بعد أن اتّضح الجوّ العام الذي كان يحيط بالإمام الحسن العسكري(عليه السلام) والمهامّ الأساسية التي تنتظره وهو حلقة الوصل بين عصري الحضور والغيبة بكل ما يزخران به من خصائص وسمات، تأتي مهامّ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) كالتالي:
1 ـ الحكمة والدقّة في التعامل مع الحكّام
عرفنا ممّا سبق أن السلطة قد اتّخذت بالنسبة للإمام(عليه السلام) الإجراءات التالية:
1 ـ التقريب من البلاط والتظاهر باكرام الإمام(عليه السلام) .
2 ـ المراقبة الشديدة والمستمرة لكل أحوال الإمام(عليه السلام).
3 ـ الصّرامة في المواجهة إذا تطلّب الأمر ذلك مثل سجن الإمام(عليه السلام) أو مداهمة بيته أو اغتياله.
وكان لابدّ للإمام(عليه السلام) أن يتعامل بحذر ودقّة مع السلطة إزاء هذه الإجراءات القاسية التي كانت تستهدف الكشف عن ابن الإمام العسكري أو تحول دون ولادته إن أمكن، وتستهدف قطع صلة الإمام بشيعته وأتباعه. وسوف نشير الى آليات ودقة تخطيط الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) والتي حالت دون انكشاف الإمام المهدي (عليه السلام) للسلطة.
وكان الإمام(عليه السلام) يستفيد من الفرص التي تحصل له من خلال الوفود التي كانت تصل الى العاصمة وكان يتم له الارتباط باتباعه بأساليب ذكية شتى فكانت تصل اليه بعض الأموال او الاستفتاءات أو غير ذلك من الأخبار والقضايا التي تهمّ الإمام(عليه السلام) .
على أنّ اتّساع دائرة الوكلاء للإمام(عليه السلام) كانت تقلّل من ضرورة الارتباط المباشر بالإمام(عليه السلام) وكانت سياسة الاحتجاب التي اتّخذها الإمام(عليه السلام) تعطي للسلطة اطمئناناً لمحدودية تحرك الإمام أو تُظهر لهم تجميده لنشاطه.
2 ـ الردّ على الشبهات والدفاع عن حريم الرسالة
من أهم النشاطات التي بدرت للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) في عصره هي الردّ الهادئ والحكيم لأكبر محاولة تخريبية كان الكندي ـ وهو أحد فلاسفة المسلمين ـ قد تصدّى لها، فإنّه كان قد جمع جملة من الآيات المتشابهة التي يبدو للناظر فيها انها تنطوي على نوع من التناقض، وكان ينوي نشرها، وهذه المحاولة كانت تستهدف القرآن الكريم سند الرسالة والنبوة، ورمز الكيان الإسلامي الأوّل.
لم يلتفت أحد الى مدى خطورة هذه المحاولة وتأثيرها السلبي على غير المتخصصين وهم عامة المسلمين، بالإضافة الى ما تعطيه هذه المحاولة من مستمسكات بيد أعداء الإسلام والمسلمين، غير أن الإمام(عليه السلام) قد اطّلع على هذه المحاولة وأجهضها وهي في مهدها، حيث دخل أحد تلامذة الكندي على الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) فقال له الإمام(عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟
فقال التلميذ : نحن تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره ؟
فقال أبو محمد (عليه السلام) : أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك ؟
قال : نعم .
قال الإمام (عليه السلام) : فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل : قد حضرتني مسألة أسألك عنها ; فإنّه يستدعي ذلك منك ، فقل له : إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها ؟
فإنه سيقول لك : إنّه من الجائز ; لأنه رجل يفهم إذا سمع ، فاذا أوجب ذلك فقل له : فما يدريك لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنت إليه ، فيكون واضعاً لغير معانيه .
ثمّ إن الرجل صار الى الكندي ، ولمّا حصلت الأنسة ألقى عليه تلك المسألة فقال الكندي : أعد عليّ ، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر .
فقال ـ الكندي ـ : أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك ؟
فقال تلميذه : إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك ، فقال : كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرّفني من أين لك هذا ؟
فقال : أمرني به أبو محمّد العسكري (عليه السلام) .
فقال : الآن جئت به ، ما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت ، ثم دعا بالنار وأحرق ما كان أ لّفه[1].
وهذا الموقف من الإمام (عليه السلام) له دلالة كبيرة على رصد الإمام (عليه السلام) لكل النشاطات العلمية والفكرية التي من شأنها أن تمس الرسالة الإسلامية من قريب أو بعيد بالإضافة الى دورها الكبير في تنمية الحس الاعتقادي الصحيح وإبعاد الشيعة عن مواطن الشك والشبهة ، وذلك اسلوب اتبعه الإمام (عليه السلام) تجاه الفرق والمذاهب ، والانحرافات الفكرية بشكل عام; ليكون درساً لأصحابه وشيعته على مرّ الأجيال والقرون .
ثمّ إنّ حادثة الاستسقاء بالرهبان وتأثيرها السلبي على جموع المسلمين لم يكن ليردّ عليها أحد سوى الإمام العسكري(عليه السلام)، وكانت السلطة قد عرفت هذا الموقع المتميّز للإمام(عليه السلام). فطلبت منه أن يتولّى مهمة الدفاع عن اُمة جدّه حين حصل لها الشك والارتياب .
وقد أفلح الإمام(عليه السلام) ـ كما عرفنا ذلك ـ ورفع الشكوك والابهامات التي كانت تنعكس على حقّانية الشريعة والكيان الإسلامي الذي يعمل باسم الشريعة الخاتمة، وبذلك أنقذ الإمام(عليه السلام) الاُمة الإسلامية والكيان الإسلامي من السقوط والانهيار.
3 ـ مواجهة الفرق المنحرفة
لقد اختلف المسلمون بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وافترقوا إلى فرقتين ، فرقة اجتهدت مقابل النصوص الواردة عنه(صلى الله عليه وآله) واُخرى التزمت النص ومنهجه في حياتها ومواقفها وسارت وفقاً له .
ومع امتداد تاريخ الدولة الاسلامية تفرعت كل فرقة الى فروع وظهرت فرق متعددة ، كالمرجئة ، والمعتزلة ، والخوارج التي نشأت بعد قضية التحكيم في وقعة صفين في عهد الحكم العلوي .
وقد تصدى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) آباء الحسن العسكري (عليه السلام) باعتبارهم حماة الرسالة والعقيدة الاسلامية للفرق الضالة في عصورهم فكان لكل امام مواقف خاصة مع كل فرقة من هذه الفرق التي كان يخشى من انحرافاتها على الاُمة المسلمة .
وإليك نموذجين من مواجهة الإمام(عليه السلام) للفرق المنحرفة التي عاصرها في مدة إمامته:
1 ـ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والثنوية
والثنوية من الفرق التي كانت في عصر الإمام العسكري(عليه السلام) ، وهم من أثبت مع القديم قديماً غيره، وهم المجوس يثبتون مع مبدأ الخير مبدءاً للشر وهما النور والظلمة[2]
وروى الشيخ الكليني(رضي الله عنه) عن اسحاق قال : أخبرني محمّد بن الربيع الشائي ، قال : ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز ثمّ قدمت (سرّ من رأى) وقد علق بقلبي شيء ممّا قاله ، فإنّي لجالس على باب أحمد بن الخصيب ، إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامّة يوم المركب ، فنظر إليّ وأشار بسبّابته : أحد ، أحد ، فرد . فسقطت مغشيّاً عليَّ[3].
وكتب إليه أحد أصحابه يسأله الدعاء لوالديه ، وكان الأب ثنويّاً والاُم مؤمنة فكتب (عليه السلام) : رحم الله والدتك ـ والتاء منقوطة من فوق ـ[4].
2 ـ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والصوفية
لقد أوضح الإمام الإمام العسكري (عليه السلام) فساد معتقدات الصوفية من خلال بيانه لآرائهم وأساليبهم في التعامل وعلاقاتهم مع الناس، ما يتحلون به من صفات وخصائص ، ونلاحظ ذلك في حديث الإمام العسكري (عليه السلام) مع أبي هاشم الجعفري . حيث قال له الإمام (عليه السلام) : ياأبا هاشم : سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة ، مستبشرة ، وقلوبهم مظلمة منكدرة ، السُّنة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم سُنّة ، المؤمن بينهم محقَّر والفاسق بينهم موقَّر ، اُمراؤهم جاهلون جائرون ، وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون ، أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء ، وأصاغرهم يتقدّمون على الكبراء ، وكل جاهل عندهم خبير وكل محيل عندهم فقير ; لا يتميزون بين المخلص والمرتاب ، ولا يعرفون الضأن من الذئاب ، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض ، لأنّهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف ، وأيم الله إنّهم من أهل العدول والتحرف ، يبالغون في حبّ مخالفينا ويُضلّون شيعتنا وموالينا ، فان نالوا منصباً لم يشبعوا من الرثاء ، وإن خذِلوا عبدوا الله على الرياء ، ألا إنّهم قطّاع طريق المؤمنين والدعاة إلى نحلة الملحدين ، فمن أدركهم فليحذرهم وليصن دينه وإيمانه . ثم قال : ياأبا هاشم : هذا ما حدثني به أبي عن آبائه عن جعفر بن محمد (عليهم السلام) وهو من أسرارنا فاكتمه إلاّ عن أهله[5].
الهوامش:
[1] المناقب : 4 / 457، 458 عن كتاب التبديل لأبي القاسم الكوفي (ق 3) .
[2] مجمع البحرين الطريحي: 1/78 .
[3] الكافي : 1 / 511 ، ح 20 وفي نسخة: الشيباني، وكذلك في مناقب آل أبي طالب: 4/422 .
[4] كشف الغمة: 3/221، بحار الأنوار: 50/294 .
[5] حديقة الشيعة : 592 عن السيد المرتضى الرازي (ق 5) في كتبه: بيان الأديان وتبصرة العوام والفصول التامّة في هداية العامّة عن الشيخ المفيد مسنداً، الأنوار النعمانية : 2 / 293، ذرائع البيان في عوارض اللسان : 38 .