مجلس في شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
  • عنوان المقال: مجلس في شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
  • الکاتب: الشيخ كاظم البهادلي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 12:33:31 2-10-1403

مجلس في شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

من كتاب مجالس المؤمنين
في
الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام)
الشيخ كاظم البهادلي


المجلس الثالث عشر : في الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

يـا صاحبَ العصر أحسنَ اللهُ  العزا     لـك فـي أبـيكَ سليلِ طه  الأطهرِ
 قـد جـرّعوه الـقومُ كاساتِ الردى     فـقضى شـهيداً والأنـامُ  بـمنظَرِ
ولـئن صـبرتَ لـهذهِ  ونـظيرِها     فـأنا  وحـقِّك جـفَّ بحرُ تصبّري
فـإلى  مـتَى يا ابنَ النبيّ أما  ترى     كُـلَّ  ابـنِ افّـاكٍ عـليكم  يجتري
 أفـلا يُـهيجُك أنَّ أهـلَكَ قد  مَضَوا     مـا بـينَ مـسمومٍ وبـينَ  مُـعفّرِ
ومـجدّلٍ فـوقَ الـبسيطةِ  عـاريا     مـلقىً  ثـلاثاً بـالعرا لـم  يُـقبَرِ
يـا ابنَ النبيّ المُصطفى حُزني  لكم     أجـرى  عِـتابي في دوامِ  الأعصُرِ
عُـذراً إلـيك فـفي فـؤادي  قُرحةٌ     قد أوهنتْ كَبِدي وأدمت مِحجَري(1)

*****

أوّل  ثـار غـصبوا نحلة  الزهره     والـثاني  بـحيدر رادوا  الـغدره
والـثالث يـبو صالح صعب ذكره     مـا شـفنه ظـلع گبـله مكسرينه
 مـا  شفنه ظلع گبله انكسر بالباب     ولا شـفنه تمزّق گبل صكها  كتاب
يبن الحسن يوصل ليك منّي إعتاب     چي  تـنسه جنين اللي  إمسگطينه

ــــــــــــــــــ
(1) الأبيات للشيخ حسين الشبيب القطيفي (رحمه الله) المتوفّي سنة 1369هـ ، مرجعه إلى قبيلة بني تميم ، تعلّم القراءة والكتابة على يد المرحوم يوسف المعلّم المتوفّى سنة 1325هـ ، قال الشعر في سنّ مبكرة حتى أصبح من الشعراء المشهورين والمفعمين في حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) .
لم يكن يبارح مجلس سيد الشهداء (عليه السّلام) حتى إنّه كان يعقد مجلساً في بيته في كلّ ليلة .
له جزءان في الشعر ؛ أحدهما في القريض ، والثاني في الشعر الدارج .
انتقل إلى رحمة الله عن عمر يناهز السبعين . (انظر كتاب جذوة من شعراء أُمّ الحمام / 55 ـ 56) .

الصفحة (212)

 يـبن الـحسن مـا تنهض  يوالينه     مـا تـدري عـدانه اتشمّتت  بينه
يبن الحسن ما تنهض يراعي  الثار     چي  تـصبر اولـلسّا مغمّد  البتار
اخبرك وانته تدري بالجره والصار     حگكـم لـيش لـلساعة  امـخلينه

( أبوذية )

 ابفگد  العسكري اتيتّم شرعها      سفينه  چان ما ينصه  شرعها
يـا  ظالم چتل نفسها شرعها     أوهدم ركن الشريعه الأحمديه

*****


عن الإمام الهادي (عليه السّلام) قال : (( أبو مُحَمّدٍ ابني أصحُّ آلِ مُحَمّد غريزةً ، وأوثقُهم حُجَّةً ، وهو الأكبر من ولدي ، وهو الخَلَفُ وإليهِ تَنتَهِي عُرَى الإمامة وأحكامِها ، فما كُنتَ سائلي عَنْهُ فاسألهُ عنه ، فَعِندَهُ ما تحتاج إليه ، ومعه آلة الإمامة ))(1) .

كان ديدن الشيعة ـ خصوصاً القريبين من الأئمّة (عليهم السّلام) ـ هو كثرة السؤال عن الحُجَّةِ بعد كلّ إمام ، فما أن يقع بصرُهُم على تدهور حال الإمام المعصوم (عليه السّلام) إلاّ ويَهرَعُون بكيل الأسئلة على الحُجَّةِ من بعده .
ومن ضمن تلك الأسئلة التي طُرِحت على الأئمّة الذين تقدّموا الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وطُرِحت عليه (سلام الله عليه) وعلى ولده من بعده ، هو هذا السؤال الذي جاء بمضامين مُتَّحدة المعاني ، ومختلفة شيئاً ما في الأسلوب : إذا كان بك كونٌ فمَنْ الحُجَّةُ مِن بعدك ؟ .

أو أنّ الإمام يَعرِف أنّ الشيعة بحاجة إلى تأكيد هذا المعنى ، فيبادر الإمام بنفسه فيعيّن الحُجَّة والإمام مِن بعده ؛ تأكيداً للعهود والمواثيق ، كما صنع إمامُنا الهادي (عليه السّلام) في هذه الكلمة التي بَيّن فيها مقام ومنزلة الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وأنّه الأكبر من ولده ، وهو الخَلَف ، وعنده مواريث العلم وأحكامه ، ويحتاج إليه الناس ، وهو الإمام من بعده .

ــــــــــــــــ
1ـ إعلام الورى 2 / 135 ـ 136 ، الإرشاد 2 / 319 ، الكافي 1 / 327 ـ 328 باب النصّ على الإمام العسكري (عليه السّلام) ح11 ، الصراط المستقيم 2 / 169 ، كشف الغمة 3 / 201 ، بحار الأنوار 50 / 245ح19 بدون كلمة (ومعه آلة الإمامة) عن الإرشاد .

وأراد الإمام الهادي (عليه السّلام) بذكر هذه الصفات والقيود أن يقطع دابر الفتنة ، ولا يجعل احتمالاً ـ ولو ضعيفاً ـ للاختلاف في الحُجَّةِ من بعده ؛ لما هو معلوم من أنّ القيود كُلّما ازدادت ندر المقيَّد .

فكون الإمام أبي مُحَمّد هو الأكبر يدفع شبهات عديدة ؛ لأنّ الأكبر لا يكون إلاّ واحداً ، فإمامنا العسكري (عليه السّلام) وإن كان بعد أخيه السيد مُحَمّد المدفون في مدينة بلد ، إلاّ أنّ السيّد مُحَمّد تُوفِي قَبل أبيه الهادي (عليه السّلام) ؛ ممّا جعل الأمر منحصراً بأبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ؛ ولذا ورد عن إمامنا الهادي (عليه السّلام) في وفاة السيّد مُحَمّد أنّه قال للإمام العسكري (عليه السّلام) : (( يا بُني ، أحدِثْ لله شكراً ؛ فقد أَحدَثَ فيك أمراً ))(1) .

فإنّ فيه إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ عامّة الناس يتوقعّون الإمامة دائماً في الولد الأكبر ، ممّا يعرقل السير في اللجوء إلى الإمام ، ولا أقلّ من حدوث فتنة .

ومن بعد هذه المقدّمة نقف قليلاً للتعرّف على ملامح شخصية الإمام أبي مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) :

وُلِد الإمام العسكري (عليه السّلام) ـ إمام الشيعة الحادي عشر والمعصوم الثالث عشر ـ عام 232هـ بالمدينة ، أبوه ـ كما تقدّم ـ هو الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وأمّه المرأة الزاهدة والعابدة ، حديثة أو سوسن ، وقد كانت من العارفات الصالحات ، وكفى في فضلها أنّها كانت مفزع الشيعة بعد وفاة أبي مُحَمّد

ـــــــــــــــــ
1ـ بصائر الدرجات / 492 ـ 493 ح13 ، عنه بحار الأنوار 50 / 240ح6 ، إعلام الورى 2 / 133 ، كشف الغمة 3 / 200 ، الإرشاد 2 / 315 .

العسكري (عليه السّلام) وفي تلك الظروف الحرجة(1) .

كان عمره 22 عاماً عندما استشهد أبوه الإمام الهادي (عليه السّلام) ، وكانت إمامته ستة أعوام ، وعاش 28 سنة ؛ حيث كانت شهادته سنة 260هـ(2) .

وقد عاصر الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) ثلاثة من خلفاء الظلم والجور من بني العباس ، وهم : المعتز بالله بن المتوكِّل العباسي ، والمهتدي بالله الذي استولى على الكرسي بعد مقتل أخيه المعتز ، والثالث هو المعتمد بالله .

وقد قاسى الإمام أبو مُحَمّد (عليه السّلام) من هؤلاء أشدّ المتاعب والمعاناة .

وقد وصف إمامنا الهادي (عليه السّلام) ولده الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) بأوصافه اللائقة به ؛ لأنّ الإمام لا يحيط بكنهه إلاّ مَنْ كان على شاكلته .

وأنا أحبّ أن أركّز على الكلمة الأخيرة من هذا الحديث الشريف ، والكلمة هي : (( فعنده ما تحتاج إليه ومعه آلة الإمامة )) ؛ ففيها كلّ التفاصيل التي يراد لها أن تُقال عن الإمام (عليه السّلام) .

أمّا المقطع الأوّل (( فعنده ما تحتاج إليه )) : فالخطاب فيها موجّه لِمَنْ سأل عن الحُجَّةِ من بعد الإمام الهادي (عليه السّلام) ، فأجابه الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السّلام) :

ــــــــــــــــ
1ـ وعن المسعودي عن العالم (عليه السّلام) أنّه قال : لمّا أُدخلت سليل أُمّ أبي محمد (عليه السّلام) على أبي الحسن قال : (( سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس )) منتهى الآمال 2 / 650 ، عن إثبات الوصية / 207 .
2ـ في الثامن من شهر ربيع الأوّل ، كما في الكافي 1 / 503 .

بأنّ ما كنت تسأل عنه سابقاً إيّاي ، سل عنه أبا مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) من بعدي ، (( فعنده ما تحتاج إليه )) .

يعني يجيبك عن كلّ ما تحتاج إليه من مسائل الأحكام ، وهذا المقطع يكشف عن العلم الذي كان يحمله الأئمّة(عليهم السّلام) ، ومنهم أبو مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وهو من أهم عناصر التفضيل عند الله تبارك وتعالى ، حيث قال (عزّ وجلّ) : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(1) ، وقال أيضاً : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(2) .

وقد اشتهر عن الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) علمه بالمغيّبات كثيراً ، فمن ذلك ما رواه إسماعيل بن مُحَمّد من حفدة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قال : قعدت لأبي مُحَمّد (عليه السّلام) على ظهر الطريق ، فلمّا مَرَّ بي شكوتُ إليه الحاجة ، وحلفت له أنّه ليس عندي درهم فما فوقها ، ولا غداء ولا عشاء ، قال : فقال : (( تحلف بالله كاذباً ، وقد دفنتَ مئتي دينار ، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية . يا غلام ، ما معك ؟ )) .

 فأعطاني غلامه مئة دينار ، ثُمَّ أقبل عليَّ ، فقال : (( إنّك تُحرَم الدنانير التي دفنتَها أحوج ما تكون إليها )) .

وصدق (عليه السّلام) وكان كما قال : دفنتُ مئتي دينار وقلت : يكون ظهراً وكهفاً لنا ، فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه ، وانغلقت عليّ أبواب الرزق ، فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب ، فما قدرت منها

ـــــــــــــــــ
1ـ سورة الزمر / 9 .
2ـ سورة المجادلة / 11 .

على شيءٍ(1) .

وأنت إذا لاحظت هذه الرواية عرفت معنى العلم الذي وهبه الله للأئمّة (عليهم السّلام) ، وكيف يخبرون بما كان وما هو كائن ، وكيف تعامل الإمام مع هذا الرجل مع أنّه أراد إخفاء الحقيقة على الإمام ، ومع هذا أعطاه الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّه من تلك الشجرة المباركة ، والذي ورد عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّي لأعجبُ من أقوام يشترون المماليك بأموالِهِم ، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم ))(2) .

ولذا تكرّرت هذه المواقف من أكثر الأئمّة (عليهم السّلام) مع الأعداء والمنحرفين والكذّابين ، حتى اشتهرت عن هؤلاء هذه الجملة بكثرة بحقِّ الأئمّة (عليهم السّلام) : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

وأمّا المقطع الثاني فهو (( ومعه آلة الإمامة )) : وهذه الكلمة تستوجب الوقوف قليلاً ؛ لتحديد ما هو المقصود من آلة الإمامة حتى نعرف بعد ذلك توفّر الإمام (عليه السّلام) عليها وعدمه .

أمّا الآلة لغةً : فهي الأداة ، وجَمْعها آل وآلات(3) ، وعليه يصير المعنى أنّ الإمام (عليه السّلام) عنده أداة الإمامة ، فحينئذ هو لا يحتاج إلى هذه الأداة من أحد ،

ــــــــــــــــــ
1ـ الكافي 1 / 509 ـ 510 باب مولد الإمام العسكري (عليه السّلام) ح14 ، عنه مدينة المعاجز 7 / 551 ح17 ، الإرشاد 2 / 332 ، مناقب آل أبي طالب 3 ، 531 ـ 532 ، إعلام الورى 2 / 137 ، كشف الغمة 3 / 209 ، بحار الأنوار 50 / 280 ـ 281 ح55 ، عن الإرشاد .
2ـ أمالي الشيخ الصدوق / 348 ، روضة الواعظين / 357 ، بحار الأنوار 41 / 35 و71 / 408 .
3ـ المنجد 21 / مادة الآلة ، حرف (أ) .

بل لا يتمكّن أن يعطيها أيَّ واحد له (عليه السّلام) إلاّ الذي خلقه ، ولكن ما هي أداة الإمامة ؟

الظاهر : أنّ المقصود بهذه الأداة هو كلّ ما يتقوّم به هذا المنصب العظيم من صفات ، أمثال : العلم ، والتقوى ، ومكارم الأخلاق ، ومعاجز ومناقب ، بحيث يكون بمرتبة لا يرقى إليها أحد إلاّ مَنْ كان على شاكلته (عليه السّلام) .

وهكذا كان إمامنا أبو مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) ، فقد جاء بمناقب ومعاجز حيّرت العقول ، وأذهلت الألباب ، نذكر بعضها :

منها : ما عن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) وكان يكتُبُ كتاباً ، فحان وقت الصلاة الأولى ، فوضع الكتاب من يده ، وقام (عليه السّلام) إلى الصلاة ، فرأيت القلم يمرّ على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب حتى انتهى إلى آخره فخررت ساجداً .

فلمّا انصرف من الصلاة أخذ القلم ، وأذن للناس بالدخول(1) .

ومنها : ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن ابن الكردي عن مُحَمّد بن علي قال : ضاق بنا الأمر ، فقال لي أبي : امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل ، يعني أبا مُحَمّد ؛ فإنّه قد وُصِفَ عنه سماحتُهُ .

فقلت : تَعرِفه ؟

فقال : ما أَعرِفه ، ولا رأيتُه قطّ .

قال : فقصدناه ، فقال لي (أبي) وهو في طريقه : ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمئة درهم ، مئتا درهم للكسوة ، ومئة درهم للدين ، ومئة

ــــــــــــــــــ
1ـ عيون المعجزات / 123، عنه بحار الأنوار 50 / 304 ح80 .

للنفقة .

فقلت في نفسي : ليته أمر لي بثلاثمئة درهم ، مئة أشتري بها حماراً ، ومئة للنفقة ، ومئة للكسوة ، وأخرج إلى الجبل .

قال : فلمّا وافينا الباب خرج إلينا غلامُه ، فقال : يدخل علي بن إبراهيم ومُحَمَّد ابنه ، فلمّا دخلنا عليه وسلّمنا ، قال لأبي : (( يا علي ، ما خَلّفك عنّا إلى هذا الوقت ؟ )) .

فقال : يا سيدي ، استحييت أن ألقاك على هذه الحال .

فلمّا خرجنا من عنده جاءنا غلامُه فناول أبي صُرّة ، فقال : هذه خمسمئة درهم ؛ مئتان للكسوة ، ومئتان للدين ، ومئة للنفقة ، وأعطاني صُرَّة فقال : هذه ثلاثمئة درهم ، اجعل مئة في ثمن حمار ، ومئة للكسوة ، ومئة للنفقة ، ولا تخرج إلى الجبل ، وصُر إلى سوراء .

فصار إلى سوراء ، وتزوّج بامرأة ، فدخله اليوم ألف دينار ، ومع هذا يقول بالوقف .

فقال مُحَمّد بن إبراهيم : فقلت له : ويحك ! أتريد أمراً أبين من هذا ؟

قال : فقال : هذا أمر قد جرينا عليه(1) .

ولأجل المعاجز والمناقب ، ومكارم الأخلاق التي كان يحملها الإمام أبو مُحَمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) ، ولالتفاف الشيعة إليه ومعرفتهم بحقّه ومنزلته ؛ لأجل كلّ ذلك وغيره صار أعداء الله يتحيّنون الفرصة لتجريع الإمام (عليه السّلام) الغصّة .

قال في نور الأبصار : وكان المعتمد يؤذيه كثيراً حتى سقاه السّم ، ولمّا سُقِي السّم مرض مرضاً شديداً ، فبلغ ذلك المعتمد في مرضه ، قيل له :

ـــــــــــــــــ
1ـ الكافي 1 / 506 باب معاجز الإمام العسكري (عليه الّسلام) ح3 ، روضة الواعظين / 247 ، الإرشاد 2 / 326 ، مناقب آل أبي طالب 3 / 537 ، مدينة المعاجز 7 / 540 ـ 541 ح3 ، كشف الغمة 3 / 205 ـ 206 ، بحار الأنوار 50 / 278 ح52 ، وفي معجم البلدان 3 / 278 (سوراء) موضع يُقال هو إلى جنب بغداد ، وقيل : هو بغداد نفسها .

إنّ ابن الرضا قد اعتلّ ومرض ، فأمر الرجل نفراً من المتطبِّبين بالاختلاف إليه ، وتعاهده صباحاً ومساءً ، وبعث خمسة نفر كلّهم من ثقاته وخاصّته ، وأمرهم بلزوم دار أبي مُحَمّد العسكري (عليه السّلام) وتَعرُّف خبره وحاله .

فلمّا كان بعد ذلك بيومين جاء مَنْ أخبره بأنّ العسكري قد ضَعُف ، فركب المعتمد حتى بكّر إليه ، ثُمَّ أمر المتطبِّبين بلزومه ، وبعث إلى قاضي القضاة وعشرة من أصحابه ممّن يثق به ، وأرسلهم إلى الحسن العسكري (عليه السّلام) ، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى كانت الليلة التي قُبِض فيها ، فرأوه وقد اشتدّ به المرض ، يُغشَى عليه ساعة بعد ساعة ؛ فعَلِموا أنّه قد قَرُب به الموت ، فتفرّقوا عنه .

فلم يكن عنده في تلك الليلة إلاّ جاريته صيقل وعقيد الخادم ، وولده الحُجَّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وقد مضى من عُمُر الحُجَّة في ذلك الوقت خمس سنين ، وكتب الإمام بيده الشريفة في تلك الليلة كتباً كثيرة إلى المدينة .

قال عقيد : فدعا (عليه السّلام) بماءٍ قد أُغلي بالمصطكي(1) ، فجئنا به إليه ، فقال (عليه السّلام) : (( أبدأ بالصلاة ، فجيئوني بماء لأتوضّأ به )) .

فجئنا به وبسط في حجره المنديل ، وتوضّأ ثُمَّ صلّى صلاة الغَدَاة في فراشه ، وأخذ القَدَح ليشرب ، فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد ، فشرب منه جرعة، وأخذت صيقل القدح من

ــــــــــــــــــ
1ـ المصطكي : شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة ، ويستخرج منه صُمغ يعلك ، وهو دواء ، ويُسمّى العلك الرومي ، انظر المنجد / 764 ، مادة (مصط) .

الصفحة (221)

يده ، ثُمَّ أخذ ولدَهُ الحُجَّة وضمّه إلى صدره الشريف وجعل يقبّله ويودّعه ، ويبكي ويوصيه بوصاياه ، وسلّمه ودائع الإمامة ، ثُمَّ سكن أنينُه ، وعرق جبينُه ، وغمّض عينيه ، ومدّ يديه ورجليه ، ومضى من ساعته ، وهو يوم الجمعة مع صلاة الغداة(1) .

أين المنادي : أي وا سيداه ! أي وا إماماه !

أين المنادي : وا مسموماه !

 اعله العسكري المسلم تلتهب ناره     سـمّه المعتمد وامست تحن  داره
 امـست تحن والصايح عليه  گبّر      گلبه  من المصايب ذاب  واتفطّر
لـو هم البگلبه ابطود چان انطر     منّ  الأرض چان اندرست  اثاره

ثمّ قام إمامنا الحُجَّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فجهَّز أباه وصلّى عليه ، ولم تره العيون(2) ، ودُفِن (عليه السّلام) في الدار التي دُفِن فيها أبوه الإمام الهادي (عليه السّلام) .

وكأنّي بالشيعة والموالين يندبون صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــــــ
1ـ نور الأبصار ـ للمازندراني / 334 ـ 335 ، وانظر الكافي 1 / 505 ، كمال الدين وتمام النعمة / 473 ـ 474 ، الإرشاد 2 / 323 ـ 324 ، إعلام الورى 2 / 149 ، كشف الغمة 3 / 204 ، بحار الأنوار 50 / 328 و 331 ح3 .

الصفحة (222)

يـبو صـالح جزاك العتب  واللوم     تـظل صابر على اخذ الثار  لليوم
 يـا  هو المن هلك ما راح  مظلوم     يـو مـذبوح يـو مچتـول بالسّم
عـجب كل العجب منّك  يمحجوب     مـا  تنهض تجيم اعليها  الحروب
نسيت اللّي سبوها وگطعت ادروب     يـو  نـاسي الضلع لمّن تهشّم(1)

*****

 أدرك تراتِك أيُّها الموتور     فـلكم  بكلِّ يدٍ دمٌ  مهدورُ

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ،
وسيعلم الذين ظلموا آل مُحَمّد أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون
والعاقبة للمتقين .

ــــــــــــــــــ
1ـ مجمع المصائب 4 / 330 ـ 338 .

---------------------------------

مراجعة وضبط النص موقع معهد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) لإعداد الخطباء والمبلغين .