تحدثنا عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) وعن اختياره اُم الفضل لتنفيذ الجريمة .
ومما يشير الى أسباب استغلال المعتصم لاُمّ الفضل وكيفية تحريضها على الاقدام على قتل الإمام (عليه السلام) ما روي من شدة غيرتها أيام أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه . [9][165]
قال أبو نصر الهمداني: حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر عمّة أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) .
قالت : لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضا (عليه السلام) أتيت زوجته اُم عيسى[10][166] بنت المأمون فعزّيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل ، فخفت عليها ان تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما اعطاه الله تعالى من الشّرف والاخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة ، اذ قالت امّ عيسى : الا اخبرك عنه بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت : وما ذاك ؟
قالت : كنت أغار عليه كثيراً وأراقبه ابداً وربما يسمعني الكلام فاشكو ذلك الى أبي فيقول يابنيّة احتمليه فانّه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فبينما انا جالسة ذات يوم اذ دخلت عليّ جارية فسلّمت ، فقلت : من انت ؟ فقالت : انا جارية من ولد عمّار بن ياسر وانا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) زوجك .
فدخلني من الغيرة ما لا اقدر على احتمال ذلك هممت ان اخرج واسيح في البلاد وكاد الشيطان ان يحملني على الإساءة اليها، فكظمت غيظي واحسنت رفدها وكسوتها ، فلمّا خرجت من عندي المرأة نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل . فقال : ياغلام عليّ بالسّيف ، فاتى به ، فركب وقال : والله لاقتلنّه فلمّا رايت ذلك قلت : انّا لله وانّا اليه راجعون ، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي ، فدخل عليه والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه .
ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه فلم ارقد ليلتي فلمّا ارتفع النّهار اتيت أبي فقلت : اتدري ما صنعت البارحة ؟ قال : وما صنعتُ ؟ قلت : قتلتَ ابن الرّضا (عليه السلام) ، فبرق عينه وغشي عليه ثم افاق بعد حين وقال : ويلك ما تقولين ؟ قلت : نعم والله يا ابه دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسّيف حتى قتلته ، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً وقال : عليّ بياسر الخادم فجاء ياسر .
فنظر اليه المأمون وقال : ويلك ما هذا الّذي تقول هذه ابنتي قال : صدقَتْ ياامير المؤمنين فضرب بيده على صدره وخدّه ، وقال : انّا لله وانّا اليه راجعون هلكنا بالله وعطبنا وافتضحنا الى آخر الابد ويلك ياياسر فانظر ما الخبر والقصة عنه(عليه السلام) ؟ وعجّل عليّ بالخبر فان نفسي تكاد ان تخرج السّاعة فخرج ياسر وانا ألطم حرّ وجهي، فما كان ياسر من ان رجع ، فقال : البشرى ياامير المؤمنين . قال : لك البشرى فما عندك ؟
قال ياسر : دخلت عليه فاذا هو جالس وعليه قميص ودواج وهو يستاك فسلّمت عليه وقلت : ياابن رسول الله اُحب أن تهب لي قميصك هذا اصلّي فيه واتبرك به ، وانما اردت ان انظر اليه والى جسده هل به اثر السّيف فوالله كأنّه العاج الّذي مسّه صفرة ما به اثر . فبكى المأمون طويلاً وقال : ما بقى مع هذا شيء إنّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين .
وقال : ياياسر امّا ركوبي اليه واخذي السّيف ودخولي عليه فاني ذاكر له وخروجي عنه فلست اذكر شيئاً غيره ولا اذكر ايضاً انصرافي الى مجلسي فكيف كان امري وذهابي اليه ، لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً، تقدّم اليها وقل لها يقول لك ابوك والله لئن جئتني بعد هذا اليوم شكوت او خرجت بغير اذنه لانتقمنّ له منك .
ثم سر الى ابن الرّضا وابلغه عني السّلام واحمل اليه عشرين الف دينار وقدّم اليه الشهري الّذي ركبته البارحة ، ثم أمر بعد ذلك الهاشميّين ان يدخلوا عليه بالسّلام ويسلّموا عليه . قال ياسر : فأمرت لهم بذلك ودخلت انا ايضاً معهم وسلّمت عليه وابلغت التّسليم ووضعت المال بين يديه وعرضت الشّهري عليه فنظر اليه ساعة ثم تبسّم .
فقال(عليه السلام) : ياياسر هكذا كان العهد بيننا وبينه حتّى يهجم علي ، اما علم ان لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه . فقلت : ياسيّدي ياابن رسول الله دع عنك هذا العتاب واصفح ، والله وحق جدّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان يعقل شيئاًمن امره وما علم اين هو من ارض الله وقد نذر لله نذراً صادقاً وحلف ان لا يسكر بعد ذلك ابداً ، فان ذلك من حبائل الشّيطان ، فاذا انت ياابن رسول الله اتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه .
فقال (عليه السلام) : هكذا كان عزمي ورأيي والله ، ثم دعا بثيابه ولبس ونهض وقام معه الناس اجمعون حتى دخل على المأمون فلمّا رآه قام اليه وضمّه الى صدره ورحّب به ولم يأذن لأحد في الدخول عليه ولم يزل يحدّثه ويستأمره ، فلمّا انقضى ذلك قال أبو جعفر محمّد بن علي الرّضا (عليه السلام) : يا أمير المؤمنين ، قال : لبيّك وسعديك . قال : لك عندي نصيحة فاقبلها .
قال المأمون : بالحمد والشكر فما ذاك ياابن رسول الله؟
قال(عليه السلام): احبّ لك ان لا تخرج باللّيل فإني لا آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي عقد تحصّن به نفسك وتحرّز به من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما انقذني الله منك البارحة ولو لقيت به جيوش الرّوم والتّرك واجتمع عليك وعلى غلبتك اهل الأرض جميعاً ماتهيّأ لهم منك شيء بإذن الله الجبّار . وان احببت بعثت به اليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك . قال : نعم ، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه اليّ ، قال : نعم .
قال ياسر : فلمّا اصبح أبو جعفر (عليه السلام) بعث اليّ فدعاني فلمّا صرت اليه وجلست بين يديه دعا برقّ ظبي من ارض تهامة ثم كتب بخطّه هذا العقد .
ثم قال(عليه السلام) : ياياسر احمل هذا الى امير المومنين وقل له : حتى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليها ما اذكره بعده فإذا اراد شدّه على عضده فليشدّه على عضده الأيمن وليتوضّأ وضوءاً حسناً سابغاً وليصل اربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة: فاتحة الكتاب مرّة وسبع مرّات: آية الكرسي وسبع مرات: شهد الله وسبع مرّات والشمس وضحاها وسبع مرّات: واللّيل اذا يغشى وسبع مرّات: قل هو الله احد .
فاذا فرغ منها فليشدّه على عضده الايمن عند الشّدائد والنوائب يسلم بحول الله وقوته من كلّ شيء يخافه ويحذره وينبغي ان لا يكون طلوع القمر في برج العقرب ولو انه غزى اهل الرّوم وملكهم لغلبهم باذن الله وبركة هذا الحرز .
وروي انه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها غزا اهل الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء الله ولم يفارق هذا الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عزوجلّ بفضله ويرزقه الفتح بمشيّته انَّه وليّ ذلك بحوله وقوته . [11][167]
ويقول المؤرخون إن اُم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام الجواد (عليه السلام) عندما سقته السمّ .
فقد روي : أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه . . . فأجابته الى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه ، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال : ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر ، فماتت بعلّة في اغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة ، حتى احتاجت الى الاسترفاد[12][168].
وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ انفاسه الاخيرة ولسانه يلهج بذكر الله تعالى ، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الامامة والقيادة المعصومة في الاسلام .
لقد استشهد الإمام الجواد (عليه السلام) على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت بموته صفحة من صفحات الرسالة الاسلامية التي اضاءت الفكر ورفعت منار العلم والفضيلة في الأرض .
تجهيزه ودفنه :
وجُهّز بدن الإمام (عليه السلام) فغسّل واُدرج في اكفانه ، وبادر الواثق والمعتصم فصليا عليه[169] [13] ، وحمل الجثمان العظيم الى مقابر قريش ، وقد احتفت به الجماهير الحاشدة ، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه ، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للامام الجواد (عليه السلام) وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جده العظيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فواروه فيه وقد واروا معه القيم الانسانية ، وكل ما يعتز به الانسان من المثل الكريمة[14][170].
عن أبي جعفر المشهدي باسناده عن محمد بن رضيّة عن مؤدّب لأبي الحسن]الهادي(عليه السلام)[ ، قال : انه كان بين يدي يوماً يقرأ في اللوح اذ رمى اللوح من يده وقام فزعاً وهو يقول : انا لله وانا اليه راجعون مضى والله أبي (عليه السلام) فقلت : من اين علمت هذا ؟ فقال(عليه السلام) : من اجلال الله وعظمته شيء لا أعهده .
فقلت : وقد مضى ، قال : دع عنك هذا ائذن لي ان ادخل البيت واخرج اليك واستعرضني بآي القرآن ان شئت اقل لك بحفظ، فدخل البيت فقمت ودخلت في طلبه اشفاقاً مني عليه وسألت عنه فقيل دخل هذا البيت وردّ الباب دونه وقال لي : لا تؤذن عليّ أحداً حتى أخرج عليكم .
فخرج(عليه السلام) الي متغيّراً وهو يقول : انا لله وانا اليه راجعون مضى والله أبي، فقلت : جعلت فداك، قد مضى فقال : نعم وتولّيت غسله وتكفينه وما كان ذلك لِيلَي منه غيري ثم قال لي: دع عنك واستعرضني آي القرآن ان شئت أفسر لك تحفظه
فقلت : الاعراف . فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم * واذ نتقنا الجبل فوقهم كانّه ظلّة وظنوا انه واقع بهم )[15].[171]