لا بدعةَ في ما فيه الدليل: نصّاً أو إطلاقاً
تعرّفنا على أن حقيقة البدع هي الافتراء على الله، والفِرية عليه: بإدخال شيء في دينه أو نقصه منه وتنسيبه إلى الله ورسوله. وإذا كان هذا هو المِلاك فالمورد الذي يتمتّع بالدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً.
والدليل على قسمين:
الأول: أن يكون هناك نصّ في القرآن والسنّة يشخّص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئيّاته: كالاحتفال بعيدَي الفطر والأضحى، والاجتماع في عَرَفة ومنى، فعندئذ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة، بل سُنّة إذ قد أمرت به الشريعة بالخصوص فيكون امتثالاً، لا ابتداعاً.
الثاني: أن يكون هناك دليل عامّ في المصدرين الرئيسين ( الكتاب والسنّة )، يشمل هذا الدليل بعمومه المصداقَ الحادث وإن كان الحادث يتّحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقةً وماهيّة، ويختلف معه شكلاً، ولكن الدليل العامّ يعمّ المصداقَين ويشمل الموردَين ويكون حجّة فيهما. وهذه ـ أيّها الأصدقاء ـ بعض الأمثلة:
1 ـ قال سبحانه: وإذا قُرِئ القُرآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف:204). الآية تبعث إلى استماع القرآن عند قراءته والإنصات له، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد، أو في البيت. ولكنّ الحضارة أحدثت مصداقاً آخر لم يكن به عهد في ظرف الرسالة، كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية، فالآية حجة في كلا الموردين وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني بحجّة أنّه لم يكن في ظرف الرسالة؛ وذلك لأنَّ العربيّ الصميم عندما يتدبّر في مفهوم الآية لا يرى فرقاً بين القراءتين، فلو قلنا حينئذ بوجوب الاستماع أو نَدبه فليس هذا قولاً بغير دليل أو بدعة في الدين.
2 ـ قال النبيّ الأكرم: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم (182). من الواضح أنّ العلوم، حتّى ما يمتّ منها إلى الشرع، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنّة: كعلم اللغة والصرف والنحو والبلاغة، بل والفقه المدوَّن عبر العصور. وذلك لأنّ الحديث بصدد تثبيت قاعدة كليّة.
فليس لمسلم وصف هذه العلوم بالبِدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الرسالة؛ لأنّ شأن الشارع الصادع إلقاءُ الأُصول وبيان القواعد والضوابط، لا بيان المصاديق، وبالأخص ما لم يكن في عصره.
3 ـ لا شك أنّ من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنّة النبوية من الضياع، لأنّ الإسلام ليس ديناً إقليميّاً، بل هو دينٌ عالميّ، وليس ديناً موقّتاً بل خاتماً. فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنّته حتّى ترجع إليها الأجيال اللاحقة.
وقد لحقَ النبيّ صلّى الله عليه وآله بالرفيق الأعلى، فرأى المسلمون أنّ من واجبهم حفظَ القرآن من الضياع، خصوصاً بعد ما لحقت بالمسلمين في الحروب خسارة كبيرة بشهادة مجموعة كبيرة من القرّاء، فصار الحكم الكليّ ( هو لزوم حفظ القرآن ) مبدأً لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، وكلّها أُمور دينية مستمدّة من الحكم الكلي، أي من لزوم حفظ القرآن والسنّة. فعمد المسلمون إلى كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كَلِمه وجُمله، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء.. وأخيراً طباعته ونشره، وتشجيع حفّاظه وقرّائه وتكريمهم في احتفالات خاصّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي تُعتبر كلّها دعماً لحفظ القرآن وتثبيته، وإن لم يفعل بعضَها رسولُ الله ولا أصحابه ولا التابعون، إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلة، وهو لزوم حفظه من الضياع والنسيان.
4 ـ إنّ من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفّار، وأخذ الحِيطة والحذر في كلّ ما يكون هناك احتمال للخطر عليهم، يقول سبحانه: وأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ ومِنْ رِباطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأنفال:60). ففي الآية نوعان من الدليل: خاصّ في مورد رباط الخيل، فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي، كما أنّه إذا قامت بالتسلّح بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع فقد جسّدت الآية وطبّقتها على مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّما حدثت بعده، فهذه الموارد كلّها أُمور شرعية غير عادية بشهادة أنّ الإنسان يقوم بها بنيّة امتثال ما ورد في الشرع. وليس للمتزمّت أن يرفضها بحجة أنّه ليس هنا دليل خاص عليها، وذلك لأنّ اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عامّاً أو خاصّاً، لا وجود دليل خاص فقط، فالدليل العام بعمومه حجّة في جميع الأجيال على جميع الناس في كل الموارد التي تُجسّد الضابطة الكلية.
5 ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ أفضلكم مَن تعلّم القرآن وعلّمه (183).
وغير خفيّ على النابه أنّ كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيراً عمّا في عصرنا، فكلا العمَلين يُعدّان تعليماً وتجسيداً لكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، يُقصَد به رضى الله سبحانه وتقرّبه، وليس للمتزمت رفض الأساليب الحادثة لتعلّم الكتاب والسنّة.
والحق أنّ هذا الموقف موضع زلّة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة، بحجّة عدم وجود دليل خاصّ عليه، فقد ضلّوا ولم يميّزوا بين الدليل الخاصّ والدليل العامّ. وخصّوا الدليل بالأوّل ( وهو الخاصّ ) مع أنّ الكتاب والسنّة مليئان بالضوابط والقوانين العامّة، وإليك بعض الأمثلة:
أ. قال سبحانه: لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلكافِرِينَ على المُؤمِنينَ سَبِيلاً (النساء:141 ) فالآية تنفي أيَّ سبيل للكافر على المؤمن، فمن المعلوم أنّ السبل مختلفة حسب تطوّر الحضارات وكثرة المواصلات وتطوّر العلاقات بين الناس، ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلّط الفرد الكافر على المسلم كأن يكون العبد المسلم رقّاً للكافر، أو بتمليك المصحف منه.. وما قاربهما. أمّا في عصرنا هذا؛ فحدّثْ عن السبُل ولا حرج، فأين هو من تدخل الكفّار في مصير المسلمين حكومةً وشعباً حتّى صار بعض رؤساء الحكومات الإسلاميّة أسرى بيد الاستكبار العالميّ!
ب. يقول سبحانه: وَتَعاونُوا على البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا على الإثْمِ العُدْوانِ (المائدة:2) فإنّ التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدوداً في إطار ضيّق، وأكثر ما كان يتحقّق هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معيّنة على أن يتعاونوا فيما بينهم. وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا: كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم على ضرب وجود إسلامي أصيل خوفاً على كراسيهم ومناصبهم!
ولو أنّ المتزمّتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربّما خمدت ثورتهم ضد المسلمين الذين يقومون بأعمال الخير امتثالاً لحكم الدِّين، بحجة أنّها مُدعَمة من الشرع بدليل عامّ، لا خاصّ.
ج. كان في التاريخ الإسلاميّ أُناسٌ يفهمون ـ بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم ـ أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أُسوةٌ لما لم يَردِ، فللمسلم أن يدعوَ ربّه بأوصاف جميلة وإن لم تَرد بحرفيتها في الكتاب أو السنّة.
فمثلاً يروي الطبرانيّ: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ على أعرابيّ وهو يدعو في صلاته ويقول: « يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدوائر. يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قَطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلَمَ عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا تُواري سماءٌ منه سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره. إجعَلْ خير عمري آخرَه، وخيرَ عملي خواتمَه، وخير أيّامي يوم ألقاك ».
فوكّل رسول الله بالأعرابيّ رجلاً وقال: إذا صلّى فأْتني به. وكان قد أُهدِي بعض الذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا جاء الأعرابيّ وهب له الذهب وقال له: تدري لمَ وهبتُ لك ؟ قال الأعرابي: للرَّحِم التي بيني وبينك. قال الرسول الكريم: إنّ للرحم حقّاً، ولكن وهبتُ لك الذهب لحُسن ثنائك على الله (184).
فأين هذا الكلام ممّا رُوي عن الشاذليّ أنّه كان يقول: « مَن دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدِع » (185)؟!
----------------
182 ـ مجمع الزوائد، للهيثميّ 19:1.
183 ـ صحيح البخاريّ 158:2. ولاحظ سنن الترمذيّ الرقم 3071 وغيرهما.
184 ـ تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، لمحمّد الغزاليّ 102.
185 ـ روح البيان، لإسماعيل حقّي البروسويّ 385:9.