الشِّعر لغة المشاعر، ويُعبَّر به أحياناً عن تجارب الحياة وأفكار العقول فضلاً عن هواجس القلوب وأحاسيس النفوس، وعن شؤون الحياة.. ومنها ـ مثلاً ـ ما قيل في السفر، وهو أمرٌ يحتاجه الإنسان في حياته، قليلاً أو كثيراً، ضرورةً من ضرورات العيش أو الارتقاء أو نوال الحوائج والأهداف، فكان من ذلك قول أحد الأدباء:
لا يَمنَعنّك خفضُ العيشِ في دَعَةٍ
مِن أن تُبدِّلَ أوطاناً بأوطانِ
تَلقى بكلِّ بلادٍ إن حللَتَ بها
أهلاً بأهلٍ وإخواناً بإخوانِ
وجاء هذانِ البيتانِ في بعض المصادر الأدبيّة هكذا:
لا يَمنعنّك خفضُ العيشِ في دَعَةٍ
نُزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ
تلقى بكلِّ بلادٍ إن حلَلَتَ بها
أرضاً بأرضٍ وجيراناً بجيرانِ
قد يتّفق هذا لأُناسٍ دون غيرهم وقد لا يتّفق، فالأهل أعزّة والوطنُ لا يُستبدَل طوعاً، وقد يُضطرّ المرء إلى الهجرة لأمرٍ ما أو سببٍ ما، ولكنّ الشاعر الآخر يقول:
بلادي ـ وإن جارت عَلَيّ ـ عزيزةٌ
وأهلي ـ وإن شَحُّوا علَيَّ ـ كرامُ
ولربّما عَنّ أمرٌ فصار السفر نافعاً وإنْ هو قطعة من العذاب ـ كما في الأثر ـ ففيه الغُربة والعناء، ولكن فيه أحياناً من الفوائد أشياءٌ وأشياء، نُسبت إلى أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلام هذه الأبيات:
تَغرَّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلى
وسافِرْ، ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ:
تَفرُّجُ همٍّ، واكتسابُ معيشةٍ
وعلمٌ، وآدابٌ، وصُحبةُ ماجدِ
فإن قيل: في الأسفارِ ذُلٌّ ومحنةٌ
وقطعُ الفيافي وارتكابُ شدائدِ
فموتُ الفتى خيرٌ له مِن قيامِهِ
بدارِ هَوانٍ بينَ واشٍ وحاسدِ
وقال شاعر:
قالوا: نراك كثيرَ السَّيرِ منتقلاً
في الأرضِ تنزلُها طوراً وترتحلُ
فقلتُ: لو لم يكن في السيرِ فائدةٌ
ما كانت الشمسُ في الأبراجِ تنتقلُ
الأبراج: هي منازل الشمس، وقد قال تعالى « والشمسُ تجري لمستقرٍّ لها ، ذلك تقديرُ العزيزِ العليم » [ سورة يس: 38 ].
وقال شاعرٌ آخر:
قالوا: نراك كثيرَ السيرِ منتقلاًَ
بين المدائنِ في كَدٍّ وفي تَعَبِ
فقلت: كالماء يجري في جداولِهِ
إن سار طابَ وإن لم يَسْرِ لم يَطِبِ
* * *
• وهنالك من الشعراء مَن أحبّ أن يذكر مكارم الأخلاق ومحاسنها فيمدحها ويُثني عليها، ويشوّق الناس إلى الفضائل، فقال أحدهم في وصف الأنبياء عليهم السلام:
هم الرجالُ المصابيح الذين همُ
كأنّهم مِن نجومٍ حيّةٍ صُنِعوا
أخلاقُهم نورُهم.. مِن أيِّ ناحيةٍ
أقبَلْتَ تنظر في أخلاقهم سطعوا
وقال آخر:
ما وهَبَ اللهُ لامرئٍ هِبةً
أفضلَ مِن علمِه ومِن أدَبِهْ
هما جمالُ الفتى، فإن فُقِدا
ففَقدُه للحياةِ أجملُ بِهْ
وقال ثالث:
ليس الجمالُ بأثوابٍ تُزّينُنا
وإنّما بجمالِ العلمِ والأدبِ
وقال رابع يهجو أميراً ظالماً وهو في الوقت ذاته يتنسّك:
قد بُلِينا بأميرٍ
ظَلَمَ الناسَ وسَبَّحْ!
فهو كالجزّارِ فينا
يذكر اللهَ ويَذبَحْ!
* * *
• وهناك من الشعراء مَن أحبّ أن يذكر الدنيا فيحذّر من التعلّق بها والافتتان بمُغرِياتها، كما أحبّ أن ينبّه إلى نهايتها والانتقال إلى ما بعدها، فلابدّ من الاستعداد لذلك كلّه.. فقال أحدهم:
هي الدنيا تقول لساكنيها:
حَذارِ حَذارِ مِن بطشي وفتكي
فلا يَغرُرْكمُ حُسنُ ابتسامي
فَقَولي مُضحِكٌ والفعلُ مُبكي
وقال آخر:
لا تحزَنَنّ على الدنيا وما فيها
واحزَنْ على صالحٍ لم تكتسبْ فيها
واذكُرْ ذنوباً عظاماً منك قد سلَفَت
نَسِيتَ أكثرَها، واللهُ مُحصيها
وقال ثالث:
ولَدتَك أمُّك يا ابنَ آدمَ باكياً
والناسُ حولَك يضحكون سُرورا
فاجهَدْ لنفسِك أن تكونَ إذا بكوا
في يومِ موتِك ضاحكاً مسرورا
* * *
• وهكذا تتعدّد أغراض الشعر، حتّى نجد مِن الشعراء مَن أحبّوا أن يصوغوا أبياتهم في مدح النبيّ وآل النبيّ صلّى الله عليه وعليهم، تَقدَّمَهم حامي الرسالة والرسول، أبو طالب شيخ الأباطح سلام الله عليه، فقال في المصطفى الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم:
وأبيضُ يُستسقى الغَمامُ بوجهِهِ
ثُمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ
يلوذ به الهُلاّكُ مِن آلِ هاشمٍ
فَهُم عنده في نعمةٍ وفواضلِ
وخاطب أحدُهم أميرالمؤمنين عليه السلام قائلاً:
يا صاحبَ القبّةِ البيضا على النجفِ
مَن زار قبرَك واستشفى لديك شُفي
زوروا أبا حسنِ المولى، لعلّكمُ
تَحظَون بالأجرِ والإقبالِ والشرفِ
وقيل: إنّ أبا تمّام الطائي قال في الإمام عليٍّ عليه السلام:
هو البحرُ مِن أيّ الجهاتِ أتيتَهُ
فلُجّتُه المعروفُ والبِرُّ ساحلُهْ
تَعوّدَ بسطَ الكفِّ حتّى لَوَ آنّهُ
أراد انقباضاً لم تُطعْه أناملُهْ
ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسِهِ
لَجاد بها، فَلْيَتّقِ اللهَ سائلُهْ
ولما عُوتبِ أبو نؤاس على عدم مدحه للإمام الرضا عليه السلام قال:
قيل لي: أنت أوحدُ الناس طُرّاً
في المعاني وفي الكلام البديهِ
لك مِن جيّدِ القريضِ مديحٌ
ينثر الدرَّ في يَدَي مُجتَنيهِ
فلماذا تركتَ مدحَ آبنِ موسى
والخصالِ التي تجمّعنَ فيهِ ؟
قلتُ: لا أستطيع مدحَ إمامٍ
كان جبريلُ خادماً لأبيهِ
وقال شاعر له رجاءٌ كبير بشفاعة آل الله عليهم السلام:
ظنّيَ باللهِ حسَنْ
وبالنبيِّ المؤتمَنْ
وبالوصيِّ المرتضى الهادي إلى خيرِ السُّننْ
وبالبتولِ فاطمٍ
وبالحسينِ والحسَنْ
وقال شاعرٌ آخر يُفصح عن عقيدته في أهل بيت الوحي والرسالة:
محبّتُهم دِينٌ، ووُدُّهُمُ هُدىً
وبُغضُهمُ كفرٌ، ونَصرُهمُ تقوى
همُ الآيةُ الكبرى، همُ سادةُ الورى
همُ الحُجّةُ العظمى، همُ الغايةُ القُصوى
وقال شاعر يمدح وينتمي:
ولمّا رأيتُ الناسَ قد ذهبَتْ بهم
مذاهبُهم في أبحُرِ الغيِّ والجهلِ
رَكِبتُ ـ علَى آسم اللهِ ـ في سُفنِ النَّجا
وهم أهلُ بيتِ المصطفى خاتمِ الرسْلِ
وأمسكتُ حبلَ اللهِ وهو وَلاؤُهم
كما قد أُمِرنا بالتمسُّكِ بالحبلِ
وكذلك رُوي عن الشافعي ـ إمام المذهب ـ هذه الأبيات يمدح فيها وينتمي:
قالوا: رَفضتَ ؟ قلتُ: كلاّ
ما الرفضُ ديني ولا اعتقادي
لكن تولَّيتُ دونَ شكٍّ
خيرَ إمامٍ وخيرَ هادي
إن كان حبُّ الوصيِّ رفضاً
فإنّني أَرفَضُ العبادِ
ويأتي شاعرٌ آخر فينهى عن التفاضل والمفاضلة، فيقول:
فلا تَعدِلْ بأهلِ البيتِ خَلقاً
فأهلُ البيتِ هم أهلُ السيادة
فبُغضُهمُ ـ بلا شكٍّ ـ ضَلالٌ
وحبُّهمُ ـ بلا ريبٍ ـ عبادة
ويقول محبٌّ مُوالٍ شاكرٌ نعمةَ الولاية، وهو الصاحب بن عبّاد:
مَواهبُ اللهِ عندي جاوَزَت أمَلي
وليس يَبلُغها قولي ولا عملي
لكنّ أفضلَها عندي وأشرفَها
ولايتي لأمير المؤمنين علي