عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «العمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلاّ الله عزّ وجل»1.
الإخلاص هو تجريد القصد عن الشوائب كلّها، بحيث يكون العبد في جميع أفعاله وأقواله مخلصاً، لا يدخل في نيّة عمله قصداً آخر غير قصد القربة لله سبحانه وتعالى.
ففي الرّواية أنّ الحواريين قالوا لعيسى «عليه السلام»: «يا روح الله، من المخلص؟ قال: الذي يعمل لله، لا يحبّ أن يحمده النّاس عليه»2.
فالمقياس الإلهي لقبول العمل وإعطاء الأجر عليه يختلف عن المقياس المتّبع عند النّاس، فالأجر على العمل في الأمور الدنيويّة منوط بإنجاز العمل، فمتى ما أنجز العامل العمل بالشكل المطلوب منه وحسب الشروط التي اشترطها عليه صاحب العمل استحقّ الأجرة عليه، دون أن يكون للقصد والنيّة أيُّ أثر في استحقاق ذلك الأجر، بينما العمل المرتبط بالله سبحانه وتعالى ليس الأجر عليه منوطاً بإنجاز العمل فقط، وإنّما مرتبطاً بالدّرجة الأولى بالدّافع لذلك العمل، فإن كانت النيّة فيه خالصة لله سبحانه وتعالى، بأن كان الدافع محض التقرّب إليه سبحانه كان ذلك ملاك قبول ذلك العمل.
قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 3.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ 4.
ففي الآية الأولى رتّب الحق سبحانه وتعالى الثواب بالحياة الطيبة والجزاء الحسن على كون العمل متصفاً بالصلاح وصادراً من مؤمن، وفي الآية الثانية على كونه صادراً من مؤمن ومتصفاً بالحسن، واتّصاف العمل بالصّلاح والحسن عند الله سبحانه وتعالى لا يكون إلاّ إذا كان خالصاً لوجهه سبحانه، فإذا كان كذلك استحقّ العبد الثواب عليه، فمجرّد أن يكون العمل في ظاهره صالحاً أو حسناً أو خيراً لا يكون ملاكاً لقبوله، ما دام في واقعه ليس كذلك، فلذك ورد في الرّواية عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد بها»5.
فالكثيرون هم من يمارسون الأعمال الصالحة الحسنة، وهذه الأعمال تكون في ظاهرها متساوية من حيث كونها فعلاً حسناً وصالحاً، فمثلاً؛ المنفقون للمال في وجوه الخير متساوون جميعهم في ظاهر هذا العمل، فظاهره الخير والصلاح والحسن، ولكن لا يجزم بأنّ هذا العمل من كل هؤلاء مقبول عند الله سبحانه لما ذكرنا من أنّ اتصاف العمل الصادر من العبد بالخيريّة والصلاح والحسن عند الله ليس فقط أن يكون كذلك في ظاهره بل له عنده معيار آخر، وهو حسن وصلاح وخيريّة النيّة، ولا تكون كذلك إلاّ إذا كانت خالصة له سبحانه.
فالأعمال التي تكون في الظاهر على هيئة واحدة لا تكون كلّها متساوية في الدافع والباعث لها، فهناك من يكون باعثه للعمل هو الله سبحانه وتعالى، وهناك من يكون باعثه له غير وجهه سبحانه، فالصنف الأول تقع أعمالهم مقبولة ويستحقّون على أعمالهم الثواب، وإن كان ثوابهم عليها يختلف بحسب درجة إخلاصهم ومنزلتهم ومكانتهم وقربهم من الله سبحانه وتعالى، وأمّا الصّنف الآخر فترد أعمالهم عليهم ولا يستحقّون عليها الثواب.
وإلى هذا المعنى يشير قول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرء ما نوى، فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً، لم يكن له إلاّ ما نوى»6، وقوله الآخر: «إنّ الرجلين من أمتي يقومان في الصلاة، وركوعهما وسجودهما واحد، وإن ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض»7.
إذاً فالإخلاص هو أن يكون العمل بكلّ جوانبه وتفاصيله خالصاً لله وحده، دون أن تشوبه أيّ شائبة، وذلك لأنّ أيّ شائبة فيه ستكون سبباً في فساده، وبالتالي يفقد العبد الأجر عليه، لأنّ العمل لم ينجز كما أراده الله سبحانه وتعالى، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قال: «يقول الله سبحانه: إنّي أغنى الشركاء، فمن عمل عملاً ثم أشرك فيه غيري فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك به دوني»8.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «قال الله عز وجل: أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»9.
وعن الصادق «عليه السلام» أنّه قال لعباد بن كثير البصري في المسجد: «ويلك يا عباد! إيّاك والرياء، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له»10.
فهذه النّصوص تدلُّ على أنّ العمل إذا لم يكن خالصاً لله وحده لا يحضى بالقبول لديه وهو مردودٌ، فالرّياء - وهو فعل الخير أمام مرأى النّاس ومسمع منهم لكسب الوجاهة لديهم ليشار إليه بالبنان من موقع المدح والثناء - لا يستحقُّ فاعله عليه الأجر والثواب، وإذا كان العمل مما يشترط في صحته قصد القربة وخلوص النية لله فإنّه يقع باطلاً يجب على فاعله إعادته أو قضاؤه.
فالعبادات كالصلاة والصوم والحج وغيرها يشترط في صحتها بأن يكون الداعي والمحرّك للإتيان بها هو امتثال الأمر الإلهي والقربة، سواء أكانت الغاية من الامتثال هي كونه سبحانه أهلاً للعبادة والطاعة، كما أشار إلى ذلك الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» في قوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»11، أو كانت بقصد الشكر له سبحانه، أو كان القصد من الامتثال الحصول على الثواب أو الخوف من العقاب، والتي أشار إليها أمير المؤمنين «عليه السلام» في قوله: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»12، فلا إشكال في صحة العبادة مع كون الغاية من الامتثال شيئاً مما ذكر13، أما دخول الرّياء في العمل فقد ذكر الفقهاء في مباحثهم الفقهية ورسائلهم العمليّة كلّ الوجوه المتصور فيها الرّياء وبيّنوا ما له علاقة ببطلان العمل وما لا علاقة له بذلك، فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بمراجعة الكتب الفقهية.
والإخلاص من صفات عباد الله الأبرار، فقد امتدحهم اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه الكريم لما عملوه من أعمال خالصة لوجهه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ 14.
فاختص هؤلاء الأبرار بأن كان عملهم تقرّباً إلى الله عزّ وجل وابتغاء مرضاته، دون أن يكون لأحد غيره في هذا العمل ذرّة، فهم إنّما أحسنوا لمن أحسنوا إليه لوجهه سبحانه، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ... ﴾ 15، فلا يريدون جزاءً عليه لا ممن أحسنوا إليهم ولا من غيرهم من الخلق، بل ولا يطالبون حتّى بكلمة أو عبارة من كلمات وعبارات الشكر والثناء، ﴿ ... لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ 15، إنّما يرجون ثواب ذلك وجزاءه منه وحده جلّ شأنه.
فمتى ما استطاع الإنسان أن يحقق حالة الإخلاص التي لا ينالها إلاّ ذو حظّ عظيم -والتي تحتاج إلى جهاد نفسي عال- فإن آثار الإخلاص سوف تبدو جليّة على هذا الإنسان، فمن ثمار الإخلاص الحكمة، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «من أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»16، فالحكمةُ ضالةُ المؤمنِ يبحث عنها، ومن يحصلُ عليها فإنّه يحصلُ على الخيرِ الكثيرِ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ 17.
ومن ثمارِ الإخلاص لله سبحانه وتعالى ما روي عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» في الحديث القدسي أنّ الله تعالى قال: «لا أطلع على قلب عبد فأعلم منه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي، إلاّ توليت تقويمه وسياسته، ومن اشتغل في صلاته بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين»18.
ففي هذه الحياة الدنيا قد تكفل الله سبحانه وتعالى بتربية الإنسان وتقويمه من خلال إرسال الرسل والرسالات ولكن هناك بعض بني البشر ونتيجة لما تميزت به أعمالهم من الصلاح وحظيت بالقبول عند الله سبحانه وتعالى فإنّ من ثمار ذلك وآثاره أنّ لهم عناية إلهية خاصة في تربيتهم وتأديبهم، والإنسان عندما يتولى الله عزّ وجل تقويمه وتربيته فلا يمكن أن نتصور حصول حالة من الانحراف والزيغ عن الحقّ عنده، وهذه التربية خاصة بالمخلصين، وهي ثمرة عظيمة وجليلة للإخلاص19.
_____________
1. ميزان الحكمة 3/74، برقم: 1508.
2. ميزان الحكمة 3/74، برقم: 5015.
3. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 97، الصفحة: 278.
4. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 30، الصفحة: 297.
5. الكافي 2/295.
6. وسائل الشيعة 1/49.
7. مستدرك الوسائل 4/98.
8. ميزان الحكمة 3/409، برقم: 6990.
9. ميزان الحكمة 3/409، برقم: 6995.
10. الكافي 2/293.
11. بحار الأنوار 67/186.
12. بحار الأنوار 41/14.
13. وهناك غايات أخرى ذكرها علماء الأخلاق غير ما ذكرنا، ذكر بعضها العلامة المجلسي في عين الحياة 1/42 - 54.
14. القران الكريم: سورة الانسان (76)، الآيات: 5 - 12، الصفحة: 578.
15. a. b. القران الكريم: سورة الانسان (76)، الآية: 9، الصفحة: 579.
16. بحار الأنوار 67/249.
17. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 269، الصفحة: 45.
18. بحار الأنوار 82/136.
19. المصدر كتاب "دروس من وحي الإسلام" للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.