كان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من الطالبية فحملهم من المدينة وفيهم الرضا عليه السلام ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاؤوه بهم ، وكان المتولي لأشخاصهم المعروف بالجلودي ، فقدم بهم على المأمون فأنزلهم دارا وأنزل الرضا عليه السلام دارا وأكرمه وعظم أمره ، ثم أنفذ إليه أني أريد ان أخلع نفسي من الخلافة وأقلدك إياها ، فأنكر الرضا عليه السلام هذا الامر وقال له : ( أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد ) فرد عليه رسالة : فإذا أبيت ما عرضته عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي ، فأبى عليه الرضا عليه السلام إباء شديدا .
فاستدعاه إليه وخلا به ومعه ذو الرئاستين الفضل بن سهل وردد عليه هذا الكلام ، فقال عليه السلام : ( اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين ) .
فقال له المأمون كالمهدد : إن عمر بن الخطاب جعل الامر شورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين وشرط فيمن خالف ذلك أن يضرب عنقه ، ولا بد من قبولك ما أريده منك .
فقال الرضا عليه السلام : ( فإني أجيبك إلى ما تريده من ولاية العهد ، على أني لا آمر ولا أنهي ، ولا أفتي ولا أقضي ، ولا اولي ولا أعزل ، ولا أغير شيئا مما هو قائم ) فأجابه المأمون إلى ذلك كله ( 1 ) .
وذكر رواة السير : أن المأمون لما أراد العقد للرضا عليه السلام أحضر الفضل بن سهل والحسن بن سهل فأعلمهما بما قد عزم عليه من ذلك وقال :
إني عاهدت الله تعالى أنني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض .
فلما رأيا عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته ، فأرسلهما إلى الرضا ، فعرضا ذلك عليه فامتنع منه ، فلم يزالا به حتى أجاب ورجعا إلى المأمون فعرفاه إجابته ، فسر به وجلس للخاصة في يوم خميس ، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى عليه السلام ، وانه قد ولاه عهده ، وقد سماه الرضا ، وأمرهم بلبس الخضرة والعود لبيعته في الخميس الاخر ، على أن يأخذوا رزق سنة .
فلما كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القواد والحجاب والقضاة وغيرهم في الخضرة ، وجلس المأمون ووضع للرضا عليه السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه ، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف ، ثم أمر ابنه العباس بن المأمون فبايع له أول الناس ، فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم ، فقال المأمون : ابسط يدك للبيعة ، فقال الرضا عليه السلام : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يبايع ) .
فبايعه الناس ويده فوق أيديهم ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء والشعراء ، فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام وما كان من المأمون في أمره ، ثم دعا أبو عباد بالعباس بن المأمون فوثب فدنا من أبيه فقبل يده وأمره بالجلوس ، ثم نودي محمد بن جعفر بن محمد وقال له الفضل بن سهل :
قم ، فقام فمشى حتى قرب من المأمون فوقف فلم يقبل يده ، فقيل له : إمض فخذ جائزتك ، وناداه المأمون : إرجع يا أبا جعفر إلى مجلسك ، فرجع ثم جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيقبضان جوائزهما حتى نفدت الأموال .
ثم قال المأمون للرضا عليه السلام : اخطب الناس ، فحمد الله سبحانه وأثنى عليه وقال : ( إن لنا عليكم حقا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكم علينا حقا به ، فإذا أنتم أديتم إلينا ذلك الحق وجب علينا الحق لكم ) .
ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس ، وأمر المأمون فضربت الدراهم وطبع عليها اسم الرضا عليه السلام ، وخطب للرضا في كل بلد بولاية العهد ( 2 ) .
وخطب عبد الجبار بن سعيد في تلك السنة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فقال في الدعاء له : ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام .
ستة آباء هم ما هم * أفضل من يشرب صوب الغمام ( 3 )
وذكر المدائني عن رجاله قال : لما جلس الرضا عليه السلام لولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء ، وخفقت الألوية على رأسه ، فذكر بعض من حضر ذلك المجلس ممن كان يختص بالرضا عليه السلام قال :
نظر إلي وكنت مستبشرا بما جرى ، فأومأ إلي أن ادن فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري : ( لا تشغل قلبك بهذا الامر ولا تستبشر له ، فإنه شئ لا يتم ) ( 4 ) .
وذكر الصولي بإسناده ، عن الفضل بن سهل النوبختي – أو عن أخ له – قال : لما عزم المأمون على العقد للرضا عليه السلام بالعهد قلت : والله لاعتبرن بما في نفس المأمون أيحب تمام هذا الامر أو هو تصنع منه ؟ فكتبت إليه على يد خادم له كان يكاتبني بأسراره على يده : قد عزم ذو الرئاستين على عقد العهد والطالع السرطان وفيه المشتري ، والسرطان وإن كان شرف المشتري فهو برج منقلب لا يتم أمر يعقد فيه ، ومع هذا فإن المريخ في الميزان في بيت العاقبة ، ؟ هذا يدل على نكبة المعقود له ، وقد عرفت أمير المؤمنين ذلك لئلا يعتب علي إذا وقف على هذا من غيري .
فكتب إلي إذا قرأت جوابي إليك فاردده إلي مع الخادم ، ونفسك أن يقف أحد على ما عرفتنيه ، أو أن يرجع ذو الرئاستين عن عزمه ، فإنه إن فعل ذلك ألحقت الذنب بك وعلمت أنك سببه .
قال : فضاقت علي الدنيا ، وبلغني أن الفضل بن سهل قد تنبه على الامر ورجع عن عزمه ، وكان حسن العلم بالنجوم ، فخفت والله على نفسي وركبت إليه فقلت له : أتعلم في السماء نجما أسعد من المشتري ؟ قال : لا ، قلت : أتعلم في الكواكب ( نجما ) يكون في حال أسعد منها في شرفها ؟
قال : لا ، قلت . فأمض العزم على ذلك إن كنت تعقده وسعد الفلك في أسعد حالاته ، فأمضى الامر ( 5 ) على ذلك ، فما علمت أني كل ت أهل الدنيا حتى وقع العقد فزعا من المأموت ( 6 ) .
وروى علي بن إبراهيم ، عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا قالا : لما حضر العيد – وكان قد عقد للرضا عليه السلام الامر بولاية العهد – بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم ، فبعث إليه الرضا عليه السلام : ( قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الامر ، فاعفني عن الصلاة بالناس ) .
فقال له المأمون : إني أريد أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك .
ولم يزل الرسول يتردد بينهم في ذلك ، فلما ألح عليه المأمون أرسل عليه السلام إليه : ( إن أعفيتني فهو أحب إلي ، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ) .
فقال المأمون : اخرج كيف شئت .
وأمر القواد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات والسطوح ، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه ، وصار جميع القواد والجند إلى بابه ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس ، فاغتسل أبو الحسن عليه السلام ، ولبس ثيابه ، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ، ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه ، ومس شيئا من الطيب ، وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه : ( إفعلوا مثل ذلك ) .
فخرجوا بين يديه وهو حاف ، قد شمر سراويله إلى نصف الساق ، وعليه ثياب مشمرة ، فمشى قليلا ورفع رأسه إلى السماء وكبر وكبر مواليه معه ، ومشى حتى وقف على الباب ، فلما رآه القواد والجند في تلك الصورة سقطوا كلهم إلى الأرض ، وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة چاچيلته ( 7 ) ونزعها وتحفى ، وكبر الرضا عليه السلام على الباب وكبر الناس معه ، فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه .
وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن عليه السلام وسمعوا تكبيره ، وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين :
يا أمير المؤمنين ، إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا ، فانفذ إليه أن يرجع فبعث إليه المأمون :
قد كلفناك شططا وأتعبناك ، ولست أحب أن تلحقك مشقة ، فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه ، فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفه فلبسه وركب ورجع ، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ولم تنتظم صلاتهم ( 8 ) .
وروى علي بن إبراهيم ، عن ياسر قال : لما عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى بغداد خرج معه ذو الرئاستين وخرجنا مع أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فورد على الفضل كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل : إني نظرت في تحويل السنة فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا يوم الأربعاء حر الحديد وحر النار ، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمام في هذا اليوم وتحتجم فيه وتصب على بدنك الدم ليزول عنك نحسه .
فكتب ذو الرئاستين بذلك إلى المأمون وسأله أن يسأل أبا الحسن في ذلك ، فكتب إلى الرضا عليه السلام يسأله فيه ، فأجابه : ( لست بداخل الحمام غدا ) فأعاد عليه الرقعة مرتين ، فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام :
( إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الليلة فقال لي : يا علي لا تدخل الحمام غدا ، ولا أرى لك يا أمير المؤمنين ولا للفضل أن تدخلا الحمام ) .
فكتب إليه المأمون : صدقت يا أبا الحسن وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولست بداخل الحمام غدا ، والفضل أعلم .
قال ياسر : فلما أمسينا قال لنا الرضا عليه السلام : ( قولوا : نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة ) فلم نزل نقول ذلك ، فلما صلى الرضا عليه السلام الصبح قال لي : ( إصعد السطح فاستمع هل تجد شيئا ) فلما صعدت سمعت الصيحة فكثرت وزادت فلم نشعر بشئ ، فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي الحسن عليه السلام وهو يقول : يا سيدي يا أبا الحسن ، آجرك الله في الفضل ، فإنه دخل الحمام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه ، وأخذ ممن دخل عليه ثلاثة نفر أحدهم ابن خالة الفضل ابن ذي القلمين .
قال : واجتمع الجند والقواد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا : هو اغتاله وشغبوا عليه وطلبوا بدمه ، وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب ، فقال المأمون لأبي الحسن عليه السلام : يا سيدي إن رأيت أن تخرج إليهم وترفق بهم حتى يتفرقوا ؟ قال : ( نعم ) .
فركب أبو الحسن وقال لي : ( يا ياسر ، إركب ) فركبت فلما خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا فأومأ إليهم بيده تفرقوا .
قال : ياسر فأقبل الناس وقد يقع بعضهم على بعض ، وما أشار إلى أحد إلا ركض ومضى ( 9 ) .
وقال أبو علي السلامي : إنما قتل الفضل بن سهل غالب خال المأمون في حمام سرخس مغافصة ( 10 ) في شعبان سنة ثلاث ومائتين ( 11 ) .
علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن محمد الحسيني قال : بعث المأمون إلى أبي الحسن عليه السلام جارية ، فلما أدخلت عليه اشمأزت من الشيب ، فردها إلى المأمون وكتب إليه :
( نعى نفسي إلى نفسي المشيب * وعند الشيب يتعظ اللبيب
فقد ولى الشباب إلى مداه * فلست أرى مواضعه تؤوب
سأبكيه وأندبه طويلا * وأدعوه إلي عسى يجيب
وهيهات الذي قد فات منه * تمنيني به النفس الكذوب
وراع الغانيات بياض رأسي * ومن مد البقاء له يشيب
أرى البيض الحسان يحدن عني * وفي هجرانهن لنا نصيب
فإن يكن الشباب مضى حبيبا * فإن الشيب أيضا لي حبيب
سأصحبه بتقوى الله حتى * يفرق بيننا الاجل القريب ) ( 12 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ارشاد المفيد 2 : 259 ، روضة الواعظين : 224 ، كشف الغمة 2 : 275 ، مقاتل الطالبيين : 562 .
( 2 ) ارشاد المفيد 2 : 260 ، مقاتل الطالبيين : 562 ، الفصول المهمة : 255 .
( 3 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 145 / 14 وفيه ( سبعة آباءهم ) بدل ( ستة آباءهم ) ، ارشاد المفيد 2 : 262 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 364 ، مقاتل الطالبيين : 565 ، الفصول المهمة : 256 .
( 4 ) ارشاد المفيد 2 : 263 ، الفصول المهمة ، 256 .
( 5 ) في نسختي ( ق ) و ( ط ) : العزم .
( 6 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 147 / 19 .
( 7 ) الچاچله : كلمة فارسية تطلق على الحداء المصنوع من الجلد ( أنظر : لغت نامة 16 : 13 ) .
( 8 ) الكافي 1 : 408 ، ارشاد المفيد 2 : 264 ، وباختلاف يسير في : عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 150 / ذيل حديث 21 ، روضة الواعظين : 227 ، وباختصار في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 371 ، كشف الغمة 2 : 278 .
( 9 ) الكافي 1 / 409 / 8 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 163 / ضمن حديث 24 ، ارشاد المفيد 2 : 266 ، روضة الواعظين : 228 ، كشف الغمة 2 : 279 .
( 10 ) غافصت الرجل : أي أخذته على غرة ( الصحاح – غفص – 3 : 1047 ).
( 11 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 166 ، دلائل الإمامة : 181 .
( 12 ) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 / 8 .