البدعة 5
  • عنوان المقال: البدعة 5
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 3:42:6 4-9-1403

دَور أهل البيت عليهم السّلام في محاربة البِدع

يطول بنا المقام إذا حاولنا استقصاء دَور أئمّة أهل البيت عليهم السّلام في مواجهة البِدع ومحدثات الأُمور والضلالات التي نشأت منذ أول يوم ارتحل فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الملأ الأعلى، فقد كانوا ـ خلال مختلف الأدوار التي مرّت بها الأُمّة ـ المَلاذَ والمنهل الذي يجد عنده الصادي الرواء، والمتعطش للعلم والمعرفة ما يروي به حبّه للعلم من مصادره الأصيلة الحيّة المتصلة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
إنّ في حياة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ومواقفه قبل خلافته وتسلّمه العملي للسلطة، وفي حياة ابنه الإمام الحسن عليه السّلام والإمام الحسين عليه السّلام وبقية الأئمّة الطاهرين.. آياتٍ باهرات من المواقف التي بقيت خالدة على مَرّ التاريخ. لكننا مع ذلك نكتفي هنا بإيراد مجموعة من النصوص الواردة عنهم عليهم السّلام، والتي عالجت أو تصدّت لبدعةٍ محدَثة من الأُمور ليست من الدين في شيء، وسوف نوزع تلك النصوص الشريفة على موضوعاتها المتعلقة بها؛ تيسيراً للتناول.

 

أولاً: الجبر والتفويض

من المقولات المُحدَثة في هذه الأُمّة مقولة الجبر التي روّج لها الأمويون لتثبيت سلطانهم، وتبنّتها طائفة من المسلمين، ممّا دعا إلى ظهور مقولة مضادة تقف في الطرف الآخر منها، وهي مقولة التفويض المطلق التي قال بها المعتزلة. وطال النزاع الكلاميّ بين أصحاب المقولتين، فكان لكلٍّ منهما أتباع يروّجون لها، فكانتا سبباً في اضطراب عقيديّ كبير وفتن واسعة، فتصدى أئمّة أهل البيت عليهم السّلام للمقولتين معاً في دور طويل من الكفاح في دفع الشبهات، وهداية الناس إلى المحجّة البيضاء والصراط المستقيم، ومن كلماتهم عليهم السّلام في هاتَين المقولتين:
1 ـ عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام قالا: « إنّ الله عزَّوجلّ أرحمُ بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ مِن أن يريد أمراً فلا يكون. قال: فسُئلا عليهما السّلام: هل بين الجبر والقدَر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض » (122).
2 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام قال: « الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يُطيقونه، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد » (123).
3 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام أنّه قال: « إنّ الناس في القدَر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أنَّ الله عزّوجلّ أجبرَ الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللهَ في حكمه فهو كافر. ورجل يزعم أنَّ الأمر مفوَّض إليهم، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر. ورجل يزعم أنَّ الله كلّف العباد ما يُطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمِد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ.. » (124).
4 ـ عن محمد بن عجلان قال: قلتُ لأبي عبدالله عليه السّلام: فوَّض اللهُ الأمر إلى العباد ؟ فقال: الله أكرم من أن يفوّض إليهم، قلتُ: فأجبرَ اللهُ العباد على أفعالهم ؟ فقال: اللهُ أعدل من أن يُجبر عبداً على فعلٍ ثمّ يعذّبه عليه (125).
5 ـ عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، وقد ذُكر عنده الجبر والتفويض، فقال عليه السلام: «ألا أُعطيكم في هذا أصلاٌ لا تختلفون فيه، ولا تُخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه ؟ قلنا: إنْ رأيت ذلك، فقال عليه السّلام: إنّ الله عزَّوجلّ لم يُطَع بإكراه، ولم يُعصَ بغلَبة، ولم يُهمِل العبادَ في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه. فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه. ثمّ قال عليه السّلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خَصَم مَن خالفه» (126).

 

ثانياً: القياس والرأي

من المقولات الحادثة ما اعتُمد أصلاً في فهم الشريعة واستنباط الأحكام الشرعية، كالقياس والرأي.. ما هو موقف أهل البيت عليهم السّلام من هذا الأمر ؟
1 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام قال: «إنّ أصحاب المقائيس طلبوا العلم بالمقائيس، فلم تزدهم المقائيس من الحقّ إلاّ بُعداً، وإنَّ دين الله لا يُصاب بالمقائيس» (127).
2 ـ وعن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال: « إنَّ السُنّة لا تُقاس، وكيف تُقاس السُنّة والحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ؟! » (128).
3 ـ عن سعيد الأعرج قال: قلتُ لأبي عبدالله عليه السّلام: إنَّ مَن عندنا من يتفقّه يقولون: يرِد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السُنّة، نقول فيه برأينا ؟ فقال أبو عبدالله عليه السّلام: «كذبوا، ليس شيء إلاّ وقد جاءَ في الكتاب وجاءت فيه السُنّة» (129).
4 ـ عن عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام عن القياس، فقال: « ما لكم والقياس ؟! إنَّ الله لا يُسأل كيف أحلَّ وكيف حرّم » (130).
5 ـ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال: « مَن نصب نفسه للقياس لم يزل دهرَه في التباس، ومن دان اللهَ بالرأي لم يزل دهره في ارتماس » (131).
6 ـ وعن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال: « من أفتى الناس برأيه، فقد دانَ اللهَ بما لا يعلم، ومنْ دانَ اللهَ بما لا يعلم، فقد ضادَّ الله حيثُ أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم» (132).

 

ثالثاً: التشبيه والتجسيم

من أخطر ما وقعت فيه بعض طوائف المسلمين، عقيدتا: التشبيه والتجسيم، الصادرتان عن قصور في الفهم وجمود في الفكر، فنُسبت إلى الله تعالى صفات الأجسام المحدودة والأحياء المخلوقة، فكان لأئمّة أهل البيت عليهم السّلام دورهم المناسب في كشف خطأ هاتين المقولتين، وإرشاد المسلمين إلى الفهم الصحيح المنسجم مع عظمة الله تعالى وقدسيته:
1 ـ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام أنّه قال في صفته سبحانه وتعالى: «... ومن قال: أين ؟ فقد أخلى منه، ومن قال: إلى مَ ؟ فقد وقَّته » (133).
2 ـ وعن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام أنّه قال في وصفه جلّ شأنه: « مَن شبّه الله بخَلْقه فهو مشرك، ومن وصفه بالمكان فهو كافر.. » (134).
3 ـ جاء يهوديّ إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، متّى كان ربُّنا ؟ فقال له عليه السّلام: « إنما يُقال: متى كان ؟ لشيء لم يكن فكان، وربُّنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونةِ كائنٍ، كان بلا كيف يكون، كائن لم يزل بلا لم يزل، وبلا كيف يكون، كان لم يزل ليس له قبل، هو قَبل القَبل بلا قبل وبلا غايةٍ ولا منتهى، غايةٌ ولا غاية إليها، غايةٌ انقطعت الغايات عنه، فهو غاية كلِّ غاية » (135).
4 ـ روي عن العباسي أنّه قال لأبي الحسن عليه السّلام: جعلتُ فداك، أمرَني بعض مُواليك أن أسألك عن مسألةٍ، قال عليه السّلام: ومن هو ؟ قلتُ: الحسن بن سهل، قال عليه السّلام: في أي شيءٍ المسألة ؟ قلتُ: في التوحيد، قال عليه السّلام: وأيُّ شيءٍ من التوحيد ؟ قلتُ: يسألك عن الله جسمٌ أو لا جسم، فقال لي عليه السّلام: « إنَّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: مذهب إثبات بتشبيه، ومذهب النفي، ومذهب إثبات بلا تشبيه. فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز، ومذهب النفي لا يجوز، والطريق في المذهب الثالث إثباتٌ بلا تشبيه » (136).
5 ـ ورُوي عن عليّ بن محمّد وعن أبي جعفر الجواد عليهما السّلام أنّهما قالا: « مَن قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة، ولا تصلّوا وراءه » (137).

 

تأويل ظواهر الآيات والأحاديث الدالة على التشبيه والتجسيم

1 ـ الوجه:
عن أبي حمزة قال: قلتُ لأبي جعفر عليه السّلام: قول الله عزَّوجلّ: كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ ؟ فقال عليه السّلام: « فيهلك كلّ شيء ويبقى الوجه ؟ إنَّ الله عزَّوجلَّ أعظم من أنْ يوصف بالوجه، ولكن معناه: كلّ شيء هالك إلاّ دينَه، والوجه الذي يُؤتى منه » (138).
2ـ اليدان:
عن محمّد بن مسلم قال: سألتُ أبا جعفر عليه السّلام فقلتُ: قوله عزَّوجلَّ: يَا إبلِيسُ مَا مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيّ (139)، فقال عليه السّلام: « اليدُ في كلام العرب: القوةُ والنعمة، قال: واذكُرْ عَبْدَنَا دَاوودَ ذَا الأيْدِ (140)، وقال: والسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأيدٍ (141) أي بقوة، وقال: وَأيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنه (142) أي: قوّة، ويُقال: لفلان عندي أيادي كثيرة، أي فواضل وإحسان، وله عندي يد بيضاء، أي: نعمة » (143).
وعن محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا عليه السّلام عن قول الله عزَّوجلَّ لإبلس: ما مَنَعَكَ أنْ تَسجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيّ ، فقال عليه السّلام: « يعني بقدرتي وقوتي » (144).
وعن سليمان بن مهران قال: سألتُ أبا عبدالله عليه السّلام عن قوله عزَّوجلَّ: والأرضُ جَمِيعاً قَبضَتُهُ يَومَ القِيَامَةِ (145)، فقال عليه السّلام: يعني مُلكه، لا يملكها معه أحد. والقبضُ من الله تبارك وتعالى في موضع آخر: المنع، والبسط منه: الإعطاء والتوسيع، كما قال عزَّوجلّ: واللهُ يَقْبِضُ وَيَبسُطُ وإليهِ تُرْجَعُونَ (146)، يعني: يعطي ويوسّع، ويمنع ويضيّق. والقبض منه عزَّوجلَّ في وجه آخر: الأخذُ، والأخذُ في وجهٍ: القبول منه كما قال: ويَأخُذُ الصَّدَقَاتِ (147)، أي: يقبلها من أهلها ويثيب عليها. قال: قلتُ: فقوله عزَّوجلَّ: والسَّماواتُ مَطويَّاتٌ بِيَمينِهِ ؟ فقال عليه السّلام: اليمين اليد، واليد القدرة والقوة، يقول الله عزَّوجلَّ: والسماوات مطويّات بقدرته وبقوته، سبحانه وتعالى عما يُشركون (148).
3 ـ الاستواء
عن عبدالرحمن الحجّاج، قال: سألتُ أبا عبدالله عليه السّلام عن قول الله تعالى: الرَّحَمنُ عَلَى العَرشِ استَوَى ، فقال عليه السّلام: «استوى في كلِّ شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد، ولم يقرب منه قريب، استوى في كلِّ شيء...» (149).
4 ـ الغضب والرضا
من الحوار الذي دار بين أبي قرّة المحدّث صاحب شبرمة وبين الإمام الرضا عليه السّلام. قال أبو قرّة للإمام عليه السّلام:.. أفتكذّب بالرواية: (إنَّ الله إذا غضب إنَّما يعرف غضبَه الملائكةُ الذين يحملون العرش، يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرّون سُجّداً، فإذا ذهب الغضب خفَّ فرجعوا إلى مواقفهم) ؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: أخبرْني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا وإلى يوم القيامة، غضبان هو على إبليس وأوليائه أو راضٍ عنهم ؟ فقال: نعم هو غضبان. قال عليه السّلام: فمتى رضي فخفَّ، وهو في صفتك لم يزل غضباناً عليه وعلى أتباعه ؟
ثمّ قال عليه السّلام: ويحك! كيف تجترئ أن تصفَ ربَّك بالتغيّر من حالٍ إلى حال أنّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟! سبحانه لم يزل مع الزائلين، ولم يتغيّر مع المتغيّرين. قال صفوان: فتحيّر أبو قرّة ولم يحر جواباً حتّى قام وخرج (150).
رابعاً: نفي الرؤية
والقول برؤية الله تعالى يوم القيامة هو واحد من نماذج القصور في الفهم التي وقع فيها أصحاب التشبيه وغيرهم، فلننظر إلى دور أهل البيت عليهم السّلام في تصحيح الاعتقاد في هذه الناحية أيضاً:
1 ـ عن عبدالله بن سنان عن أبيه قال: حضرتُ أبا جعفر عليه السّلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر، أيَّ شيء تعبد ؟ قال عليه السّلام: الله، قال: رأيته ؟ قال عليه السّلام: لَم تَرَه العيون بمشاهدة العَيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرَك بالحواسّ، ولا يُشبه الناس. موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو. قال: فخرج الرجل وهو يقول: اللهُ أعلم حيثُ يجعل رسالته (151).
2 ـ عن أحمد بن إسحاق، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السّلام أسأله عن الرؤية وما فيه الناس، فكتب عليه السّلام: لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ يَنفذهُ البصر، فإذا انقطع الهواء وعُدِم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه؛ لأنَّ الرائي متى ساوى المرئيَّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه، وكان في ذلك التشبيه؛ لأنَّ الأسباب لابدَّ من اتّصالها بالمسبِّبات (152).
3 ـ وروي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في تفسير قول الله عزَّوجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (153)، قال: « يعني مُشرقة تنتظر ثواب ربها » (154).
4 ـ عن أبي هاشم الجعفريّ قال: سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الله عزَوجلّ هل يوصف ؟ فقال عليه السّلام: ... أما تقرأ قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ؟! (155) قلتُ: بلى، قال عليه السّلام: فتعرفون الأبصار ؟ قلتُ: بلى، قال عليه السّلام: وما هي ؟ قلتُ: أبصار العيون، فقال عليه السّلام: «إنّ أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون، فهو لا تُدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام» (156).
خامساً: التصوّف والرهبنة
1 ـ دخل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام على العلاء بن زياد الحارثيّ يعوده، فلما رأى سعة داره قال عليه السّلام: « ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟! وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتَصل فيها الرَّحِم، وتُطلع منها الحقوقَ مَطالعَها، فإذا أنت قد بلغتَ بها الآخرة.
فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصمَ بن زياد، قال عليه السّلام: وما له ؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال: علَيَّ به. فلما جاء قال عليه السّلام ـ يا عُدَيَّ نفسِه! لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلَّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها! أنت أهوَن على الله من ذلك.
قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ؟ قال عليه السّلام: ويحك، إنّي لستُ كأنت، إنّ الله تعالى فرضَ على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعَفةِ الناس، كي لا يتبيّغَ بالفقير فَقْرُه » (157).
2 ـ عن عليّ بن جعفر قال: سألتُ أخي موسى عليه السّلام عن الرجل المسلم، هل يصلح له أن يسيح في الأرض أو يترهّب في بيت لا يخرج منه ؟ قال عليه السّلام «لا» (158).
سادساً: مواجهة حركة الغلاة
لقد واجه أهل البيت عليهم السّلام الغلاة وحاربوهم وأفسدوا ادّعاءاتهم الباطلة بعدّة أساليب، منها:
الأول: البراءة منهم ولعنهم. فحين أظهر أبو الجارود بدعته تبرّأ منه الإمام الباقر عليه السّلام وسمّاه باسم الشيطان سرحوب، مبالغةً في التنفير منه (159).
ولعنه الإمام الصادق عليه السّلام ولعن معه كُثَير النوّاء وسالمَ بن أبي حفصة، فقال عليه السّلام: « كذّابون مكذِّبون كفّار، عليهم لعنة الله » (160).
وهكذا لعنوا المُغيرة بن سعيد وأبا الخطاب وبياناً وغيرهم، ولمّا وقفوا على بدعة ابن كيّال تبرّأوا منه ولعنوه (161).
الثاني: التحذير منهم وكشف أكاذيبهم. كلّما ظهر رجل مغالٍ أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه، ثمّ أمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته (162)، ثمّ نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غيرهم إلى أنّ هؤلاء كذّابون يفترون على أهل البيت عليهم السّلام الأباطيل وينسبون إليهم ما لم يقولوا به:
قال الإمام الصادق عليه السّلام: « كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي، ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذلك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم » (163).
ومن جانب آخر يبيّن الإمام الصادق عليه السّلام لشيعته الطريقَ الأمثل لتشخيص أقوال المُغالين من خلال عرض ما يأتيهم من أحاديث منسوبة لأهل البيت عليهم السّلام على الكتاب والسُنّة، ومقارنتها بأحاديثهم المتقدمة، فيقول عليه السّلام: ـ « لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآنَ والسُنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديثَ لم يحدّث بها أبي. فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قولَ ربّنا تعالى وسُنّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنا إذا حدّثنا قلنا: قال الله عزَّوجلَّ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم » (164).
فكان أصحابهم من ذوي البصيرة وذوي التحقيق يدقّقون النظر في كتب الحديث، فربّما تحسّسوا الدخيل فيها، وربما عرضوها على الأئمّة أنفسهم فأثبتوا الصحيح منها وأسقطوا الدخيل.
يقول يونس بن عبدالرحمن: وافَيتُ العراقَ فوجدتُ بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السّلام ووجدت أصحاب أبي عبدالله عليه السّلام متوافرين، فسمعت منهم، وأخذت كتبهم فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه السّلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبدالله عليه السّلام، وقال لي: « إن أبا الخطّاب (165) كذّب على أبي عبدالله عليه السّلام، لعن الله أبا الخطّاب. وكذلك أصحاب أبي الخطّاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله عليه السّلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السُّنّة، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا، وكلام أوّلنا مصدّق كلامَ آخرنا. فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإنّ مع كلٍّ منّا حقيقة وعليه نوراً، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان » (166).
وكان ذوو الذوق السليم والإيمان الصحيح يتحسّسون ذلك أيضاً، جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقر عليه السّلام فأنشده:

أبا جعفر أنت الولـيّ أحـبّهُ   وأرضى بما ترضى به وأتابعُ
أتتنا رجـالٌ يحمـلون عليـكمُ   أحاديثَ قد ضاقت بهنَّ الأضالعُ
أحاديث أفشـاها المُغيـرةُ فيـهـمُ   وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (167)

   

الثالث: الردّ على مقالاتهم الباطلة. لقد كان أولئك الغلاة يكذبون على أهل البيت عليهم السّلام وكانوا يتحاشون ذلك، فلما أراد ابن أبي العوجاء الزنديق أن يناظر الإمام الصادق عليه السّلام حذّره ابن المقفع وقال له: لا تفعل؛ فإنّي أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك (168).
وكان أهل البيت عليهم السّلام إذا بلَغَتْهم المقالة الفاسدة من الغلاة فيهم خاصة ردّوها جهرة وأثبتوا للناس الحقَّ الذي في خلافها.
ادّعى كثير من الغلاة تأليهَ الأئمّة عليهم السّلام، أو حلول الروح الإلهيّة فيهم، فكان مِن ردّهم على هذه الدعوى قول الإمام الصادق عليه السّلام: « لعنَ الله مَن أزالنا عن العبودية لله الذي خلقَنا وإليه مآبنا ومَعادنا وبيده نواصينا » (169).
وردّ الإمام الصادق عليه السّلام دعوى أُولئك الذين قالوا: إنّ الله خلق الأئمّةَ ثمّ جعل بأيديهم الخَلَق والرزق، إذ جاء نفر من أصحابه عليه السّلام فقالوا له: زعم أبو هارون المكفوف أنّك قلت له: إن كنت تريد القديم فذاك لا يدركه أحد، وإن كنت تريد الذي خَلَق ورزق فذاك محمّد بن علي! ( يعني الباقر عليه السّلام ).
فقال الإمام الصادق عليه السّلام: « كذب علَيَّ، عليه لعنة الله، واللهِ ما من خالقٍ إلاّ الله وحده لا شريك له، حقّ على الله أن يذيقنا الموت، والذي لا يهلك هو الله خالق وبارئ البريّة » (170).
إلى عشرات من المواقف العمليّة الحازمة في مجابهة البِدع والضلالات في مسائل عديدة ومتنوّعة، في مجالات الشريعة والمعارف المختلفة (171).. واجهوها بصرامةٍ وصراحة، بالقول والفعل، والتحذير والتنبيه، والإشارة الواضحة والتشخيص، بما لا يبقى عذر لمعتذر.
ولقد صدق رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: إنّ للهِ عند كلّ بدعةٍ تكون بعدي يُكاد بها الإيمانُ.. وليّاً مِن أهل بيتي موكَّلاً به يذبّ عنه، ينطق بإلهامٍ من الله، ويُعلن الحقَّ وينوّره، ويردّ كيد الكائدين، ويعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أُولي الأبصار وتوكّلوا على الله (172).
• وهنا يحسن أن نذكر جملةً من الأحاديث العامّة في شأن البدع ومذموميّتها والتحذير منها ومن أصحابها:
• عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: اتَّبِعُوا، ولا تبتدِعوا.. فقد كُفِيتُم (173).
• وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام رُوي أنّه قال: ما أُحدِثت بدعةٌ إلاّ تُرك بها سُنّة. فاتّقوا البِدع، والزموا المَهْيع ( أي الطريق الواضح ). إنّ عوازم الأمور أفضلها، وإنّ محدَثاتها شِرارها (174).
• وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: مَن تبسّم في وجه مبتدِع فقد أعان على هدم دِينه (175).
• وفي المقابل روي عنه صلّى الله عليه وآله قوله: مَن أعرض عن صاحب بدعة؛ بُغضاً له، ملأ الله قلبه يقيناً ورضى (176).
• وعنه أيضاً أنّه صلّى الله عليه وآله قال: مَن أتى ذا بِدعةٍ فوقّره، فقد سعى في هدم الإسلام (177).
• وجاء عنه صلّى الله عليه وآله ـ كما روى الإمام الصادق عليه السّلام عنه ـ قوله: إذا رأيتم أهل الرِّيَب والبِدع من بعدي فأظهِروا البراءةَ منهم... كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرَهم الناس ولا يتعلّمون مِن بدعهم.. يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة (178).
• ونُقل أنّه صلّى الله عليه وآله قال: لا يُقبَل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبَل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبَل قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السُّنّة (179).
• وقال صلّى الله عليه وآله: أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة.. فقيل: يا رسول الله، وكيف ذلك ؟ قال: أمّا صاحب البدعة فقد أُشرِب قلبُه حبَّها (180).
• وعنه صلّى الله عليه وآله روي قوله: إذا ظهرت البدع في أُمّتي، فليُظهر العالم علمه، وإلاّ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (181).

-----------------

122 ـ التوحيد، للصدوق: 360 حديث 3 ـ الباب 59.
123 ـ التوحيد 360 حديث 3 ـ الباب 59.
124 ـ التوحيد 360 ـ 361 حديث 5 ـ الباب 59.
125 ـ التوحيد 361 حديث 6 ـ الباب 59.
126 ـ التوحيد 361 حديث 7 ـ الباب 59.
127 ـ أصول الكافي 56:1 حديث 7 ـ باب البدع والرأي والمقائيس.
128 ـ المحاسن، لابي جعفر البرقي 338:1 حديث 95.
129 ـ بحار الأنوار 304:2 حديث 47 ـ الباب 34.
130 ـ أصول الكافي 57:1 حديث 16 ـ باب البدع والرأي والمقائيس.
131 ـ أصول الكافي 57:1 ـ 58 حديث 17 ـ باب البدع والرأي والمقائيس.
132 ـ أصول الكافي 58:1 حديث 17 ـ باب البدع والرأي والمقائيس.
133 ـ التوحيد 57 حديث 14 ـ الباب 2.
134 ـ التوحيد 69 حديث 25 ـ الباب 2.
135 ـ التوحيد 77 حديث 33 ـ الباب 2.
136 ـ التوحيد 100 ـ 101 حديث 10 ـ الباب 6.
137 ـ التوحيد 101 حديث 11 ـ الباب 6.
138 ـ التوحيد 149 حديث 1 ـ الباب 12.
139 ـ سورة ص 75:38.
140 ـ سورة ص 17:38.
141 ـ الذاريات 47:51.
142 ـ المجادلة 22:58.
143 ـ التوحيد 153 حديث 1 ـ الباب 13.
144 ـ التوحيد 153 ـ 154 حديث 2 ـ الباب 13.
145 ـ الزمر 67:39.
146 ـ البقرة 245:2.
147 ـ التوبة 104:9.
148 ـ التوحيد 161 ـ 162 حديث 2 ـ الباب 17.
149 ـ أصول الكافي 128:1 حديث 8 ـ باب الحركة والانتقال.
150 ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسيّ 379:2.
151 ـ التوحيد 108 حديث 5 ـ الباب 8.
152 ـ التوحيد 109 حديث 7 ـ الباب 8.
153 ـ القيامة 22:75 ـ 23.
154 ـ التوحيد 116 حديث 19 ـ الباب 8.
155 ـ الأنعام 103:6.
156 ـ التوحيد 112 ـ 113 حديث 1 ـ الباب 8.
157 ـ نهج البلاغة: الخطبة 209.
158 ـ مسائل علي بن جعفر 116/50.
159 ـ رجال الكشي 495:2/ الرقم 413.
160 ـ رجال الكشي 496:2/ الرقم 416.
161 ـ الملل والنحل، للشهرستاني 161:1. وهو أحمد بن كيّال، وأصحابه الكيّالية، من فِرق الغلاة.
162 ـ الملل والنحل 161:1. رجال الكشي 493:2 / الرقم 405.
163 ـ رجال الكشي 491:2/ الرقم 402.
164 ـ رجال الكشي 489:2/ الرقم 401.
165 ـ اختلفوا في اسمه واشتهر بكنيته.. قال بعضهم: اسمه محمّد، وآخرون قالوا: اسمه زيد. وهو من الموالي ومن زعماء الغلاة في عصر الإمام الصادق عليه السّلام.
166 ـ رجال الكشي 489:2 ـ 491/ الرقم 401.
167 ـ عيون الأخبار، لابن قتيبة 151:2 ـ كتبا العلم والبيان.
168 ـ الكافي 74:1 حديث 2 ـ كتاب التوحيد.
169 ـ رجال الكشي 489:2/ الرقم 400.
170 ـ رجال الكشيّ 488:2/ الرقم 398.
171 ـ لا بأس في هذا المجال بمراجعة: كتاب البدعة ـ مفهومها، حدودها، وآثارها مواردها، للشيخ جعفر السبحانيّ. وكتاب البدعة ـ دراسة موضوعيّة لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت عليهم السّلام، للشيخ الدكتور جعفر الباقريّ.
172 ـ المحاسن، للبرقيّ 329:1 ـ باب البدع حديث 669.
173 ـ كنز العمّال / خ 1112.
174 ـ شرح نهج البلاغة 93:9.
175 ـ مناقب آل أبي طالب 375:3.
176 ـ تنبيه الخواطر، لوّرام 357.
177 ـ من لا يحضره الفقيه 375:3.
178 ـ الكافي 375:2 حديث 2.
179 ـ بحار الأنوار 261:2.
180 ـ نوادر الراونديّ 18.
181 ـ بحار الأنوار 234:57.