انتشر اسم الإمام (عليه السلام) في الأقطار، وذاع صيته في الأمصار، وتحدّث الناس عن علمه ومآثره وفضله، فثقل ذلك على هارون، وطفح قلبه غيظاً منه فذهب الطاغية إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله)، فسلم على النبي مثل الزوار المؤمنين، وخاطبه قائلاً:
(بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني اعتذر إليك من أمر عزمت عليه، إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (عليه السلام) فأحبسه لأني قد خشيت أن يُلقي بين أمتك حرباً يسفك فيها دماءهم)(1).
إنه يريد أن يخلق مبرراً أمام المجتمع لعمله الفظيع ويخفّف ما سيواجه به من الاستياء، لا سيّما من العلماء الذين سيستنكرون عمله الإجرامي.
وبعد الاعتذار في اليوم الثاني أصدر الطاغية أوامره بإلقاء القبض على الإمام، فجاءت الشرطة وألقت القبض عليه وهو في طاعة الله يصلي لربه عند رأس جده النبي (صلّى الله عليه وآله). فقطع المجرمون الآثمون عليه صلاته ولم يمهلوه من إتمامها. لكنهم نسوا أن الله يمهل ولا يهمل. ثم حمل الإمام من ذلك المكان الشريف وقيّد بالحديد وقد توجّه إلى جدّه الرسول الأكرم:
(إليك أشكو يا رسول الله)(2). فأين احترام قداسة القبر الشريف، قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأين احترام أبنائه، الأئمة المعصومين التي هي أولى بالرعاية والمحبة والمودة من كل شيء؟ ثم أين احترام الصلاة التي هي أقدس عبادة في الإسلام؟
لم يحترم هارون قداسة القبر الشريف فهتك حرمته وحرمة أبنائه، وقطع صلاة الإمام (عليه السلام) وأمر بتقييده، وحمل إليه في ذل القيود، ولما مثل الطاهر الكريم أمام الفاجر اللئيم أغلظ له في القول، وكان اعتقاله سنة 179هـ في شهر شوال لعشر بقين منه(3).
في البصرة
ساروا بالإمام (عليه السلام) معتقلاً إلى البصرة ووكل هارون حسان السروي بحراسته والمحافظة عله(4). وقبل أن يصل إلى البصرة تشرّف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الأزدي فدفع له الإمام كتباً وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا (عليه السلام) وعرفه بأنه الإمام من بعده(5) سارت القافلة بالإمام المقيد حتى وصلت إلى البصرة قبل التروية بيوم(6) فأخذ حسان وكيل هارون الإمام ودفعه إلى عيسى بن أبي جعفر فسجنه في بيت من بيوت السجن، وأقفل عليه الباب، فكان لا يفتح باب السجن إلا في حالتين: خروج الإمام (عليه السلام) إلى الطهور، أو إدخال الطعام له(7).
أحواله في السجن
تفرغ الإمام (عليه السلام) للعبادة، انقطع الإمام (عليه السلام) في السجن إلى العبادة المطلقة، يصوم في النهار ويقوم بالليل، يقضي كل أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء.
لقد أدهش العقول وحير الألباب بعبادته المتواصلة، وانقطاعه إلى الله عزّ وجلّ: وقد اعتبر وجوده في السجن نعمة من أعظم النعم التي منحها الله له، وذلك لتفرغه للعبادة، فكان يشكر ربه تعالى على ذلك ويدعو بهذا الدعاء الروحاني قائلاً:
(اللهم، إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد)(8).
يبدو لنا من هذا الدعاء رضى الإمام (عليه السلام) بقضاء الله تعالى وصبره الجميل وكظمه الغيظ بانتظار الفرج إن شاء الله، كما يدل هذا الدعاء من جهة أخرى على مدى حب الإمام الخالص وشوقه الزائد لعبادة الله وطاعته.
اتصال العلماء به
شاع اعتقال الإمام (عليه السلام) في البصرة وجميع أنحاء البلاد، فأقبل عليه رواة الحديث بطريق خفي لينهلوا من علمه الغزير، وقد رووا عنه بعض الأحكام والعلوم ومن هؤلاء ياسين الزياتي(9).
كما اتصل به كبار العلماء من البصرة ومن نواح أخرى فرووا عنه الشيء الكثير ممّا يتعلق بالتشريع الإسلامي. ولا يخفى ما قلناه سابقاً إن الإمام (عليه السلام) دائرة معارف يغترف منها كل من أراد المعرفة.
الإيعاز باغتياله
لما انتشر خبر اعتقال الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة، وتناقل الناس حديثه مقروناً بالحسرة واللوعة والحزن، خاف هارون من حدوث الفتن، وقيام الاضطرابات في المدينة فأوعز إلى عيسى باغتيال الإمام (عليه السلام) ليستريح منه ويطمئن باله. ولكن هل يقدم عيسى على ارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء؟!
طلب عيسى بالإعفاء
لما وصلت أوامر هارون لعيسى لتنفيذ الاغتيال، ثقل عليه الأمر وفكر ملياً بالمصير، جمع أصحابه وخواصه وعرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب مثل هذه الجريمة التي تغضب الله ورسوله، فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك.
جاء في الرسالة:
(يا أمير المؤمنين، كتبت إلي في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قط، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا، ولا دعا قط على أمير المؤمنين، ولا على أحد من الناس، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله، فإني منه في غاية الحرج)(10).
تدل هذه الرسالة بوضوح على إكبار عيسى وتقديره للإمام (عليه السلام)، فقد راقبه ووضع العيون عليه فلم يره إلا مشغولاً بذكر الله وطاعته، ولم يتعرض بذكر أحد بسوء حتى الظالمين له، لذا خاف عيسى وراقب الله.
بقي في سجن عيسى سنة كاملة.
حمل الإمام إلى بغداد
عندما شعر هارون بعدم تنفيذ طلبه في اغتيال الإمام من قبل عيسى عامله على البصرة، خاف منه أن يطلق سراح الإمام (عليه السلام)، فأمر بحمل الإمام إلى بغداد مقيّداً بالحديد، تحف به الحرس والشرطة. ساروا به مسرعين حتى انتهوا إلى بغداد، وفوراً أعلموا الرشيد بصنيعهم فأمر بحبسه عند أحد وزرائه يدعى الفضل بن الربيع.
أخذه الفضل وسجنه في بيته، هكذا كانت إرادة هارون، فلم يعتقله في السجون العامة لمكانة الإمام العالية في المجتمع، وسمو شخصيته لأن الشخصيات الهامة في عهد الطاغية هارون كانت تعتقل في بيوت وزرائه وليس في السجون العامة، فقد سجن عبد الملك بن صالح عندما غضب عليه عند الفضل بن الربيع(11)، وكذلك سجن إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد(12).
انشغال الإمام بالعبادة
تفرغ الإمام (عليه السلام) في السجن لطاعة ربّه، فقضى معظم أوقاته في الصلاة والتضرع والابتهال إلى الله، فرّاج الكروب والهموم. فقد بهر الفضل بعبادته، فكان يتحدث عنها أمام زائريه بتعجب وإكبار للإمام.
حدّث عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره، فقال لي: اُدْنُ مني، فدنوت حتى حاذيته فقال لي: أشرف على الدار، فأشرف عبد الله على الدار فقال له الفضل ـ ما ترى في البيت؟ ـ أرى ثوباً مطروحاً هناك.
ـ انظر حسناً. فتأمل عبد الله ملياً، فقال له: رجل ساجد.
ـ هل تعرفه؟ ـ لا. فقال له: هذا مولاك.
ـ من مولاي؟!! ـ تتجاهل علي؟!!
ـ ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى.
ـ قال الفضل: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر.
وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام وتقواه وطاعته لله فقال: (إني اتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، يصلي الفجر، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، ثم يبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العشاء، فإذا صلى العشاء أفطر على شوى يؤتى به، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري حتى يقول الغلام إن الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل إليّ..).
لما رأى عبد الله إكبار الفضل للإمام (عليه السلام) حذره من أن يستجيب لرغبة الرشيد باغتياله. فقال له:
(اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة).
وكان الفضل مؤمناً بذلك فقال له: (قد أرسلوا إليّ غير مرّة يأمروني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني)(13).
ولا غرو فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كان مثلاً صالحاً يحتذى في التقوى والورع والإيمان بالله، فحب الله مطبوع في قلبه ومشاعره.
إشراف هارون على الإمام في سجنه
لما امتنع حراسه ووزراؤه من القدوم على اغتياله، لم يثق بالعيون التي وضعها عليه في السجن، فأخذ يراقبه بنفسه، ويتطلع على شؤونه خوفاً من أن يتصل به أحد من الناس، فأطل من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغير عن موضعه فقال للفضل:
ـ ما ذاك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!
ـ يا أمير المؤمنين، ما ذاك ثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.
فبهر هارون بصلابة الإمام (عليه السلام) وقوة إرادته وقال للفضل:
ـ أما هذا فإنه من رهبان بني هاشم!!
فالتفت إليه الفضل بعدما سمع منه اعترافه بزهد الإمام قائلاً له:
ـ يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في السجن؟!!
فأجابه هارون بكل لؤم وغرور قائلاً:
(هيهات: لابدّ من ذلك)(14).
هارون الطاغية كان يعلم عزوف الإمام عن الدنيا، ويعلم إقبال الإمام على الله، ويعلم منزلة الإمام السامية وتقدير الناس له، لكن حبه للسلطان والدنيا أعمى بصره وبصيرته، وملأ قلبه غيظاً وحسداً له. وهذا ما دفعه إلى ذلك. الحسد القاتل الذي يميت القلب ويضعف الروح ويخدر الإيمان، ويعمي البصيرة عن رؤية الحق.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).
لم يقرأ هارون هذه السورة ولم يعلم مضامينها؟!
مصائب ومتاعب
ضاق صدر الإمام من ظلمة السجن وطول المدة فيه بعد أن حجب عن عياله وأطفاله وشيعته، ينتقل من سجن إلى سجن مثقلاً بالحديد، والشرطة تراقبه خوفاً من اتصال أحد من شيعته به، فأحسّ بآلام مرهقة أحاطت به، وخطوب مريرة ثقلت عليه، وهارون ما زال على موقفه يراقبه بحذر، ويخطط لاغتياله. فما العمل؟
لقد لجأ (عليه السلام) إلى الله تبارك وتعالى في أن يخلّصه من هذا الطاغية وهذه المحنة المريرة..