلاط المستشرقين ممَّا لم يصحّحه المترجمون المصريون .

وأمَّا قولك : يا حبذا لو يبدأ السيد حسن الأمين بتصحيح أغلاطه المتعمّدة وغير المتعمّدة ، فهو قول نترفع عن الرد عليه . هذا هو سلاحكم حين تواجَهون بالحقائق : السباب والشتائم .

وكل ما نقوله لك في هذا الموضوع : إنَّنا لا نلومك ، فإنَّ الزمن قد أضعف ذاكرتك فأنساك أنَّك كنت في أول المرحِّبين بدائرة المعارف هذه ، يوم صدور طبعتها الأُولى . وأنَّك كنت تطلب المجموعة بعد المجموعة لتتاجر بها ، وأنَّك لم تجد فيها أية أغلاط ولا كان لك أية ملاحظات ، بل كنت تقابلها بالقبول والاستحسان والتشجيع وترى ضرورة وجودها . لقد طال الزمن فأضعف ذاكرتك ، فلم تعد تذكر شيئاً من هذا ، وكل ما بقي لديك :  دوافع وخلفيات وغايات انطلقت منها هذا الانطلاق غير الموفَّق .

أمَّا ما ختمت به مقالك ، من قولك : يخشى المرء في تحامل السيد حسن الأمين على صلاح الدين أن يكون الدافع إليه هو الغيظ من شيء ما ، من حقيقة تاريخية لتلك الحقبة من الزمن المضيء ، ومؤدّاها : أنّ شرف القدس أبى إلاّ أن تحرّر على يدي صلاح الدين ، وأنّ القضاء نهائياً على الصليبيِّين أبى أن يتحقّق إلاَّ على أيدي خلفائه الصالحين .

فنجيبك : أنَّ شرف استرداد القدس قد محاه خزي عقد الصلح مع الصليبيِّين ، والتصرفات التي أدت إلى إعادتها للصليبيين . وأنّ خلفاء صلاح الدين لم يكونوا صالحين ؛ لأنَّهم سلَّموا للصليبيين ما لم يسلِّمه لهم صلاح الدين . وإذا كان صلاح الدين قد سلّم فلسطين كلها للصليبيين ، فإنّ خلفاءه سلّموا مع القدس ما كان قد بقي في أيديهم ممّا هو داخل اليوم فيما سمّي بالجمهورية اللبنانية . وأنّ القضاء نهائياً على الصليبيِّين لم يتحقق على أيدي خلفائه ، بل تحقّق على أيدي مَن جاءوا بعدهم ، على يد الظاهر بيبرس ويد قلاوون وابنه خليل . على أيدي هؤلاء تم القضاء نهائياً على الصليبيِّين ، وهم الذين غسلوا العار الذي جلَّل العرب والمسلمين بعقد الصلح مع الصليبيِّين والاعتراف بسلطتهم وتسليمهم فلسطين وإعادة القدس إليهم على يد الأيُّوبيين ، ابتداءً من صلاح الدين وانتهاءً بخلفائه الذين جاءوا بعده .

ــــــــــــــــــــــــــ

* اقتباس شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) من كتاب : " مستدركات أعيان الشيعة " ، ج2 ،  ص 356 ـ 361 ، للمؤلّف حسن الأمين ، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ، ط 2 ، سنة 1997م .

 (1) هم مَن نزحوا عن بلادهم ( خوارزم ) بعد غزو جنكيز فنزلوا العراق وحدود سوريا .