مجلس في شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
من كتاب مجالس المؤمنين
في
الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)
الشيخ كاظم البهادلي
المجلس الثالث عشر : في الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
يـا صاحبَ العصر أحسنَ اللهُ
العزا
لـك فـي أبـيكَ سليلِ طه
الأطهرِ
|
*****
أوّل ثـار غـصبوا نحلة
الزهره
والـثاني بـحيدر رادوا
الـغدره
|
ــــــــــــــــــ
(1) الأبيات للشيخ حسين الشبيب القطيفي (رحمه الله) المتوفّي سنة 1369هـ ، مرجعه إلى قبيلة بني تميم ، تعلّم القراءة والكتابة على يد المرحوم يوسف المعلّم المتوفّى سنة 1325هـ ، قال الشعر في سنّ مبكرة حتى أصبح من الشعراء المشهورين والمفعمين في حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) .
لم يكن يبارح مجلس سيد الشهداء (عليه السّلام) حتى إنّه كان يعقد مجلساً في بيته في كلّ ليلة .
له جزءان في الشعر ؛ أحدهما في القريض ، والثاني في الشعر الدارج .
انتقل إلى رحمة الله عن عمر يناهز السبعين . (انظر كتاب جذوة من شعراء أُمّ الحمام / 55 ـ 56) .
الصفحة (212)
يـبن الـحسن مـا تنهض
يوالينه
مـا تـدري عـدانه اتشمّتت
بينه
|
( أبوذية )
ابفگد العسكري اتيتّم شرعها سفينه چان ما ينصه
شرعها
|
*****
عن الإمام الهادي (عليه السّلام) قال : (( أبو مُحَمّدٍ ابني أصحُّ آلِ مُحَمّد غريزةً ، وأوثقُهم حُجَّةً ، وهو الأكبر من ولدي ، وهو الخَلَفُ وإليهِ تَنتَهِي عُرَى الإمامة وأحكامِها ، فما كُنتَ سائلي عَنْهُ فاسألهُ عنه ، فَعِندَهُ ما تحتاج إليه ، ومعه آلة الإمامة ))(1) .
كان ديدن الشيعة ـ
خصوصاً القريبين من الأئمّة (عليهم السّلام) ـ هو كثرة السؤال عن
الحُجَّةِ بعد كلّ إمام ، فما أن يقع بصرُهُم على تدهور حال الإمام
المعصوم (عليه السّلام) إلاّ ويَهرَعُون بكيل الأسئلة على الحُجَّةِ من
بعده .
ومن ضمن تلك الأسئلة التي طُرِحت على الأئمّة الذين تقدّموا
الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وطُرِحت عليه (سلام الله عليه) وعلى
ولده من بعده ، هو هذا السؤال الذي جاء بمضامين مُتَّحدة المعاني ،
ومختلفة شيئاً ما في الأسلوب : إذا كان بك كونٌ فمَنْ الحُجَّةُ مِن
بعدك ؟ .
أو أنّ الإمام يَعرِف أنّ الشيعة بحاجة إلى تأكيد هذا المعنى ، فيبادر الإمام بنفسه فيعيّن الحُجَّة والإمام مِن بعده ؛ تأكيداً للعهود والمواثيق ، كما صنع إمامُنا الهادي (عليه السّلام) في هذه الكلمة التي بَيّن فيها مقام ومنزلة الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وأنّه الأكبر من ولده ، وهو الخَلَف ، وعنده مواريث العلم وأحكامه ، ويحتاج إليه الناس ، وهو الإمام من بعده .
ــــــــــــــــ
1ـ إعلام الورى 2 / 135 ـ 136 ، الإرشاد 2 / 319 ، الكافي 1 / 327 ـ 328 باب النصّ على الإمام العسكري (عليه السّلام) ح11 ، الصراط المستقيم 2 / 169 ، كشف الغمة 3 / 201 ، بحار الأنوار 50 / 245ح19 بدون كلمة (ومعه آلة الإمامة) عن الإرشاد .
وأراد الإمام الهادي (عليه السّلام) بذكر هذه الصفات والقيود أن يقطع دابر الفتنة ، ولا يجعل احتمالاً ـ ولو ضعيفاً ـ للاختلاف في الحُجَّةِ من بعده ؛ لما هو معلوم من أنّ القيود كُلّما ازدادت ندر المقيَّد .
فكون الإمام أبي مُحَمّد هو الأكبر يدفع شبهات عديدة ؛ لأنّ الأكبر لا يكون إلاّ واحداً ، فإمامنا العسكري (عليه السّلام) وإن كان بعد أخيه السيد مُحَمّد المدفون في مدينة بلد ، إلاّ أنّ السيّد مُحَمّد تُوفِي قَبل أبيه الهادي (عليه السّلام) ؛ ممّا جعل الأمر منحصراً بأبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ؛ ولذا ورد عن إمامنا الهادي (عليه السّلام) في وفاة السيّد مُحَمّد أنّه قال للإمام العسكري (عليه السّلام) : (( يا بُني ، أحدِثْ لله شكراً ؛ فقد أَحدَثَ فيك أمراً ))(1) .
فإنّ فيه إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ عامّة الناس يتوقعّون الإمامة دائماً في الولد الأكبر ، ممّا يعرقل السير في اللجوء إلى الإمام ، ولا أقلّ من حدوث فتنة .
ومن بعد هذه المقدّمة نقف قليلاً للتعرّف على ملامح شخصية الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) :
وُلِد الإمام العسكري (عليه السّلام) ـ إمام الشيعة الحادي عشر والمعصوم الثالث عشر ـ عام 232هـ بالمدينة ، أبوه ـ كما تقدّم ـ هو الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وأمّه المرأة الزاهدة والعابدة ، حديثة أو سوسن ، وقد كانت من العارفات الصالحات ، وكفى في فضلها أنّها كانت مفزع الشيعة بعد وفاة أبي مُحَمّد
ـــــــــــــــــ
1ـ بصائر الدرجات / 492 ـ 493 ح13 ، عنه بحار الأنوار 50 / 240ح6 ، إعلام الورى 2 / 133 ، كشف الغمة 3 / 200 ، الإرشاد 2 / 315 .
العسكري (عليه السّلام) وفي تلك الظروف الحرجة(1) .
كان عمره 22 عاماً عندما استشهد أبوه الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وكانت إمامته ستة أعوام ، وعاش 28 سنة ؛ حيث كانت شهادته سنة 260هـ(2) .
وقد عاصر الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) ثلاثة من خلفاء الظلم والجور من بني العباس ، وهم : المعتز بالله بن المتوكِّل العباسي ، والمهتدي بالله الذي استولى على الكرسي بعد مقتل أخيه المعتز ، والثالث هو المعتمد بالله .
وقد قاسى الإمام أبو مُحَمّد (عليه السّلام) من هؤلاء أشدّ المتاعب والمعاناة .
وقد وصف إمامنا الهادي (عليه السّلام) ولده الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) بأوصافه اللائقة به ؛ لأنّ الإمام لا يحيط بكنهه إلاّ مَنْ كان على شاكلته .
وأنا أحبّ أن أركّز على الكلمة الأخيرة من هذا الحديث الشريف ، والكلمة هي : (( فعنده ما تحتاج إليه ومعه آلة الإمامة )) ؛ ففيها كلّ التفاصيل التي يراد لها أن تُقال عن الإمام (عليه السّلام) .
أمّا المقطع الأوّل (( فعنده ما تحتاج إليه )) : فالخطاب فيها موجّه لِمَنْ سأل عن الحُجَّةِ من بعد الإمام الهادي (عليه السّلام) ، فأجابه الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السّلام) :
ــــــــــــــــ
1ـ وعن
المسعودي عن العالم (عليه السّلام) أنّه قال : لمّا أُدخلت سليل أُمّ
أبي محمد (عليه السّلام) على أبي الحسن قال :
(( سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس
والأنجاس )) منتهى الآمال 2 / 650 ، عن إثبات الوصية / 207 .
2ـ في الثامن من شهر ربيع الأوّل ، كما في الكافي 1 / 503 .
بأنّ ما كنت تسأل عنه سابقاً إيّاي ، سل عنه أبا مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) من بعدي ، (( فعنده ما تحتاج إليه )) .
يعني يجيبك عن كلّ ما تحتاج إليه من مسائل الأحكام ، وهذا المقطع يكشف عن العلم الذي كان يحمله الأئمّة(عليهم السّلام) ، ومنهم أبو مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وهو من أهم عناصر التفضيل عند الله تبارك وتعالى ، حيث قال (عزّ وجلّ) : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(1) ، وقال أيضاً : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(2) .
وقد اشتهر عن الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) علمه بالمغيّبات كثيراً ، فمن ذلك ما رواه إسماعيل بن مُحَمّد من حفدة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قال : قعدت لأبي مُحَمّد (عليه السّلام) على ظهر الطريق ، فلمّا مَرَّ بي شكوتُ إليه الحاجة ، وحلفت له أنّه ليس عندي درهم فما فوقها ، ولا غداء ولا عشاء ، قال : فقال : (( تحلف بالله كاذباً ، وقد دفنتَ مئتي دينار ، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية . يا غلام ، ما معك ؟ )) .
فأعطاني غلامه مئة دينار ، ثُمَّ أقبل عليَّ ، فقال : (( إنّك تُحرَم الدنانير التي دفنتَها أحوج ما تكون إليها )) .
وصدق (عليه السّلام) وكان كما قال : دفنتُ مئتي دينار وقلت : يكون ظهراً وكهفاً لنا ، فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه ، وانغلقت عليّ أبواب الرزق ، فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب ، فما قدرت منها
ـــــــــــــــــ
1ـ سورة الزمر
/ 9 .
2ـ سورة المجادلة / 11 .
على شيءٍ(1) .
وأنت إذا لاحظت هذه الرواية عرفت معنى العلم الذي وهبه الله للأئمّة (عليهم السّلام) ، وكيف يخبرون بما كان وما هو كائن ، وكيف تعامل الإمام مع هذا الرجل مع أنّه أراد إخفاء الحقيقة على الإمام ، ومع هذا أعطاه الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّه من تلك الشجرة المباركة ، والذي ورد عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّي لأعجبُ من أقوام يشترون المماليك بأموالِهِم ، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم ))(2) .
ولذا تكرّرت هذه المواقف من أكثر الأئمّة (عليهم السّلام) مع الأعداء والمنحرفين والكذّابين ، حتى اشتهرت عن هؤلاء هذه الجملة بكثرة بحقِّ الأئمّة (عليهم السّلام) : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .
وأمّا المقطع الثاني فهو (( ومعه آلة الإمامة )) : وهذه الكلمة تستوجب الوقوف قليلاً ؛ لتحديد ما هو المقصود من آلة الإمامة حتى نعرف بعد ذلك توفّر الإمام (عليه السّلام) عليها وعدمه .
أمّا الآلة لغةً : فهي الأداة ، وجَمْعها آل وآلات(3) ، وعليه يصير المعنى أنّ الإمام (عليه السّلام) عنده أداة الإمامة ، فحينئذ هو لا يحتاج إلى هذه الأداة من أحد ،
ــــــــــــــــــ
1ـ الكافي 1 /
509 ـ 510 باب مولد الإمام العسكري (عليه السّلام) ح14 ، عنه مدينة
المعاجز 7 / 551 ح17 ، الإرشاد 2 / 332 ، مناقب آل أبي طالب 3 ، 531 ـ
532 ، إعلام الورى 2 / 137 ، كشف الغمة 3 / 209 ، بحار الأنوار 50 /
280 ـ 281 ح55 ، عن الإرشاد .
2ـ أمالي الشيخ الصدوق / 348 ، روضة الواعظين / 357 ، بحار الأنوار 41
/ 35 و71 / 408 .
3ـ المنجد 21 / مادة الآلة ، حرف (أ) .
بل لا يتمكّن أن يعطيها أيَّ واحد له (عليه السّلام) إلاّ الذي خلقه ، ولكن ما هي أداة الإمامة ؟
الظاهر : أنّ المقصود بهذه الأداة هو كلّ ما يتقوّم به هذا المنصب العظيم من صفات ، أمثال : العلم ، والتقوى ، ومكارم الأخلاق ، ومعاجز ومناقب ، بحيث يكون بمرتبة لا يرقى إليها أحد إلاّ مَنْ كان على شاكلته (عليه السّلام) .
وهكذا كان إمامنا أبو مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) ، فقد جاء بمناقب ومعاجز حيّرت العقول ، وأذهلت الألباب ، نذكر بعضها :
منها : ما عن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) وكان يكتُبُ كتاباً ، فحان وقت الصلاة الأولى ، فوضع الكتاب من يده ، وقام (عليه السّلام) إلى الصلاة ، فرأيت القلم يمرّ على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب حتى انتهى إلى آخره فخررت ساجداً .
فلمّا انصرف من الصلاة أخذ القلم ، وأذن للناس بالدخول(1) .
ومنها : ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن ابن الكردي عن مُحَمّد بن علي قال : ضاق بنا الأمر ، فقال لي أبي : امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل ، يعني أبا مُحَمّد ؛ فإنّه قد وُصِفَ عنه سماحتُهُ .
فقلت : تَعرِفه ؟
فقال : ما أَعرِفه ، ولا رأيتُه قطّ .
قال : فقصدناه ، فقال لي (أبي) وهو في طريقه : ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمئة درهم ، مئتا درهم للكسوة ، ومئة درهم للدين ، ومئة
ــــــــــــــــــ
1ـ عيون المعجزات / 123، عنه بحار الأنوار 50 / 304 ح80 .
للنفقة .
فقلت في نفسي : ليته أمر لي بثلاثمئة درهم ، مئة أشتري بها حماراً ، ومئة للنفقة ، ومئة للكسوة ، وأخرج إلى الجبل .
قال : فلمّا وافينا الباب خرج إلينا غلامُه ، فقال : يدخل علي بن إبراهيم ومُحَمَّد ابنه ، فلمّا دخلنا عليه وسلّمنا ، قال لأبي : (( يا علي ، ما خَلّفك عنّا إلى هذا الوقت ؟ )) .
فقال : يا سيدي ، استحييت أن ألقاك على هذه الحال .
فلمّا خرجنا من عنده جاءنا غلامُه فناول أبي صُرّة ، فقال : هذه خمسمئة درهم ؛ مئتان للكسوة ، ومئتان للدين ، ومئة للنفقة ، وأعطاني صُرَّة فقال : هذه ثلاثمئة درهم ، اجعل مئة في ثمن حمار ، ومئة للكسوة ، ومئة للنفقة ، ولا تخرج إلى الجبل ، وصُر إلى سوراء .
فصار إلى سوراء ، وتزوّج بامرأة ، فدخله اليوم ألف دينار ، ومع هذا يقول بالوقف .
فقال مُحَمّد بن إبراهيم : فقلت له : ويحك ! أتريد أمراً أبين من هذا ؟
قال : فقال : هذا أمر قد جرينا عليه(1) .
ولأجل المعاجز والمناقب ، ومكارم الأخلاق التي كان يحملها الإمام أبو مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، ولالتفاف الشيعة إليه ومعرفتهم بحقّه ومنزلته ؛ لأجل كلّ ذلك وغيره صار أعداء الله يتحيّنون الفرصة لتجريع الإمام (عليه السّلام) الغصّة .
قال في نور الأبصار : وكان المعتمد يؤذيه كثيراً حتى سقاه السّم ، ولمّا سُقِي السّم مرض مرضاً شديداً ، فبلغ ذلك المعتمد في مرضه ، قيل له :
ـــــــــــــــــ
1ـ الكافي 1 / 506 باب معاجز الإمام العسكري (عليه الّسلام) ح3 ، روضة الواعظين / 247 ، الإرشاد 2 / 326 ، مناقب آل أبي طالب 3 / 537 ، مدينة المعاجز 7 / 540 ـ 541 ح3 ، كشف الغمة 3 / 205 ـ 206 ، بحار الأنوار 50 / 278 ح52 ، وفي معجم البلدان 3 / 278 (سوراء) موضع يُقال هو إلى جنب بغداد ، وقيل : هو بغداد نفسها .
إنّ ابن الرضا قد اعتلّ ومرض ، فأمر الرجل نفراً من المتطبِّبين بالاختلاف إليه ، وتعاهده صباحاً ومساءً ، وبعث خمسة نفر كلّهم من ثقاته وخاصّته ، وأمرهم بلزوم دار أبي مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) وتَعرُّف خبره وحاله .
فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاء مَنْ أخبره بأنّ العسكري قد ضَعُف ، فركب المعتمد حتى بكّر إليه ، ثُمَّ أمر المتطبِّبين بلزومه ، وبعث إلى قاضي القضاة وعشرة من أصحابه ممّن يثق به ، وأرسلهم إلى الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى كانت الليلة التي قُبِض فيها ، فرأوه وقد اشتدّ به المرض ، يُغشَى عليه ساعة بعد ساعة ؛ فعَلِموا أنّه قد قَرُب به الموت ، فتفرّقوا عنه .
فلم يكن عنده في تلك الليلة إلاّ جاريته صيقل وعقيد الخادم ، وولده الحُجَّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وقد مضى من عُمُر الحُجَّة في ذلك الوقت خمس سنين ، وكتب الإمام بيده الشريفة في تلك الليلة كتباً كثيرة إلى المدينة .
قال عقيد : فدعا (عليه السّلام) بماءٍ قد أُغلي بالمصطكي(1) ، فجئنا به إليه ، فقال (عليه السّلام) : (( أبدأ بالصلاة ، فجيئوني بماء لأتوضّأ به )) .
فجئنا به وبسط في حجره المنديل ، وتوضّأ ثُمَّ صلّى صلاة الغَدَاة في فراشه ، وأخذ القَدَح ليشرب ، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد ، فشرب منه جرعة، وأخذت صيقل القدح من
ــــــــــــــــــ
1ـ المصطكي : شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ، ويستخرج منه صُمغ يعلك ، وهو دواء ، ويُسمّى العلك الرومي ، انظر المنجد / 764 ، مادة (مصط) .
الصفحة (221)
يده ، ثُمَّ أخذ ولدَهُ الحُجَّة وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ، ويبكي ويوصيه بوصاياه ، وسلّمه ودائع الإمامة ، ثُمَّ سكن أنينُه ، وعرق جبينُه ، وغمّض عينيه ، ومدّ يديه ورجليه ، ومضى من ساعته ، وهو يوم الجمعة مع صلاة الغداة(1) .أين المنادي : أي وا سيداه ! أي وا إماماه !
أين المنادي : وا مسموماه !
اعله العسكري المسلم تلتهب ناره
سـمّه المعتمد وامست تحن
داره
|
ثمّ قام إمامنا الحُجَّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فجهَّز أباه وصلّى عليه ، ولم تره العيون(2) ، ودُفِن (عليه السّلام) في الدار التي دُفِن فيها أبوه الإمام الهادي (عليه السّلام) .
وكأنّي بالشيعة والموالين يندبون صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .
ـــــــــــــــــ
1ـ نور الأبصار ـ للمازندراني / 334 ـ 335 ، وانظر الكافي 1 / 505 ، كمال الدين وتمام النعمة / 473 ـ 474 ، الإرشاد 2 / 323 ـ 324 ، إعلام الورى 2 / 149 ، كشف الغمة 3 / 204 ، بحار الأنوار 50 / 328 و 331 ح3 .
الصفحة (222)
يـبو صـالح جزاك العتب
واللوم
تـظل صابر على اخذ الثار
لليوم
|
*****
أدرك تراتِك أيُّها الموتور فـلكم بكلِّ يدٍ دمٌ مهدورُ |
إنّا لله وإنّا
إليه راجعون ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ،
وسيعلم الذين ظلموا آل مُحَمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون
والعاقبة للمتقين .
ــــــــــــــــــ
1ـ مجمع المصائب 4 / 330 ـ 338 .
---------------------------------
مراجعة وضبط النص موقع معهد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) لإعداد الخطباء والمبلغين .