أسرار الصيام
  • عنوان المقال: أسرار الصيام
  • الکاتب: الشیخ اسامة المزيدي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 5:12:7 2-9-1403

إن لكل عبادة غاياتٍ وآثاراً على النفس بشكل خاص وعلى الفرد والمجتمع بشكل عام، وقد تكون هذه الغايات مصرحاً بها على سبيل الثواب والجزاء كما جاء في بعض الآيات والروايات المصرحة بالأعمال وثوابها، وقد تكون مخفية لا تدركها العقول ولا تحيط بكنهها الأفهام، وأما الآثار التي تترتب على العبادات فهي كثيرة لا تحصى ولا تُحد، فبعضها ينعكس على الروح، وبعضها يظهر في الجسد وهكذا، فلو أَوْلينا الزكاة مثلاً لمحةً خاطفة من الكلام لوجدنا آثارها في النفس والمجتمع، فالنفس تتربى على الإيثار والبذل وامتثال الأمر الموارد من المولى وترك التعلق بالدنيا وحطامها الزائل، وأما الآثار التي تعود إلى المجتمع فببذل الزكاة وإيصالها إلى مستحقها يزداد رقياً وتماسكاً وتكافلاً ويتغلَّب على ما يسمى بالمشاكل الاقتصادية.
ومن ضمن العبادات التي بنُي عليها الإسلام ـ هذا الدين العظيم وهذه الرسالة الخالدة ـ عبادة الصوم فقد جاء في الصحيح من الخبر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (بني الإسلام على خمسة أشياْء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية).
فالصوم ركيزة وركن من أركان الإسلام الأساسية التي يقوم بناؤه عليها، والذي يُلفت النظر بحيث يكون جديراً بالإشارة إليه اختصاص هذه الأمة ــ أي الأمة الإسلامية ــ بهذه العبادة دون سائر الأمم كما دلَّت عليه رواية حفص بن غياث حيث قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّ شهر رمضان لم يقرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا). فقلت له: فقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) [180/2].
قال (عليه السلام): (إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم فَفَضَّل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أمته).
فهذه العبادة تُعَدُّ نعمةً ورحمةً تفضل بها الله (تبارك وتعالى) على هذه الأمة، فعلى المسلم أن يعيَ ذلك جيداً ويسعى إلى إدراك ونيل ثواب هذه العبادة والتنعم بفضلها وآثارها، ولكي يصل إلى هذا الهدف لابدّ له من الرجوع إلى من يرشده إلى حدود هذه العبادة وأبعادها بحيث يفصّل له ما أُجمل من أحكامها ويبين له أقسامها وشرائطها ويكشف له ما خفي من أسرارها ولن يجد مرشداً له أهلية التصدي لذلك إلا مستودع أسرار النبي (صلى الله عليه وآله) وينابيع علومه وخزانات حِكَمِهِ وسفينة نجاة أمته، وهم الأئمة المعصومون من أهل بيته (عليهم السلام) فإن الرجوع إلى ما ورد من الروايات عنهم (عليهم السلام) في هذا المضمار كفيل بإيضاح ذلك وإزاحة ستار الجهل والغموض عنه.
ولا يسعنا في هذه السطور الضيقة إلا أن نسلط الضوء على شيء يسير من ذلك الفيض فنقتصر على بعض ما فيه المساس بجانبي الروح والجسد من آثار الصوم وغاياته وعلل تشريعه.
فمما ورد في فضل الصوم والصائم ما روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله متقبل، ودعاؤه مستجاب).
وكفى بذلك فضلاً إذ لمّا كان الصائم مجتنباً للمفطرات وممسكاً عن بعض اللذات والشهوات صار جديراً بأن يكون موضعاً لهذه الألطاف، لأنّه بإمساكه وابتعاده عن تلك المفطرات يكون في ساحة طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نواهيه.
ومما ورد في علة تشريع هذه العبادة ما روي عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن علة الصيام؟ فقال (عليه السلام): (إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع ليرحم الفقير، لأنّ الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع).
فانظر إلى ما تضمنته هذه الرواية من آثار وغايات، فمن مساواة بين أفراد المجتمع غنيهم وفقيرهم، ومن اشتراكهم في أداء العبادة على حدٍ سواء، ومن إحساس كلّ منهم بما يحسّه غيره من جوع وصبر وتحمل للحرمان مما يحرك الموسر منهم لسد حاجة المعسر وفك ضيقه...
ومن جملة ما جاء في هذا الصدد أيضاً ما روي عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فيما كتب من جواب مسائل بعض الشيعة حيث جاء: (علة الصوم لعرفان مس الجوع والعطش، ليكون ذليلاً مستكيناً مأجوراً واعظاً له في العاجل دليلاً على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة).
وهذه الرواية كشفت عن جوانب أخرى من آثار الصوم لم تتعرض لها الرواية السابقة، فمن تذكير بالآخرة وشدائدها وأهوالها تارةً ومن عظيم التأثير في النفس لتنبعث نحو ما ينفعها من الطاعات وتنصرفعمّا يضرها من المعاصي والذنوب تارة أخرى، كما أوضحت الرواية أهمية تربية النفس وترويضها للسيطرة على شهواتها الحيوانية وتهذيبها لتصل بها إلى أسمى درجات الكمال الموسوم لها ولكي يكون في دائرة المواساة والشعور بما يشعره الفقير المعدم...
ومما نُقل أيضاً في آثار هذه العبادة على الجسد ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لكل مني زكاة وزكاة الأجسام الصيام). فكما أن الزكاة المال تطهره وتنقيه من شوائب الشبهات والمحرمات فكذلك الصوم مطهر للجسد ومزيل للرواسب التي تُخلفها المعاصي. وقد جاء في فضل الصوم ما رواه الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث قال: (إن الله تبارك وتعالى يقول الصوم لي وأنا أجزي عليه).
وبعد استعراض هذه النصوص نجد أن سؤالاً مهماً يطرح نفسه بأن كل الأعمال الصالحة والطاعات والعبادات هي لله تعالى، فما وجه تخصيص عبادة الصوم بأنها له تبارك وتعالى؟
وقد أجيب عنه بعدة وجوه:
الأول: أنه اختص بترك الشهوات والملذات في البطن والفرج وذلك أمر عظيم يوجب التشريف.
الثاني: أن الصوم يوجب صفاء النفس والعقل والفكر بواسطة ضعف القوى الشهوانية بسبب الجوع فلا تدخل الحكمة جوفاً مليء طعاماً، وصفاء العقل والفكر يوجبان حصول المعارف الربانية التي هي أشرف أحوال النفس الإنسانية.
الثالث: أن الصوم أمر خفي وعمل باطن لا يمكن لأحد من الناس الإطلاع عليه بخلاف بقية العبادات من الصلاة والجهاد والحج وغيرها ومن هنا كان أقرب إلى الإخلاص وأبعد من شوائب الرياء ومصير العمل إلى غيره تبارك وتعالى.
وقال بعض الفقهاء المحققين أن كل وجه من هذه الوجوه الثلاثة ممكن أن يشترك فيه الصوم مع غيره من العبادات لكن اجتماعها لا يكون إلا في الصوم، وكفى به فارقاً ومميزاً له عن غيره وبعد هذه اللمحة الموجزة عن فضل وأسرار هذه العبادة يجدر بنا ونحن نقترب من حلول شهر رمضان المبارك ــ أعاده الله على المسلمين بالخير والبركة ــ وهو الظرف الزمني المضروب لإيقاع عبادة الصوم، أن نتهيَّأَ ونستعد لاستقباله بنوايا صافية مخلصة وقلوب صادقة بارَّة ونفوس زكية ثابتة لنستحق بذلك أن نكون ممن تشمله الألطاف الإلهية ليغدو ضيفاً على ملك الملوك ورب الأرباب في الشهر الذي دُعي فيه العبد ليكون ضيفاً عليه تبارك وتعالى، لائقاً بقبول طاعاته وأعماله مبتعداً عن موجبات سخطه وغضبه مشتغلاً بنفسه وإصلاحها عن شهوات النفس وتبعاتها وبالنهاية مستفيداً من هذه العبادة ــ عبادة الصوم ــ ومحصلاً لآثارها ومدركاً لغاياتها دنيوية كانت أو أخروية.
والحمد لله رب العالمين