تجديد الخطاب الديني بين مطرقة الأتباع وسندان الخصوم
محسن العواجي
ليس غريبا أن يصبح الخطاب الديني مادة أساسية في الحوارات الثقافية والإعلامية إذ يستحيل تهميشه في الوقت الراهن، ليس في العالم الإسلامي فحسب بل على المستوى العالمي أيضا. فالأزمة بين فحوى الخطاب الديني والتطلعات التنموية البشرية على ضوئه لم تكن وليدة المرحلة، ولا مقصورة على الدين الإسلامي، في الوقت الذي عانت فيه المسيحية من سلبية رجال الدين في القرون الوسطى وإغراق أوروبا بأكملها بضعة قرون في ظلام منقطع النظير بسبب فقدان خطاب القساوسة لمعطيات عمارة الأرض التي هي أمل كل إنسان سوي.
وقد ساد اعتقاد الشعوب الأوروبية بأن النهضة الحديثة رأت النور عندما تخلصت من ربقة الدين وأحلت العلمانية محله، وبالتالي أشرقت شمس الغرب رائدا للنهضة العالمية، وانحصر دور الدين في زوايا المعابد الضيقة لمن وجد فسحة من عمله فقط وقليل ما هم.
أما على الصعيد الإسلامي فالخلل موجود وإن كان أقل مما حدث مع المسيحية، الأمر الذي شكل عبئا تنمويا يضاف إلى العقبات السياسية والاجتماعية التي تواجه دعاة التغيير والإصلاح في الشارع الإسلامي.
القصور في الخطاب الديني لا يعني قصورا في الدين، فهناك فرق بين الدين كوحي رباني يشكل نظرية حياة متكاملة خالدة وبين إخفاق المسلمين في ترجمة هذه النظرية إلى واقع حضاري.
بيد أنه لابد من الاعتراف بأن الخطاب الديني قد ترنح أمام تحديات اجتماعية سياسية كبرى توالت عليه منذ أواسط الخلافة الراشدة عندما اختلطت الثقافات الفارسية والرومية بعد الفتوحات الإسلامية، ودخلت على المجتمع العربي أنماط حياة وفكر لم تكن معهودة في عصر النبوة المؤيد بالوحي مباشرة، ولا في عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ظهرت في أواخر عهده على الساحة تحديات اقتضت منه مرونة فورية وشجاعة خاصة في التعامل مع النص المحكم باتخاذ الموقف على ضوء مرونة وسعة الدين وخاصيته التي تؤهله دينا عالميا إلى الأبد.
وهناك حادثة وقعت في عصر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتجرأ على مثلها غيره، وذلك عندما علق حد السرقة المنصوص عليه في القرآن في عام الرمادة (المجاعة العامة)، وهي اليوم خطوة بمثابة تعطيل مادة أساسية في الدستور، ولو فعل أحد عشر هذه الخطوة اليوم لما سلم من سهام قومه وقد يخرج من الملة كلها.
بينما نجد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه راح ضحية عدم حزمه مع خصوم الأمة أي عدم تقديمه لخطاب مرحلة متجدد، وكذا الحال مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه رغم كفاءته التي جاءت بعد فوات الأوان.
ومنذ ذلك الحين والهوة بين النظرية والممارسة في الخطاب الديني تزداد حتى بلغت أوجها في نهاية العصر العباسي، عندما انقسم قادة المجتمع إلى ثلاث فئات، أولها فئة المترفين الباذخين من الخلفاء وندمائهم، تليها فئة المنعزلين المنغلقين على أنفسهم متمسكين بالنص بعيدا عن صخب الحياة، ثم فئة الصوفيين الذين وجدوا في الروحانيات والخيال والخرافة والرهبانية ما يروي وهمهم بشيء من الحق.
إننا نسمع اليوم عن المذاهب الأربعة مثلا ونتساءل عن سبب نشوئها في أقل من قرن وبقائها أربعة فقط، وكيف أصبحت منطلقا لكل خلاف وعراك فقهي أو مذهبي فيما بعد.
غير أن اللافت للنظر هو تناسب انتشار كل مذهب مع مرونته ومنهجية مدرسته، فنجد مثلا المذهب الحنفي (مدرسة الرأي) انتشر انتشارا واسعا في العالم الإسلامي، بينما بقي المذهب الحنبلي (أهل الحديث) في أقل مساحة مذهبية منغلقا على نفسه منزويا في زوايا ساحة الفكر والمعتقد.
إن قصور الخطاب الديني اليوم يرجع إلى خلل حاد في المفاهيم والمصطلحات الناشئة وانضواء الكثير من منابر الخطاب الديني تحت اللواء الرسمي في الدول الإسلامية طوعا أو كرها، الأمر الذي قلل من قبوله الشعبي.
وليس بخفي أن المؤسسات الدينية الكبرى في الخليج ومصر والشام لم تنتقل بعد من سطوة القرار السياسي البرغماتي البحت، فهي بالكاد تتعايش معه وفق اجتهاد مرجوح لا يفي بالحد الأدنى من تطلعات الشارع الإسلامي الذي وجد نفسه ميالا أكثر مع كل عالم أو مفكر يخرج عن المألوف ويطرح طرحا يلامس احتياجات الناس ويواسي آلامهم.
ولعل نظرة خاطفة على بروز وأفول الرموز الدينية في العالم الإسلامي خير برهان على ذلك حيث تطغى شعبية رموز عاملين بعلم زهيد على أولئك العالمين بعمل زهيد.
فالشارع الإسلامي اليوم يعرف الدكتور عباس مدني (علم اجتماع) كزعيم سياسي إصلاحي جزائري أكثر من معرفة رفيق دربه العالم السلفي الشيخ علي بلحاج، ويعرف أحمد ياسين (لغة إنجليزية) وراشد الغنوشي (فلسفة وفكر) وحسن الترابي (فلسفة وفكر) وعبد المجيد الزنداني (طبيب) أكثر من معرفته بعالم الحديث ناصر الدين الألباني أو إمام أهل السنة عبد العزيز بن باز أو فقيه العصر محمد بن عثيمين أو ثلة من علماء الأزهر التقليدين أو حتى شيخ الأزهر وهكذا.
إن إفلاس القيادتين الدينية والسياسية دفع الأمة إلى البحث عن بديل مناسب، فوجدوا الخط الثاني من العلماء (المارقين) على نهج الحرس القديم بخطابهم المعتدل والتعايشي تؤازرهم فئة التكنوقراط، خيارا يجمع بين الحد الأدنى من النص الديني دون الإغراق في تفاصيل فروعه وبمتطلبات الدولة العصرية التي أغفلها الخطاب الديني التقليدي لعدة قرون.
ومن هنا يتضح سبب خروج المستبدين عن طورهم عندما يتلاحم التكنوقراط مع الجيل الثاني من علماء الصحوة مكونين جبهة ائتلاف راسخة في وجه الاستبداد واحتكار السلطة باسم الدين خاصة، علما بأن عوار الخطاب الديني لا ينكشف في مسائل العبادة والتنسك بل أمام تحديات كبرى كحقوق الأقليات والديمقراطية والمال العام، حيث يجد الخطاب الديني المتنور مكانا يستطيع من خلاله التعامل الفوري مع مستجدات المرحلة.
وعلى كل حال فإن من حسن طالع التيار الديني أنه لا يمكن تهميشه سواء كان خطابه قاصرا أو مقصرا أو كافيا وافيا، فالدين في عالمنا العربي، بالرغم من كل ما يقال عنه، قد تجذر في الحياة والفكر وتموضع جينيا في دماء الشعوب الإسلامية لدرجة أن السياسي غير المتدين إذا تمكن من السلطة وجد نفسه مضطرا للبس العباءة الدينية صادقا أو متملقا، ولا أدل على ذلك من أن إدارة بوش نفسها -غير المسلمة طبعا- تتمسح ببعض جوانب الدين الإسلامي المتسامح إقرارا منها بقوته ووجوده الذي لا يزاحم، رغم تفوقها العلمي والتكنولوجي.
وختاما لابد أن تتباين وجهات النظر بشأن تقييم الخطاب الديني لمحوريته في النزاعات كلها، ومن الطبيعي أن ينقسم المثقفون حوله ما بين المغالي في تضخيمه والجافي الذي يبخس الناس أشياءهم.
وستبقى أسئلة جوهرية كبرى تحتاج إلى مثل شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للبت فيها، بعيدا عن الجمود الفكري وأحادية الرأي، وعلى رأسها تحديد علاقاتنا ومصالحنا مع الحضارات والأمم الأخرى بعد سيادة العولمة الاقتصادية والانفجار السكاني والمجاعات على كوكبنا، وتقديم خطاب مقبول عالميا يوضح بجلاء طريقة تعايش المسلمين مع خصومهم المتفوقين عليهم تكنولوجيا واقتصاديا، وبالطبع تأتي في مقدمة تلك الأمم الولايات المتحدة الأميركية.