عن أبي الصلت الهروي أنه قال :
بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي : ياأبا الصلت ، ادخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون وآتني بتراب من أربعة جوانبها .
قال : فمضيت فأتيت به ، فلمّا مثلت بين يديه ، قال لي : ناولني [ من ] هذا التراب ، ـ وهو من عند الباب ـ فناولته فأخذه وشمّه ثم رمى به ، ثمّ قال : سيحفر لي [ قبر ] ههنا ، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها ، ثمّ قال في الذي عند الرّجل والّذي عند الرأس مثل ذلك ، ثمّ قال : ناولني هذا التراب فهو من تربتي .
ثمّ قال : سيحفر لي في هذا الموضع ، فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراق إلى أسفل ، وأن تشقّ لي ضريحه ، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا ، فتأمرهم أن يجعلوا اللّحد ذراعين وشبراً فإنّ الله تعالى سيوسّعه ما يشاء ، وإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوةً ، فتكلّم بالكلام الّذي أعلّمك ، فإنّه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللّحد وترى فيه حيتاناً صغاراً ، فتفتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيء ، ثمّ تغيب ، فإذا غابت فضع يدك على الماء ، ثمّ تكلّم بالكلام الّذي اُعلّمك ، فإنّه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون .
ثمّ قال (عليه السلام) : ياأبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر ، فإن خرجت [ وأنا ] مكشوف الرأس ، فتكلّم أكلّمك ، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني .
قال أبو الصلت : فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه ، وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك ، إذ دخل عليه غلام المأمون ، فقال له : أجب أمير المؤمنين ، فلبس نعله ورداءه ، وقام يمشي وأنا أتبعه ، حتّى دخل على المأمون ، وبين يديه طبق عليه عنب ، وأطباق فاكهة ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه ، وبقي بعضه .
فلمّا أبصر بالرضا (عليه السلام) وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود ، وقال : ياابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا !
قال له الرضا (عليه السلام) : ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة . فقال له : كل منه فقال له الرضا (عليه السلام) : تعفيني منه . فقال : لا بدّ من ذلك ، وما يمنعك منه لعلّك تتّهمنا بشيء . فتناول العنقود فأكل منه ، ثمّ ناوله فأكل منه الرضا (عليه السلام) ثلاث حبّات ، ثمّ رمى به وقام .
فقال المأمون : إلى أين ؟ قال : إلى حيث وجّهتني ، وخرج (عليه السلام) مغطّى الرأس فلم أكلّمه حتّى دخل الدار ، فأمر أن يغلق الباب ، فغلق ثمّ نام (عليه السلام) على فراشه ، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً .
فبينا أنا كذلك ، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه الناس بالرضا (عليه السلام) ، فبادرت إليه وقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ؟ فقال : الّذي جاء بي من المدينة في هذاالوقت : هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق. فقلت له :
ومن أنت ؟
فقال لي : أنا حجّة الله عليك ياأبا الصلت ، أنا محمّد بن عليّ .
ثمّ مضى نحو أبيه (عليه السلام) فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرضا (عليه السلام) وثب إليه ، فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً إلى فراشه ، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ (عليه السلام) يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه .
ومضى الرضا (عليه السلام) ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ياأبا الصلت قم فأتني بالمغتسل والماء من الخزانة . فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء . فقال لي : إنته إلى ما آمرك به، فدخلت الخزانة ، فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته وشمّرت ثيابي لأغسّله معه ، فقال لي : تنحّ ياأبا الصلت فإنّ لي من يعينني غيرك . فغسّله .
ثمّ قال لي : ادخل الخزانة ، فأخرج إليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه ، [ فدخلت ]فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قطّ ، فحملته إليه فكفّنه وصلّى عليه .
ثمّ قال لي : ائتني بالتابوت .
فقلت : أمضي إلى النجّار حتّى يصلح التابوت .
قال : قم فإنّ في الخزانة تابوتاً .
فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قطّ فأتيته به ، فأخذ الرضا (عليه السلام) بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت ، وصفّ قدميه ، وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتّى علا التابوت ، فانشقّ السقف ، فخرج منه التابوت ومضى .
فقلت : ياابن رسول الله ، الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا(عليه السلام) فما نصنع ؟
فقال لي : أسكت فإنّه سيعود ياأبا الصلت ، ما من نبيّ يموت بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلاّ جمع الله تعالى بين أرواحهما وأجسادهما .
فما أتمّ الحديث ، حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت ، فقام (عليه السلام) فاستخرج الرضا (عليه السلام) من التابوت ، ووضعه على فراشه كأنه لم يغسّل ولم يكفّن .
ثمّ قال لي : ياأبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون ، ففتحت الباب ، فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه ، ولطم رأسه، وهو يقول :
ياسيّداه فجعت بك ياسيّدي ، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه .
فأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كلّ شيء على ما وصفه الرضا (عليه السلام) فقال له بعض جلسائه : ألست تزعم أنّه إمام ؟ قال : بلى . قال : لا يكون الإمام إلاّ مقدّم الناس .
فأمر أن يحفر له في القبلة، فقلت : أمرني أن أحفر له سبع مراق ، وأن أشقّ له ضريحه فقال : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح ، ولكن يحفر له ويلحد .
فلمّا رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك ، قال المأمون :
لم يزل الرضا (عليه السلام) يرينا عجائبه في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً . فقال له وزير كان معه : أتدري ما أخبرك به الرضا ؟ قال : لا .
قال : إنّه أخبرك أنّ ملككم يابني العبّاس مع كثرتكم وطول حذركم مثل هذه الحيتان ، حتّى إذا افنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم ، سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم قال له : صدقت .
ثمّ قال لي : ياأبا الصلت علّمني الكلام الّذي تكلّمت به . قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي . وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ، ودفن الرضا (عليه السلام) ، فحبست سنة ، فضاق عليّ الحبس ، وسهرت الليل ، ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآله (عليهم السلام) ، وسألت الله تعالى بحقّهم أن يفرّج عنّي .
فلم أستتم الدعاء حتّى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام) .
فقال ] لي [ : ياأبا الصلت ضاق صدرك ؟ فقلت : إي والله . قال : قم فاخرج .
ثمّ ضرب يده إلى القيود الّتي كانت [ عليّ ] ففكّها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار ، والحرسة والغلمة يرونني ، فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار .
ثمّ قال لي : إمض في ودائع الله ، فإنّك لن تصل إليه ، ولا يصل إليك أبداً .
قال أبو الصلت : فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت[10][88].
الباب الثالثالفصل الأول ملامح عصر الإمام الجواد (عليه السلام)
كان عصر الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) من أزهى العصور الاسلامية وأروعها ، من حيث تميّزه في نهضته العلمية وحضارته الفكرية ، وقد ظل المسلمون وغيرهم أجيالاً وقروناً يقتاتون من موائد الثروات الفكرية والعلمية التي اُسّست في ذلك العصر .
ولا بدّ لنا من الحديث ـ بايجاز ـ عن معالم عصر الإمام (عليه السلام) فقد أصبحت دراسة العصر من المباحث المنهجية التي لا غنى للباحث عنها .
1 ـ الحياة الثقافية :
تعتبر الحياة الثقافية في ذلك العصر من أبرز معالم الحياة في العصور الاسلامية على الاطلاق ، فقد ازدهرت الحركة الثقافية ، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً ، وتأسّست المعاهد الدراسية، وشاعت الحلقات العلمية، واقبل الناس بلهفة على طلب العلم ، يقول نيكلسون : وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ، ووفرة ثروتها ، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على الأقل أنصاراً للأدب ، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهّفين ، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف ، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل[1][89] . ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية .
المراكز الثقافية :
أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فهي :
1 ـ المدينة : وكانت المدينة من أهم المراكز العلمية في ذلك العصر ، فقد تشكّلت فيها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقد ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وقد عنوا بصورة موضوعية بتدوين أحاديثهم الخاصة في الفقه الذي يمثل روح الإسلام وجوهره، كما تشكّلت في المدينة مدرسة التابعين وهي مدرسة فقهية عنت بأخذ الفقه ممّا روي عن الصحابة ، ويرجع فيما لم يرو فيه عنهم حديث إلى ما يقتضيه الرأي والقياس حسب ما ذكروه .
2 ـ الكوفة : وتأتي الكوفة بعد المدينة في الأهمية ، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد ، والمدارس الاسلامية ، فقد انتشرت فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الاسلامية من الفقه والتفسير والحديث وغيرها .
وكانت الكوفة علوية الرأي ، فقد عنت مدرستها بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) وقد حدّث الحسن بن علي الوشاء فقال : أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد[2][90] ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين ، وبنو عطيّة وبيت بني دراج وغيرهم[3][91] .
ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة ، وإنّما كان النحو سائداً أيضاً ، فقد اُنشئت في الكوفة مدرسة النحويين ، وكان من أعلامها البارزين : الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون ، ومن الجدير بالذكر انّ هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الذي وضع قواعده واُصوله .
3 ـ البصرة : وكانت مركزاً مهمّاً لعلم النحو ، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة ، وقد سُمّي نُحاة البصرة (أهل المنطق) تمييزاً عن نُحاة الكوفة وكان من أعلام هذه الصناعة سيبويه الفارسي ، وهو صاحب كتاب سيبويه، الذي هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقول دي بور : فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً ، ومجهوداً عظيماً ، حتى أنّ المتأخّرين قالوا : إنّه لا بدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء ، مثل قانون ابن سيناء[4][92] .
وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء ، وكانت مدرسة أيضاً لعلم العروض الذي وضع اُصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب العين الذي هو أوّل معجم وضع في اللغة العربية .
4 ـ بغداد : حيث ازدهرت بالحركات العلمية والثقافية ، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الاسلامية ، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية ، وكذا سائر الفنون ، وقد أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر ، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا. يقول غوستاف لوبون : كان العلماء ورجال الفن والاُدباء من جميع الملل والنحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد ، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا، قال أبو الفرج عن المأمون : إنّه كان يخلو بالحكماء ، ويأنس بمناظرتهم ، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده[5][93].