من الآفاق العلميّة للإمام الجواد عليه السّلام
ورث أئمّة أهل البيت عليهم السّلام عِلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وحكمته، ولا عجب، فقد قال صلّى الله عليه وآله: أنا مدينة العِلم، وعليٌّ بابُها(1)؛ وقال: أنا مدينة الحكمة، وعليٌّ بابها(2). وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول على المنبر: سَلُوني قبل أن تفقدوني(3)! وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: عليّ بن أبي طالب أعلم أمّتي وأقضاهم فيما اختلفوا فيه من بعدي(4).
وقد عُرف أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أنّهم مُستغنون عن الكلّ، وأنّهم ما سُئلوا عن شيء فعجزوا عن الإجابة عنه جواباً شافياً صائباً مُنتزَعاً من كتاب الله عزّوجلّ وسنّة نبيّه الكريم.
ومن هؤلاء الأئمّة الأطهار الإمام محمّد بن عليّ التقيّ الجواد عليه السّلام، الذي خَلَف أباه الرضا عليه السّلام في منصب الإمامة، فظهر منه من الفضل والعلم ما أذعن له حتّى أعداؤه وحُسّاده.
ذلك الإمام الذي يكفينا في معرفة جلالة قدره وبركة وجوده قولُ أبيه الرضا عليه السّلام حين جيء إليه بأبي جعفر الجواد عليه السّلام وهو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركةً على شيعتنا منه(5).
رَشَحات من علوم الإمام الجواد عليه السّلام
• روى عليّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه، قال: استأذن على أبي جعفر عليه السّلام قومٌ من أهل النواحي من الشيعة، فأذِن لهم، فدخلوا فسألوه في مجلسٍ واحد عن ثلاثين ألف مسألة(6)، فأجاب عليه السّلام وله عشر سنين(7).
• وسُئل الإمام الجواد عليه السّلام: أيجوز أن يُقال لله: إنّه شيء ؟
فقال: نعم. تُخرجه من الحدَّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه(8).
الإمام الجواد عليه السّلام يفنّد أخباراً روّج لها ابن أكثم
• روي أن المأمون بعدما زوّج ابنته أمَّ الفضل أبا جعفر عليه السّلام، كان في مجلسٍ وعنده أبو جعفر عليه السّلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول ـ يا ابن رسول الله ـ في الخبر الذي روي أنّه « نزل جبرئيل عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال: يا محمّد، إنّ الله عزّوجلّ يُقرئك السّلام ويقول لك: سَلْ أبا بكر هل هو عنّي راضٍ، فإنّي عنه راضٍ » ؟!
فقال أبو جعفر عليه السّلام:... يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجّة الوداع: « قد كَثُرتْ علَيَّ الكذّابة وستكثر بعدي؛ فمن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار؛ فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرِضوه على كتاب الله عزّوجلّ وسُنّتي؛ فما وافق كتابَ الله وسنّتي فخُذوا به، وما خالف كتابَ الله وسنّتي فلا تأخذوا به ». وليس يوافق هذا الخبرُ كتابَ الله؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعَلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ (9)، فالله عزّوجلّ خَفِي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتّى سأل عن مكنون سرّه ؟! هذا مستحيلٌ في العقول.
ثمّ قال يحيى بن أكثم: وقد رُوي أنّ « مَثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمَثَل جبرئيل وميكائيل في السماء »!
فقال عليه السّلام: وهذا أيضاً يجب أن يُنظَر فيه؛ لأنّ جبرئيل وميكائيل مَلَكان لله مُقرّبان لم يَعصيا اللهَ قطّ، ولم يُفارقا طاعته لحظةً واحدة؛ وهما ( يقصد أبا بكر وعمر ) قد أشركا بالله عزّوجلّ وإن أسلَما بعد الشِّرك، فكان أكثر أيّامهما الشِّرك بالله، فمحال أن يُشبّههما بهما.
قال يحيى: وقد روي أيضاً أنّهما « سيّدا كهول أهل الجنّة »، فما تقول فيه ؟
فقال عليه السّلام: وهذا الخبر مَحال أيضاً، لأنّ أهل الجنّة كلّهم يكونون شبّاناً ولا يكون فيهم كهل؛ وهذا الخبر وضعه بنو أُميّة لمضادّة الخبر الذي قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السّلام بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة.
فقال يحيى بن أكثم: وروي « أنّ عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنّة »، فقال عليه السّلام: وهذا أيضاً محال؛ لأنّ في الجنّة ملائكة الله المقرّبين، وآدم ومحمّداً صلّى الله عليه وآله وجميع الأنبياء والمرسلين؛ لا تُضيء الجنّة بأنوارهم حتّى تُضيء بنور عمر ؟!
... فقال يحيى: قد روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: « لو لم أُبعَث لَبُعِث عمر »!
فقال ( الجواد ) عليه السّلام: كتابُ الله أصدَقُ من هذا الحديث. يقول اللهُ في كتابه وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُوحٍ (10)، فقد أخذ اللهُ ميثاقَ النبيّين، فكيف يُمكن أن يبدّل ميثاقه ؟!
وكلّ الأنبياء عليهم السّلام لم يُشركوا بالله طرفةَ عينٍ؛ فكيف يُبعَث بالنبوّة مَن أشرك وكان أكثر أيّامه مع الشرك بالله ؟! وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: نُبِّئتُ وآدم بين الروح والجسد(11).
مناظرة علميّة بين الإمام الجواد والقاضي ابن أكثم
• رُوي أنّ المأمون لمّا أراد أن يزوّج أبا جعفر الجواد عليه السّلام ابنتَه أمّ الفضل، خَشِيَ بنو العبّاس أن يخرج الأمرُ من أيديهم إلى بني هاشم، فشكّكوا في عِلم أبي جعفر عليه السّلام ومقدرته، وطلبوا من المأمون أن يسمح لهم باختباره، فسمح لهم المأمون بذلك، فاستدعَوا القاضي يحيى بن أكثم وجعلوا له أموالاً طائلة إن هو سأل أبا جعفر عليه السلام سؤالاً يَعجِز عن الإجابة عليه. ثمّ إنّ المأمون جمعهم ذات يوم في مجلسه، فدارت بين الإمام الجواد عليه السّلام والقاضي ابن أكثم مناظرة علميّة سجّلها لنا التاريخ بسطور من نور؛ فقد ردّ الإمام الجواد عليه السّلام ـ وهو يومئذٍ غلام صغير العمر ـ على سؤال ابن أكثم ردّاً بانَ منه فضلُه وعِلمه، وبَخَع له ابن أكثم ولَجَلَج وبانَ عليه العجز والانهزام.
تقدّم ابن أكثم وهو يُمَنّي نفسه الأمانيّ إن هو أبان للمجتمعين عن هذا الغلام الهاشميّ الوضّاح أدنى عجز عن إجابته. واندفع يسأل: ما تقولُ ـ جُعِلت فداك ـ في مُحْرِم قَتَل صَيْداً ؟
ظنّ ابن أكثم أنّ أمامه فتىً عاديّاً لم يَرِث علومَ آل محمّد صلّى الله عليه وآله، وخُيّل إليه أنّ الفتى سيقع في الفخّ الذي نصب له شِراكَه بمهارة، فالسؤال يتضمّن حالاتٍ واحتمالاتٍ كثيرة، لا يُتقِنُ الإجابةَ عن مثلها عالمٌ متفقّه دونما مراجعة لأحاديث الفقه الواردة في باب ما يَحرُم فِعلُه على المُحرِم للحجّ.
تقدّم أبو جعفر عليه السّلام باطمئنان، وردّ في ثقة، وهو يُسائل قاضي القضاة ابنَ أكثم: قَتَله في حِلٍّ أو حَرَم ؟ عالِماً كان المُحرِم أم جاهلاً ؟ قَتَله عمداً أو خطأً ؟ حُرّاً كان المُحرِم أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مُبتدئاً بالقتلِ أم مُعيداً ؟ مِن ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ مِن صغار الصيد كان أم كِبارها ؟ مُصِرّاً على ما فَعَل أو نادماً ؟ في الليل كان قَتْله للصَّيد أم نهاراً ؟ مُحرِماً كان بالعُمرة إذ قَتَله أو بالحجّ كان مُحرماً ؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وبانَ في وجهه العجز والانقطاع، ولَجلَج حتّى عَرَف جماعةُ أهل المجلس أمره.
ثمّ إنّ المأمون سأل أبا جعفر الجواد عليه السّلام أن يذكر الفقه فيما فصّله من وُجوه قَتلْ المُحرم الصيد، فقال عليه السّلام: نعم، إنّ المُحرِم إذا قَتَل صيداً في الحِلّ، وكان الصيدُ من ذوات الطير وكان من كبارها، فعليه شاةٌ. فإن كان أصابه في الحَرَم فعليه الجزاءُ مُضاعفاً. وإذا قَتَل فرخاً في الحِلّ فعليه حَمْلٌ قد فُطم من اللبن؛ وإذا قَتَله في الحرم فعليه الحَمْل وقيمةُ الفرخ.
وإن كان من الوَحْش وكان حمارَ وحش فعليه بقرةٌ؛ وإن كان نعامةً فعليه بُدْنةٌ؛ وإن كان ظَبْياً فعليه شاة؛ فإن قَتَل شيئاً من ذلك في الحَرَم فعليه الجزاء مُضاعفاً هَدْياً بالغَ الكعبة.
وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهَدْيُ فيه، وكان إحرامُه للحجّ نَحَرَه بمِنى؛ وإن كان إحرامُه للعُمرة نَحَرَه بمكّة. وجزاءُ الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العَمْد له المَأْثم، وهو موضوعٌ عنه في الخطأ. والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة؛ والنادمُ يسقط بندمه عنه عقابُ الآخرة، والمُصِرّ يجب عليه العقابُ في الآخرة(12)
الإمام الجواد عليه السّلام يمتحن القاضي ابن أكثم
• روى المفيد والطبرسيّ أنّ المأمون العبّاسيّ لمّا أجاب أبو جعفر الجواد عليه السّلام عن أسئلة ابن أكثم بما بان منه فضله لجميع من في المجلس، رغب إلى الإمام الجواد عليه السّلام في أن يسأل يحيى بن أكثم عن مسألة كما سأله يحيى.
فقال أبو جعفر عليه السّلام ليحيى: أسألُك ؟
قال: ذلك إليك ـ جُعلت فداك ـ فإن عرفتُ جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدتُه منك.
فقال له أبو جعفر عليه السّلام: خبِّرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حَلَّت له، فلمّا زالت الشمس حَرُمَت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشمس حَرُمت عليه، فلمّا دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان انتصاف الليل حَرُمت عليه، فلمّا طلع الفجرُ حلّت له؛ ما حال هذه المرأة ؟ وبماذا حلّت له وحَرُمت عليه ؟ فقال له يحيى بن أكثم: لا واللهِ ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه؛ فإن رأيتَ أن تُفيدَناه!
فقال له أبو جعفر عليه السّلام: هذه أَمَةٌ لرجلٍ من الناس نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظرهُ إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلَّتْ له، فلمّا كان الظُّهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهَرَ منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظِّهار فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.
فأقبل المأمون على مَن حضره من أهل بيته، فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدّم من السؤال ؟!
قالوا: لا واللهِ...
فقال لهم: ويحَكُم! إنّ أهل هذا البيت خُصُّوا من الخَلْق بما تَرَون من الفضل، وإنّ صِغَر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال. أمَا علمتم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وهو ابنُ عشرِ سنين، وقَبِل منه الإسلام وحَكَم له به، ولم يَدْعُ أحداً في سنّهِ غيرَه؛ وبايع الحسنَ والحسين عليهما السّلام وهما ابنا دون الستّ سنين ولم يُبايع صبيّاً غيرهما ؟! أفلا تعلمون الآن ما اختصّ اللهُ به هؤلاء القوم وأنّهم ذُريّةٌ بعضُها من بعض، يَجري لآخرهم ما يَجري لأوّلهم ؟
قالوا: صدقتَ يا أمير المؤمنين(13).
الإمام الجواد عليه السّلام يبيّن معنى « الأحد »
• روى أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: قلتُ لأبي جعفر الثاني عليه السّلام: قل هو الله أحد (14)، ما معنى الأحد ؟
قال عليه السّلام: المُجمَع عليه بالوحدانيّة. أما سمعتَه يقول: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ (15)، ثمّ يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة!
فقلت: قولُه لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ (16) ؟
قال: يا أبا هاشم، أوهامُ القلوب أدقُّ من أبصار العيون؛ أنت قد تُدرك بوهمك السِّند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدرك ببصرك ذلك؛ فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار ؟!(17)
• وروى أبو هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام، فسأله رجل فقال: أخبِرني عن الربّ تبارك وتعالى، أله أسماء وصفات في كتابه ؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو ؟
فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ لهذا الكلام وجهَين:
إن كنتَ تقول « هي هو أنّه ذو عدد وكثرة، فتعالى اللهُ عن ذلك.
وإن كنتَ تقول « هذه » الصفات والأسماء لَم تَزَل »، فإنّ « لم تَزَل » محتمل على معينيَن: فإن قلتَ « لم تزل عنده في عِلمه وهو يستحقّها » فنعم.
وإن كنتَ تقول « لم تَزَل صورُها وهِجاؤها وتقطيع حروفها »، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره! بل كان الله « تعالى ذِكرُه » ولا خَلْق، ثمّ خَلَقها وسيلةً بينه وبين خلقه، يتضرّعون بها إليه ويعبدونه، وهي ذِكرُه، وكان الله سبحانه ولا ذِكر. والمذكور بالذِّكر هو الله القديم الذي لَم يَزَل، والأسماء والصفات مخلوقات، والمعنيّ بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنّما يختلف ويتألّف المتجزّئ. ولا يُقال له: قليل ولا كثير، ولكنّه القديم في ذاته، لأنّ ما سوى الواحد متجزّئ، والله واحد لا متجزّئ ولا مُتوهَّم بالقلّة والكثرة؛ وكلّ متجزّئ أو مُتوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالٌّ على خالقٍ له.
فقولُك « إنّ الله تعالى قدير » خبرتَ أنّه لا يُعجزه شيء، فنَفَيتَ بالكلمة العجزَ، وجعلتَ العجز لسواه. وكذلك قولك « عالم ، إنّما نَفَيتَ بالكلمة الجهلَ، وجعلتَ الجهل لسواه. فإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورةَ والهجاءَ والتقطيع، فلا يزال مَن لَم يَزَل عالماً.
فقال الرجل: فكيف سَمَّينا ربَّنا سميعاً ؟
فقال عليه السّلام: لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأسماع، ولم نَصِفْه بالسمع المعقول في الرأس.وكذلك سَمّيناه « بصيراً » لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصرِ طرفةِ العين.
وكذلك سمّيناه « لطيفاً » لعِلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وما هو أخفى من ذلك، وموضع المشي منها، والشهود والسِّفاد، والحَدب على أولادها، وإقامة بعضها على بعض، ونقلها الطعامَ والشراب إلى أولادها في الجبال والمَفاوِز والأودية والقِفار؛ فعلمنا بذلك أنّ خالفها لطيف بلا كيف، إذ الكيفيّة للمخلوق المكيَّف.
وكذلك سَمَّينا ربَّنا « قويّاً » بلا قوّة البطش المعروف في الخلق؛ ولو كانت قوّته قوّة البطش المعروف في الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزياد، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان؛ وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً. فربُّنا تبارك وتعالى لا شِبه له ولا ضِدّ ولا نِدّ ولا كيفيّة ولا نهاية ولا تصاريف، مُحرّمٌ على القلوب أن تحمله، وعلى الأوهام أن تَحِدّه، وعلى الضمائر أن تُصوّره، جلّ وعزّ عن أداة خلقه وسمات بَريّته، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً(18).
امتحان آخر من قِبل القاضي ابن أكثم
• روى ابن شعبة مرسلاً أنّ المأمون قال ليحيى بن أكثم: اطرح على أبي جعفر محمّد ابن الرضا مسألة تَقطَعُه فيها؛ فقال ابن أكثم: يا أبا جعفر، ما تقول في رجُلٍ نَكَح امرأة على زنا، أيَحِلُّ له أن يتزوّجها ؟
فقال عليه السّلام: يَدَعُها حتّى يَستبرئها من نُطفته ونطفة غيره، إذ لا يُؤمَن منها أن تكون أحدثت مع غيره حدثاً كما أحدث معه، ثمّ يتزوّج بها إن أراد؛ فإنّما مَثَلها مَثَلُ نخلةٍ أكل رجلٌ منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً. فانقطع يحيى(19).
في تفسير بعض الآيات القرآنيّة
• روى الصدوق بإسناده عن عليّ بن مهزيار، قال: قلتُ لأبي جعفر الثاني عليه السّلام: قوله عزّوجلّ واللَّيلِ إذا يَغْشى * والنَّهارِ إذا تَجَلّى (20)، وقوله عزّوجلّ والنَّجمِ إذا هَوَى (21) وما أشبه هذا، فقال عليه السّلام: إنّ الله عزّوجلّ يُقْسم مِن خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يُقسِموا إلاّ به عزّوجلّ(22).
• وروى المفيد بإسناده عن جعفر بن محمد الصوفيّ، قال: سألتُ أبا جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام، قلتُ له: يا ابن رسول الله، لِم سُمِّي رسول الله صلّى الله عليه وآله الأُمِّيّ ؟
فقال: ما يقول الناس ؟
قلتُ: جُعِلت فِداك، يقولون: إنّما سُمّي الأُمِّيّ؛ لأنّه لم يكن يكتب.
فقال عليه السّلام: كَذَبوا عليهم لعنةُ الله! أنّى يكون ذلك ويقول الله عزّوجلّ في كتابه هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتْلُو عَلَيهِم آياتِهِ ويُزكّيهم ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكمة (23) فكيف كان يُعلّمهم ما لا يُحسن ؟! واللهِ لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرأ ويكتب باثنَين وسبعين أو ثلاثةٍ وسبعين لساناً، وإنّما سُمّي الأُمّي لأنّه من أهل مكّة، ومكّة من أُمّهات القُرى، وذلك قول الله في كتابه: لِتُنذِرَ أُمَّ القُرى ومَن حَولَها (24)،(25).
• وروى الصدوق بإسناده عن عبدالعظيم بن عبدالله الحَسَنيّ، قال: سألت محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام عن قوله عزّوجلّ أَوْلَى لكَ فأَوْلى * ثمّ أولى لَكَ فأولى (26).
قال: يقول الله عزّوجلّ: بُعداً لك مِن خير الدنيا بُعداً، وبُعداً لك من خير الآخرة(27).
• روى عليّ بن إبراهيم عن عليّ بن أسباط، قال: قلتُ لأبي جعفر الثاني عليه السّلام: يا سيّدي، إنّ الناس يُنكرون عليك حداثةَ سِنِّك! قال: وما يُنكرون علَيَّ من ذلك ؟! فواللهِ لقد قال اللهُ لنبيّه صلّى الله عليه وآله: قُلْ هذهِ سَبيلي أدعُو إلَى اللهِ أنا ومَنِ اتَّبعَني (28)، فما اتّبعه غيرُ عليّ عليه السّلام وكان ابنَ تسع سنين؛ وأنا ابنُ تسع سنين(29).
علّة تسمية الإمام الرضا عليه السّلام بـ « الرضا »
• روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، قال: قلتُ لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السّلام: إنّ قوماً مِن مُخالفيكم يزعمون [ أنّ ] أباك إنّما سمّاه المأمونُ « الرضا » لمّا رضيه لولاية عهده. فقال: كذبوا واللهِ وفَجَروا! بل اللهُ تبارك وتعالى سمّاه « الرضا »؛ لأنّه كان رضيَ لله عزّوجلّ في سمائه، ورضي لرسوله والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم في أرضه.
قال: فقلتُ له: ألم يكن كلّ واحد من آبائك الماضين عليهم السّلام رضىً لله تعالى ولرسوله والأئمّة عليهم السّلام ؟
فقال: بلى.
فقلتُ: فلِمَ سُمّي أبوك من بينهم « الرضا » ؟
قال: لأنّه رضيَ به المخالفون من أعدائه، كما رضيَ به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه عليهم السّلام؛ فلذلك سُمّي من بينهم الرضا عليه السّلام(30).
في اختلاف الشيعة
• روى الشيخ الكليني بإسناده عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فأجريتُ [ ذِكرَ ] اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالى لَم يَزَل مُتفرّداً بوَحدانيّته، ثمّ خَلَق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر؛ ثمّ خلق الأشياء فأشهدهم خلقَها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يُحلّون ما يشاؤون ويُحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلاّ أن يشاء الله تبارك وتعالى. ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي مَن تقدّمها مَرَق، ومَن تخلّف عنها مُحِق، ومَن لَزِمَها لَحِق؛ خُذها إليك يا محمّد!(31)
------------------------------
1 ـ الإرشاد للمفيد 33:1.
2 ـ أمالي الصدوق 424.
3 ـ نهج البلاغة 137 : الخطبة 93. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 286:2. ورواه الصدوق في أماليه 281، وفي كمال الدين 525 / ح 1. وكذا الشيخ المجلسيّ في بحار الأنوار 225:3، و 117:10 ، 125 و 313:41 ، 327
4 ـ الإرشاد للمفيد 33:1؛ بحار الأنوار للمجلسيّ 143:40.
5 ـ الكافي للكليني 321:1 / ح 9.
6 ـ قيل: قد يكون في الحديث إشارة إلى كثرة ما يُستنبَط من كلماته الوجزة المشتملة على الأحكام الكثيرة.
7 ـ الكافي للكلينيّ 496:1 / ح 7.
8 ـ الاحتجاج للطبرسيّ 466:2 / ح 320.
9 ـ سورة ق:16.
10 ـ سورة الأحزاب:7.
11 ـ الاحتجاج للطبرسيّ 477:2 ـ 480 / ح 323.
12 ـ الإرشاد للمفيد 281:2 ـ 286؛ الاحتجاج للطبرسي 469:2 ـ 474 / ح 322.
13 ـ الإرشاد للمفيد 286:2 ـ 287؛ إعلام الورى للطبرسيّ 104:2؛ الاحتجاج لأبي منصور أحمد بنِ عليّ للطبرسيّ 474:2 ـ 476.
14 ـ سورة الأخلاص:1.
15 ـ سورة العنكبوت:61.
16 ـ سورة الأنعام:103.
17 ـ الاحتجاج للطبرسيّ 465:2 ـ 466 / الرقم 319.
18 ـ الاحتجاج للطبرسي 467:2 ـ 469 / الرقم 321؛ التوحيد للصدوق 193 / ح 7؛ الكافي للكليني 116:1 / ح 7.
19 ـ تحف العقول 477 ـ 478.
20 ـ سورة الليل: 1 ـ 2.
21 ـ سورة النجم:1.
22 ـ من لا يحضره الفقيه 376:3.
23 ـ سورة الجمعة:2.
24 ـ سورة الأنعام:92.
25 ـ الاختصاص للمفيد:263؛ علل الشرايع للصدوق 118:1.
26 ـ سورة القيامة:34 ـ 35.
27 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام للصدوق 54:2.
28 ـ سورة يوسف:108.
29 ـ تفسير القمّي 358:1.
30 ـ علل الشرايع 126:1.
31 ـ الكافي للكليني 441:1 / ح 5.
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام