﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ 1 .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ 2 .
رسالات السماء و المصلح المنتظر
اتفقت رسالات السماء اجمع ، على البشارة بالمصلح المنتظر ، الذي يقيم العدل ، و ينسف الجود ، و يطهّر الأرض من فساد ينموها ، و يطبّق أرجاءها ، و يثقل مناكبها بما تكسب أيدي الناس .
اتفقت رسالات السماء أجمع على البشارة بهذا المصلح المنتظر ، حتّى ما حُرّف من هذه الأديان عن وجهته الصحيحة ، و لعبت به الأهواء و الآراء ، و اتفق معها كثير من الأديان الأخرى التي وضعها ابن الأرض و نسبها افتراءً إلى وحي السماء .
اتفقت رسالات السماء على ذلك ، فكلّها تُبَشرّ ، و كلّها تنتظر ، و أكثرها يصف خروج هذا المصلح العظيم ، و يذكر ملامحه ، و يشير الى سيرته ، و صفات الزمان الذي يخرج فيه .
و ستر الاتفاق بين الأديان على هذا الأمر ، و التعاقد الكامل بينهما على ذكره و التأكيد عليه : أن هذا المصلح المنتظر هو أمل الأديان الذين يحقّق لها غايتها ، و يتمّ أشواطها ويطبّق مناهجها ، ويقيم عدل الله على جديد الأرض ، فلا ميل و لا جور و لا عسف .
و هو أمل الإنسانية الذي تسمو به عن موارد الهون ، و يأخذ بيدها إلى الخير الأعلى ، و يجزّ أيدي العابثين بمقدّراتها ، ويدكّ صروح المتحكمين في شؤونها ، المستهزئين بقيمها و مُثُلها . أمل الإنسانية و رجاؤها الذي يشدّ قلب الضعيف ، و يطامن من غلواء القوى ، ويهذّب شذوذ المنحرف .
و هو أمل الحياة الذي يقوّم أودها . ويوحّد أنظمتها ، ويقود سيرتها ، نعم . و لو لا هذا الأمل المرجو أن تبلغه الأديان وتبلغه الانسانية و الحياة في يوم من الأيام ، لكانت الحياة نَكَداً من النّكَد ، وشراً مستطيراً من الشر ، و عبءً ثقيلاً على الأحساء ، و ما حياة شيء يعيش محطّم الأمل ، مقطوع الرجاء ، مجذوذ الغاية؟ .
للأديان غاية واحدة
إن الأديان التي أنزلتها السماء كافة تهدف إلى غاية واحدة ، هي إقامة السدد التام في هذه الأرض ، العدل في الفرد ، و العدل في المجتمع ، والعدل في الأخلاق ، والعدل في المعاملة ، والعدل في الحكم .
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... ﴾ 3 .
هذه الغاية التي من أجلها أرسلت الرّسل ، وأنزلت الكتب ، ووضعت الشرائع والمناهج الموازين: ﴿ ... لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... ﴾ 3 .
ليقوم الناس كلّهم بالعدل في كلّ مجالات العدل ، ليقوم الفرد منهم والأمة ، و الرئيس والمرؤوس ، و السائس و المسوس ، بهذه الوظيفة و يرتفعوا إلى هذه القمّة .
لهذا ألأمر أنزلت الأديان ، وعلى هذا تتابعت ، يقفو بعضها بعضاً ، ويشدّ بعضها أزر بعض ، وعلى هذا ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 4 .
فالأديان ـ كافة ـ تهدف إلى هذه الغاية ، و هي تمدّ أبصارها إلى مؤمّل منتظر يحقّق لها هذا الهدف ، لأنها توقن أنها من وضع الله ( عز و جل ) و تصميم حكمته ، وغاية الله لابدّ وأن تتحقق في يوم من الأيام .
الإنسانية فطرت على التكامل الهدف
وإن الإنسانية قد فُطرت على التسامي والتكامل في صفاتها وسماتها ، وقد أعدّت لذلك جميع قواها ، وأهلّت له جميع طاقاتها ، فهي تهدف إلى الكمال الأعلى في كل ناحية من نواحيها ، وهي تسير قُدُماً إلى هذا الهدف ما أمكنها السير ، و ترتفع ما أمكنها الارتفاع .
ولكن العوائق التي نثرتها الأهواء ، والمزالق التي بثّتها الشهوات والشبهات طول الطريق ، هي على تصدّها عن الغاية ، فهي في كفاح دائم ، وصراع عنيف شديد ، بين ما تقتضيه الفطرة وما تصنعه البئة ، و هي تطمح ببصرها إلى مًصلح ينقذها من هذه الاسواء و الأدواء .
وإن الحياة تحكمها أنظمة رتيبة تسموها ـ إذا هي اتُّبعت ـ إلى خير ما يمكن ، و توجّه كلّ شيء فيها إلى أفضل ما يستطاع ، بل وإلى خير ما ينبغي أن يكون .
ولكن الحواجز التي أقامها الإنسان المنحرف في وجه هذه الظُنن ، و السدود التي وضعها في سبيلها ، هي التي أعاقت السير ، و أبعدت الغاية ، و فرقت المسيرة ، و ربما قادتها إلى دّرْك سحيق .
فالحياة تنظر إلى أنظمتها الرتيبة ، والى غايتها الرفيعة ، وإلى انحراف هذا المخلوق الذي أشاع فيها الفوضى وكدّر الصفاء ، وهي تطمح إلى المصلح الذي يزيل الحواجز وينسق السّدود ، ويقود المسيرة ، و يحقق بحكمة الإلهية غايتها العليا من خلق الحياة وجعل الأنظمة .
إن رسالات السماء لتؤمل وتنتظر ، وإن الإنسانية لتؤمل و تنظر ، وإن الحياة لتؤمل وننتظر ، واذا لم يكن هذا المؤمّل الذي تنتظره الأديان ، وتنتظره الانسانية وتنتظره الحياة من خلفاء محمد ( صلى الله عليه و آله ) رسول الإنسانية و نبي الحياة ، فمن يمكن أن يكون؟ .
وإذا لم يكن هو البقية من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فمن يمكن أن يكون؟ .
و إذا لم يكن هو البقية من أولى القربى الذين فرض الله حبّهم ، وأوجب حقّهم ، فمن يمكن أن يكون؟! .
اتفقت الأديان على البشارة بالمصلح المؤمل ، و لكن الإسلام دين الله الخالد أصرح الأديان قولاً في ذلك ، و أكثرها بياناً و اشدّها تثبيتاً ، لأن المصلح المنتظر اخر خلفائه ، وختام قادته .
و هو أكثرها قولاً وارفعها صوتاً في ذلك ، لأن الأمر يرتبط بالإمامة إحدى عقائده وأحد أسسه .
و هو أكثرها قولاً وأرفعها صوتاً في ذلك ، لأن الأمر يرتبط بالإمامة إحدى عقائده واحد أسسه .
وهو أكثرها قولاً وأرفعها صوتاً في ذلك ، لأن الأمر يرتبط بمستقبل أمنه ومصيرها وثباتها على الحق ورسوخها في الإيمان .
حديث الثقلين و المصلح المنتظر
أيّها الأعزة :
يقول الرسول الكريم ( صلى الله عليه و آله ) في حديثه المتواتر الذي لا يختلف فيه المسلمون: ( أني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ابداً ، و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) .
و هذا الحديث من إراقات النّبوة ، و أنوارها الباهرة الخالدة ، ما بقي الدهر وما بقي الفكر الصحيح ، وهو ينير لنا آفاقاً كثيرة في الإمامة والعصمة والحجة الدائمة الباقية .
إن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) في حديثه هذا يعرّفنا أنه لابدّ لكتاب الله في كل زمان من قربن من العترة لا يفارقه ولا ينفصل عنه ، معصوم كعصمة الكتاب ، محفوظ كحفظه ، مصون كصيانته ، لن تضل الأمة ابداً ما إن تمسّكت به ، وسارت على رشده ، ولن تتمسّك بالكتاب إلاّ اذا استمسكت لأنهما لن يفترقا ابداً في صدر و لا ورد ، و لا مبدأ و لا غاية ، و لا وجهة ولا زمان ، حتى يراد على الرسول الحوض .
و إذن فلا بد للكتاب في هذا الزمان من قرين من العترة ، معصوم كعصمة الكتاب ، مصون كصيانته لأنهما كما يقول الرسول ( صلى الله عليه و آله ) لن يفترقا حتى يراد عليه الحوض .
فإذا كان الخلفاء المعصومون من عترة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) اثنى عشر نقيباً ، و هو الذي أثبته البراهين التي لا تقبل الإرتياب ) .
. . و إذا كان أمد الخليفة الحادي عشر منهم ( صلوات الله عليهم ) قد انتهى في أواسط القرن الثالث للهجرة ، فلابد وأن يكون الخليفة الثاني عشر موجوداً مصوناً ، لا يفارق الكتاب ولا يفارقه الكتاب ، كما يقول جده الرسول الكريم .
وقد شاءت الحكمة أن لا تظهر هذا المصلح الا بعد أن يُكمل الإنسان خبطه ، ويلمس الخطر المحدق به جميع تجاربه ، وبعد أن يوقن ـ حق اليقين ـ أن تجاربه ومحاولاته لا تثمر له إلاّ خساراً و دماراً .
هنالك ينبثق النور ، وتنجلي الظُلمة ، ويبدو الحق ويزهق الباطل .
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ 1 صدق الله العظيم 5 .
___________
1. a. b. القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 5 و 6 ، الصفحة : 385 .
2. القران الكريم : سورة النور ( 24 ) ، الآية : 55 ، الصفحة : 357 .
3. a. b. القران الكريم : سورة الحديد ( 57 ) ، الآية : 25 ، الصفحة : 541 .
4. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 115 ، الصفحة : 142 .
5. كتاب من أشعة القرآن للعلامة الفقيد آية الله الشيخ محمد أمين زين الدين ( رحمه الله ) تحت عنوان : المصلح المنتظر .