الإمام الجواد ( عليه السلام ) والمفاهيم المنحرفة عند الأمة *
لم يتخذ الغلو لوناً واحداً بل كانت ثمة ألوان متعددة، منها الغلو بالصحابة، وفي حوار مفتوح للإمام الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن الأكثم أمام جماعة كبيرة من الناس ، منهم المأمون العبّاسي فنّد الإمام الجواد (عليه السلام) التوجهات المغالية في شأن الصحابة، وإليك نص الحديث:
روي أن المأمون بعد ما زوّج ابنته أُمّ الفضل أبا جعفر (عليه السلام) كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيى بن الأكثم وجماعة كثيرة.
فقال له يحيى بن الأكثم: ما تقول يا بن رسول الله في ا لخبر الذي روي: أنه نزل جبرائيل (عليه السلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال: يا محمد ! إن الله عزّ وجل يُقرئك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عنّي راض فإني عنه راض ؟ .
فقال أبو جعفر (عليه السلام): ( لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله عزّ وجل وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (1). فالله عزّ وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى يسأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول ).
ثم قال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرائيل وميكائيل في السماء؟
فقال (عليه السلام): ( وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه، لأن جبرائيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عزّ وجل وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله فمحال أن يشبّههما بهما) .
قال يحيى: وقد روي أيضاً: أنهما سيدا كهول أهل الجنة. فما تقول فيه؟
فقال (عليه السلام): ( وهذا الخبر محال أيضاً، لان أهل الجنة كلهم يكونون شبّاناً ، ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أُمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما سيدا شباب أهل الجنة).
فقال يحيى بن الأكثم: وروي إن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ؟
فقال (عليه السلام): (وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم ومحمد (صلى الله عليه وآله)، وجميع الأنبياء والمرسلين. لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر)؟!.
فقال يحيى بن الأكثم: وقد روي: أن السكينة تنطق على لسان عمر؟
فقال (عليه السلام): ( لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر).
فقال ـ على رأس المنبر ـ: إن لي شيطاناً يعتريني، فإذا ملت فسدّدوني.
فقال يحيى: قد روي إن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: لو لم اُبعث لبُعث عمر؟
فقال (عليه السلام): ( كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ) (2)، فقد أخذ الله ميثاق النبيين، فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكان الأنبياء (عليهم السلام) لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان اكثر أيامه مع الشرك بالله؟! وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (نبّئت وآدم بين الروح والجسد).
فقال يحيى بن الأكثم: وقد روي أيضاً أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: ما احتبس عنّي الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب ؟
فقال (عليه السلام): (وهذا محال أيضاً، لأنه لا يجوز أن يشك النبي (صلّى الله عليه وآله) في نبوّته، قال الله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ) (3) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به)؟!
قال يحيى: روي أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجى منه إلاّ عمر؟
فقال (عليه السلام): (وهذا محال أيضاً، لأن الله تعالى يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (4)، فأخبر سبحانه انه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما داموا يستغفرون الله (5).
وفي هذا النص شواهد كافية لمدى التحريف الذي سيطر على مجال الحديث والبدع التي أُدخلت على السنّة النبوية الشريفة في عصر الخلافة الأموية والعباسية، ومدى نفوذها إلى واقع الأمة، بالرغم من كونها تخالف النصوص الصريحة للقرآن الكريم. وهذا كاشف عن مدى هبوط مستوى الوعي والثقافة العامة عند علماء البلاط فضلاً عن عامة أتباعهم.
وهذا الحوار يكشف لنا عن مدى شجاعة الإمام (عليه السلام) وقوّة منطقه، ودوره الكبير في تصحيح هذه الانحرافات الخطيرة التي تشوّه حقائق الدين من أجل تصحيح أخطاء شخصيات استغلّت شرف الصحبة والصحابة، وقبع الحكام المنحرفون تحت هذه الأقنعة التي نسجت منهم شخصيات وهميّة على مدى التاريخ في أذهان عوامّ علماء المسلمين فضلاً عن أتباعهم.
الإمام الجواد (عليه السلام) والتوجّه إلى هموم أبناء الأمة الإسلامية
وقدّم الإمام الجواد (عليه السلام) للناس الدلائل على إمامته (عليه السلام) ، بالأمور المحسوسة، علاوة على ذلك فإنّ اهتمام الإمام (عليه السلام) بخدمة الناس ، يعكس أهميّة هذا الأمر وفضله في الإسلام ، كما يكشف عن توجّهه (عليه السلام) لكسبهم بطريقة عملية، وهدايتهم لاختيار منهج أهل البيت (عليهم السلام).
ونقتصر على بعض الأمثلة في هذا الصدد.
1- لمّا انصرف أبو جعفر (عليه السلام) من عند المأمون ببغداد ومعه أُم الفضل إلى المدينة، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيّعونه ، فانتهى إلى دار المسيّب عند مغيب الشمس، فنزل ودخل المسجد، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد، فدعا بكوز فيه ماء ، فتوضأ في أصل النبقة ، وقام وصلّى بالناس صلاة المغرب، فقرأ في الأولى الحمد وإذا جاء نصرالله ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، وقنت قبل الركوع، وجلس بعد التسليم هنيئة يذكرالله تعالى، وقام من غير تعقيب، فصلّى النوافل أربع ركعات، وعقّب بعدها، وسجد سجدتي الشكر، ثم خرج، فلمّا انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً كثيراً حسناً، فتعجبوا من ذلك، فأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عجم له، ومضى (عليه السلام) إلى المدينة (6) .
2 ـ روي عن الشيخ أبي بكر بن إسماعيل أنه قال: قلت لأبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام): إن لي جارية تشتكي من ريح بها، فقال: (ائتـني بها) فأتيت بها فقال: (ما تشتكين يا جارية؟) قالت: ريحاً في ركبتي، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب فخرجت الجارية من عنده ولم تشتك وجعاً بعد ذلك (7).
3 ـ وروي عن محمد بن عمير بن واقد الرازي أنه قال: دخلت على أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) ، ومعي أخي به بهر شديد، فشكى إليه ذلك البهر (8)، فقال (عليه السلام): (عافاك الله ممّا تشكو)، فخرجنا من عنده وقد عوفي فما عاد إليه ذلك البهر إلى أن مات.
4 ـ قال محمد بن عمير: وكان يصيبني وجع في خاصرتي في كل أسبوع فيشتد ذلك الوجع بي أيّاماً وسألته أن يدعو لي بزواله عنّي، فقال: (وأنت فعافاك الله) فما عاد إلى هذه الغاية (9).
5 ـ وروي عن علي بن جرير قال : كنت عند أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون: انتم سرقتم الشاة.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): (ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم، الشاة في دار فلان ، فاذهبوا فأخرجوها من داره)، فخرجوا فوجدوها في داره، واخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه، وهو يحلف انه لم يسرق هذه الشاة، إلى أن صاروا إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال: (ويحكم ظلمتم الرجل، فانّ الشاة دخلت داره وهولا يعلم بها)، فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه (10).
6 ـ وروي عن القاسم بن الحسن، أنّه قال: كنت فيما بين مكة والمدينة، فمرّ بي أعرابي ضعيف الحال، فسألني شيئاً فرحمته، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه، فلمّا مضى عنّي هبّت ريح زوبعة، فذهبت بعمامتي من رأسي، فلم أرها كيف ذهبت ولا أين مرّت، فلمّا دخلت المدينة، صرت إلى أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) فقال لي: (يا أبا القاسم ذهبت عمامتك في الطريق) ؟ قلت: نعم، فقال: (يا غلام أخرج إليه عمامته)، فأخرج إليّ عمامتي بعينها، قلت: يا ابن رسول الله كيف صارت إليك؟ قال: (تصدّقتَ على أعرابي فشكره الله لك، فردّ إليك عمامتك )، و(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (11).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
ـــــــــــــــ
(*) منقول من موقع البلاغ بتصرف .
(1) سورة ق: الآية 16.
(2) سورة الأحزاب: الآية 7.
(3) سورة الحج: الآية 75.
(4) سورة الأنفال: الآية 33.
(5) الاحتجاج: 2 / 477 ـ 480.
(6) إعلام الورى بأعلام الهدى: 2 / 105 ـ 106.
(7) بحار الأنوار: 50 / 46 ـ 47.
(8) البُهرة بالضم تتابع النفس.
(9) مستدرك عوالم العلوم: 50 / 47.
(10) مستدرك عوالم العلوم: 50 / 47.
(11) مستدرك عوالم العلوم: 47 ـ 48.