ثمة مغزى آخر من مغازي الصوم، هو قدرة الصائم على أن يستحضر الله في نفسه في كل دقيقة، فالعبرة ليست بالضار والنافع، ولا ما يجلب الكسب أو الخسران، بل بما يحب الله وما لا يحب، يبيح لك الطيبات عامًا كاملاً، ويحرمها عليك شهرًا واحدًا.
فلم تَصِر الطيبات خبائث، بل الخبث يتخلق في بُعدك أنت عن خالق الطيبات، وفي الصيام تذكرة تربط أول الدنيا بآخرها، فالله قد أحل لآدم وحواء جنة بأسرها، وحرم عليهما شجرة واحدة، كما أحل لك اليوم عامًا بأسره، وحرّم عليك شهرًا واحدًا.
فإن أعرضت عن هذا الشهر طردت من جنة السكينة، كما طرد أبواك من جنة السماء، وفي جنة السكينة استطاع المسلمون الأوائل أن يملكوا ثلثي العالم القديم في تسعين عامًا فقط.
فهل صارت الفوضى إلى دنياهم إلا حين بدأت من أنفسهم؟ لأن التفريط بطبيعته لا يتجزأ، وقد أراد لك الله ألا يجرك بعض التفريط إلى بعض، فأقام جسرًا شفافًا بين نهار الصوم وليله، فأنت تظل صائمًا نهارك، فإذا جنّ عليك الليل فقد أبيح لك كل شيء.
ولكنها إباحة مقيدة، إباحة تحفظ عليك الحياة دون أن تسمح لك بأن تذوب فيها؛ لأن ذوبانك فيها سوف يبغض إليك الصيام الغد، فأنت بالنهار صائم وبالليل محتاط، فصومك نهارًا يقوي لديك الاحتياط ليلاً، كما أن احتياطك ليلاً، يجعلك أصلح لصوم النهار.
والصوم يحمل في طياته تضحية، ومبدأ التضحية في الإسلام قائم على أساس رؤيته للوجود، ومؤدى هذه الرؤية ببساطة أن هناك جسورًا ممتدة بين عالمي الغيب والشهادة، ويجب أن يبقى المضحي ليجني بنفسه ثمرة تضحياته، ويكون آية لمن خلفه، غير أن التضحية يجب أن تكون مرآة ينعكس عليها صفاء العلاقة بين العبد وربه، فليس المهم ضخامة أو ضآلة التضحية، بل المهم حقًّا هو المبدأ الذي عليه تتم التضحية.
لهذا نهى الإسلام تمامًا عن أي تضحية شعائرية تؤدي بالنفس البشرية، أما الأديان التي جعلت العالمين -الغيب والشهادة- عالمًا واحدًا، فإنها لم ترَ بأسًا بأن يكون المضحي بنفسه جزءًا من تضحيته، على أساس أنه انتقل من أحد قسمي العالم إلى القسم الآخر الذي يساويه تمامًا.
وحسبنا أن نذكر عقيدة "السوتي" عند الهنود، تلك العقيدة التي تلزم توابعها من النساء بأن يحرقن أنفسهن، إذا ما هلك عنهن أزواجهن، وعقيدة الانتحار على طريقة "الهاراكيري" عند طبقة الساموراي اليابانيين، تلك العقيدة التي تلزم أتباعها من رجال هذه الطبقة بأن يبقروا بطونهم متى ما لحقت بهم مهانة.