بسم الله الرحمن الرحيم
(( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) [المائدة : 15-16] .
سيدي يارسول الله . يانور الله لعباده في كل أنحاء الأرض .. ياأطهر وأنبل وأنقى وأسمى بني البشر من آدم ع إلى يوم الدين .
لم يخلق الله جلت قدرته بمثل صفاتك الإنسانية المثلى ؛ تلك الصفات الجليلة المتكاملة ، فاصطفاك الله لتكون المنقذ والبشير والنذير والمصباح المنير ، تشق بخلقك العالي الفريد سجف الدياجير ، وغمرات الجهل ، وضلالات الجاهلية العمياء ، فكان نداء ( اقْرَأْ ) الذي أطلقه جبريل في غار حراء ؛ نداء السعادة والهدى ، نداء المحبة والتقى ، نداء النوروالطهر ، نداء السمو والفضيلة والسلام ، نداء العلم والتعلم للبشرية جمعاء.
فوضعت تلك الكلمات التي كنت متعطشا لها ، وتنتظرها من ربك على أحر من الجمر ، في قلبك ودمك وروحك وكيانك ، ومضيت تعلنها للدنيا صريحة واضحة ، كنور الشمس (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) ، (( أنما بعثت رحمة )) ، (( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) [الأنعام : 124] .
فآمن بك السابقون من الثلة الطاهرة ؛ وأولهم ربيبك وابن عمك وصفيك ووصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهو فتى يافع ، وزوجتك المخلصة العظيمة المضحية خديجة الكبرى رض ، وعمك أسد الله الغالب حمزة بن عبد المطلب رض ، ليكونوا نواة لتلك الثمرة المباركة ؛ التي تحولت إلى شجرة وارفة الظلال ثبتت في الأرض ، ونشرت ظلالها الوارفة لكل من دخل نور الهداية قلبه وروحه ، ووقف بوجهك جحافل الظلام ؛ من العتاة الكفرة المارقين أمثال ، أبي جهل ، وأبي لهب وأبي سفيان ، ومن لف لفهم من الطغاة الظلاميين الغارقين في عصبيتهم الجاهلية العمياء ، التي نشرت الظلم والقهر والإستبداد والعبودية.
فواجهت منهم ياسيدي يارسول الله الحروب والأذى والمقاطعة ، حاولوا قتلك ! رموك بالحجارة ! اتهموك بالسحر والجنون ! وقالوا عنك شاعر ! ... وحاشاك سيدي ، فأنت الصادق الأمين ، وأنت أمام كل النبيين (( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ )) [التكوير : 22] ، (( وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً )) [النساء : 113] ، ولو صب ذلك الأذى والإضطهاد والعدوان على الأيام لصرن لياليا ، وعلى الجبال الشم لأصابها الأنهيار.
لكنك بأمر ربك صبرت الصبر الجميل (( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً)) [المعارج : 5-6-7] ، (( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً )) [الإنسان : 24] .
وشرح الله صدرك ، ووضع عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ، وتساميت على الجراح والغدر والظلم ؛ لأن خلقك أسمى ورسالتك عظيمة ، وكان الله معك وكنت مع الله (( فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً )) [الجن : 13] .
وزاد غي أولئك الضلاليين وحقدهم وكيدهم ، كلما رأوا نورك ينتشر أكثر فأكثر في دهاليز عتمتهم الجاهلية ، وضلالاتهم العميقة ، وظلمهم الفادح ، وغطرستهم الجوفاء ، وأهواءهم الفاسدة الرعناء .
(( فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [القصص : 50] .
فما أعظم صبرك ؛ وما أعلى سموك ؛ وما أجل وأسمى وأنبل خلقك سيدي يارسول الله ؛ وأنت القائل وقولك الصدق كله : (( ماأوذي نبي مثل ماأوذيت )) ، وتوالت آيات ربك العظيم واضحة جلية لكل ذي قلب وعقل سليمين .
(( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) [التوبة : 128] ، وحذر الخالق العظيم لمن شهد الشهادتين بين يديك بوضوح تام ، في آية أخرى (( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) [الأنعام : 153] .
ثم أعلنت لصحبك قائلا : (( أوصاني ربي بتسع ؛ وأنا أوصيكم بها : أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأصل من قطعني ، وأن يكون صمتي فكرا ، ونطقي ذكرا ، ونظري عبرا )) و (( أن لاعبودية في الإسلام )) و (( المسلم ؛ من سلم المسلمون أو الناس من لسانه ويده )) .
ثم أعلنت (( قيمة كل امرئ مايحسنه )) ، وأعلنت (( لافضل لعربي على أعجمي ؛ ألا بالتقوى )) و (( المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص ، يشد بعضه بعضا )) ، وأعلنت (( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ؛ كمثل الجسد أذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى )) و (( أن المسلمين تتكافئ دماءهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم )) و (( دم المسلم على المسلم حرام حرام حرام ، كحرمة يومكم هذا )) و (( من آذى ذميا فقد آذاني )) ، وأعلنت سيدي فيما أعلنت للعباد من مكارم الأخلاق على رؤوس الأشهاد : (( إني مخلف فيكم الثقلين ؛ كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ؛ وعترتي أهل بيتي ، وقد أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ )) ، وقد أبلغت هذا الحديث لأمتك في يوم عرفه ، في حجة الوداع قائلا (( لاترجعوا بعدي كفارا مضلين ، يملك بعضكم رقاب بعض ، إني قد خلفت فيكم ماإن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، ألا هل بلغت ! )) .
وذكرته لهم في أيام مرضك ، قبل انتقالك إلى الرفيق الأعلى ، ودونته أمهات المصادر الأسلامية ، حيث قلت في حق أهل الكساء ، بعد نزول آية التطهير ، فغطيتهم بالكساء اليماني ، ودخلت معهم ، ورفعت رأسك نحو السماء قائلا : (( اللهم أشهد أن هؤلاء أهل بيتي ؛ الذين طهرتهم تطهيرا ، أنا حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، من أحبهم فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضهم فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله )) ، وحين قرأت ياسيدي تلك الآيات البينات : (( ِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ )) [النور : 36] ، وقد سئلت أي البيوت هذه ؟ فقلت (( بيوت الأنبياء )) فقال أبو بكر : (( هذا البيت منها ؟ )) - يعني بيت الأمام علي و الزهراء البتول (عليهما السلام) - فأجبته وبكل وضوح : (( نعم من أفاضلها )) ، وهذا ماذكره الآلوسي في روح المعاني 18:174 ، ومصادر أخرى كثيرة ، لأنك كنت تعلم بأمر من الله أن أهل بيتك ؛ هم خيرمن يحمل الأمانة من بعدك ، وخير من يجودون بأنفسهم في سبيل شريعتك السمحاء الغراء ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وهذا حديثك ياسيدي في حق حبيبك الحسين ، سيد شباب أهل الجنة تقول فيه : (( حسين مني ؛ وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسينا ، حسين سبط من الأسباط )) ، والآيات القرآنية كثيرة ، والأحاديث النبوية الشريفة أكثر من أن تعد أو تحصى ، وتحتاج إلى مجلدات ضخمة ، فماذا عساي أن أكتب في مقالي هذه ؟ فهل حافظ ياسيدي ، من ادعى بأنه آمن بالله ربا ، وبك نبيا ، وبعترتك من بعدك خلفاء لهذه الأمه على عهوده ؟ ، وقد قال الله في محكم كتابه العزيز بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (( وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )) [الإسراء : 34] .
أن أمتك التي ذابت حشاشتك من أجلها ياسيدي يارسول الله ؛ تتراجع يوما بعد يوم ، ويحكمها سلاطين الظلم والظلام والفجور ، وطغاة الأرض الذين ضاقت الأرض ذرعا ، بفسادهم وظلمهم وطغيانهم ، ويطالب وعاظهم الملايين من المقهورين المظلومين أن يطيعوهم ، ويخنعوا لظلمهم وإن فسقوا ، وإن فجروا ، وإن عذبوا ، وإن سجنوا ، وإن عاثوا في الأرض فسادا .
وهناك من يذبح الموحدين لله ، باسم الإسلام ، على طريقة معاوية ، ويزيد ، وابن ملجم ، والشمر ، وحرملة ، من أعراب الجاهلية الأولى ، وقد كثرالكارهون لهذا الدين العظيم - نتيجة أعمال هؤلاء المجرمين - بحق دينك القويم ، ونهجك الطاهر السليم ، فأصبح المسلم متهما في ديار الغربة ، دون أي دليل إلى أن يثبت براءته ، وأينما حل وذهب ، فهناك من يتوجس منه خيفة بمجرد أنه مسلم .
سيدي يارسول الله .. أيها الشفيع العظيم وباب الله المؤدي إلى النعيم .. يامن حوى صدرك كل الفضائل الغراء ، واستقرت فيه محجة الله البيضاء .. يامن لاتطال سيرتك سير كل العظماء .. ياخير معلم للبشرية جمعاء .. ياسيد الطهر والجلال والعطاء .. ويامن جاهدت ضد الجاهلية الجهلاء ، لبيك مِلْء دمي .. لبيك مِلْء روحي ، وكياني ووجداني ، وألوذ بك بما أحدثوا بعدك من فتن رهيبة كالحة مكفهرة سوداء ، أطمع أن تكون شفيعي وسندي وحبيبي ، وكل ملك الأرض لايساوي عندي رضاك عني ، وعن كلماتي الفقيرة الصغيرة بحقك ياسيدي يارسول الله :
ولو أن لي في كل يوم وليلة بساط سليمان ، وملك الأكاسره ؛ لما عدلت عندي جناح بعوضة ، إذا لم تكن روحي لنهجك سائره .
سيدي يارسول الله ص ياأبا الزهراء البتول أوجه ندائي إليك في آخر كلماتي وأقول:
على أبوابكم عبد ذليل | كثير الشوق ناصره قليل | |
يمد أليكم كف افتقار | ودمع العين منهمل يسيل | |
أكون نزيلكم ويضام قلبي | وحاشى أن يضام لكم نزيل |
سلام عليكم سيدي يارسول الله من أرض الغربه ، يوم ولدت ويوم انتقلت إلى جوار ربك ويوم تبعث حيا .
خادمكم الذليل جعفر المهاجر.
السويد في 1/2/2011
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .