من المعلوم أن الله ادخر إمامنا المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لمرحلة زمنية مستقبلية يقود فيها عملية تغيير شاملة على امتداد العالم، فيطهر الله به الأرض من الجور والفساد (ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، ولا يبقى كما في بعض الروايات، في المشارق والمغارب أرض إلا ونودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولا شك في أن فكرة الغيبة والظهور منوطة بإرادة الله عز وجل مباشرة، ولكن الله أراد أن يتحدد الظهور ببعض العوامل والشروط لأجل إنجاح اليوم الموعود وعملية التغيير الشاملة التي يقودها الإمام (عليه السلام).
وهذه العوامل هي مما يجب تحققه قبل الظهور، حيث لا يمكن أن يحصل الظهور من دونها.
قد يظن بعض الناس أن الظهور يتوقف على امتلاء الأرض ظلماً وجوراً انطلاقاً من النصوص التي تفيد بأن الإمام (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجورا)، وبالتالي فإنهم يعتقدون بأن تطور الظلم والجور في حياتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية والإدارية والقضائية.. شرط وعامل مؤثر في الظهور وتعجيل الفرج، حتى إذا امتلأت الأرض ظلماً وجوراً ظهر الإمام (عليه السلام) وأعلن ثورته ضد الظالمين وفرج عن المقهورين والمعذبين والمظلومين.
ومن الواضح أن هذا الاعتقاد إن لم يؤدِ إلى المساهمة في توسيع رقعة الفساد والظلم والجور في الأرض، فهو يؤدي في الحد الأدنى إلى عدم مكافحة الظلم والجور والخضوع للأمر الواقع الفاسد، لأن العمل خلاف ذلك يؤدي إلى إطالة زمن الغيبة وتأخير الفرج.
ولا شك في أن ذلك مخالف لمفاهيم القرآن الذي يدعو إلى رفض الظلم وعدم الركون إلى الظالمين، (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار). كما إن ذلك يعني تعطيل أهم فرائض الإسلام وأحكامه وتشريعاته كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وهي تكاليف عامة لا تختص بزمان دون زمان أو مكان دون آخر.
على أنه ليس معنى كلمة (أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً) الواردة في بعض النصوص، هو أن تنعدم قيم الحق والتوحيد والعدل على وجه الأرض، ولا يبقى موضع يُعبد الله فيه، فهذا الأمر مستحيل على خلاف سنن الله.. وإنما المقصود بهذه الكلمة طغيان سلطان الباطل على الحق في الصراع الدائر بين الحق والباطل.
ولا يمكن أن يزيد طغيان سلطان الباطل على الحق أكثر مما هو عليه الآن، فقد طغى الظلم على وجه الأرض وبلغ الذروة، والذي يجري على المسلمين في فلسطين بأيدي الصهاينة أمر يقل نظيره في تاريخ الظلم والإرهاب. كما إن ما تمارسه الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الإسلام والمسلمين وما تفرضه على العالم الإسلامي بلغ الذروة في الاستكبار والطغيان والهيمنة وفرض النفوذ والسيطرة على دول المنطقة وشعوبها ومواردها الحيوية.
إن ما يجري في أقطار العالم الإسلامي على المسلمين في كل مكان تقريباً ـ وخصوصاً من قبل الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل ـ أمر رهيب يدل على شيء أكثر من الظلم والجور ومن امتلاء الأرض ظلماً وجوراً، انه يدل على نضوب نبع الضمير في الأسرة الدولية المعاصرة وفي الحضارة البشرية المادية المعاصرة.
ونضوب الضمير مؤشر خطر في تاريخ الإنسان، يعقبه دائماً السقوط الحضاري الذي يعبر عنه القرآن بـ(هلاك الأمم).
وقد كانت غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه شريف) بسبب طغيان الشر والفساد والظلم، فكيف يكون طغيان الفساد والظلم شرطاً وسبباً لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وخروجه؟
على أن ما هو موجود في النصوص تعبير (يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، وليس (بعد أن ملئت ظلماً وجورا).
وليس معنى ذلك أن الإمام (عليه السلام) ينتظر أن يطغى الفساد والظلم أكثر مما ظهر إلى اليوم ليخرج، وإنما معنى النص إن الإمام (عليه السلام) إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً، ويكافح الظلم والفساد في المجتمع حتى يطهر المجتمع الإنساني منه كما امتلأ المجتمع البشري بالظلم والفساد من قبل.
وبعد هذا العرض نخلص إلى أن سيطرة الظلم والجور ليست سبباً في تأخير الفرج أو شرطاً في تعجيله.
ولعل من أهم العوامل المؤثرة في تحقيق الظهور بل وتقريبه وتعجيل الفرج، هو توافر العدد الكافي من الأنصار والموطئين الذين يعدون المجتمع والأمة لظهور الإمام (عليه السلام)، ويوطئون الأرض ويمهدونها لثورته الشاملة، ويدعمون حركة الإمام ويسندونها.
ومن دون هذا الإعداد وهذه التوطئة لا يمكن أن تحصل هذه الثورة الشاملة في سنن الله تعالى في التاريخ، وذلك انطلاقاً من الحقائق التالية:
أولاً: إن الإمام (عليه السلام) لا يقود حركة التغيير الشاملة بمفرده، لأن الفرد الواحد مهما أوتي من قوة وكمال عقلي وجسمي وروحي، لا يمكن أن يحقق إنجازاً كبيراً بحجم الإنجاز الضخم الذي سيحققه الإمام (عليه السلام) على امتداد الأرض، خصوصاً إذا تجاوزنا الفرضية الآتية وهي استخدام المعجزة من قبله (عليه السلام) من أجل تحقيق النصر.
ثانياً: إن الإمام (عليه السلام) لا يحقق الإنجازات الكبيرة التي ادخره الله لأجل تحقيقها في آخر الزمان عن طريق المعجزة والأسباب الخارقة.. وقد نفت الروايات استخدام الإمام (عليه السلام) المعجزة في ثورته، وأكدت دور السنن الإلهية في التاريخ والمجتمع في تحقيق هذه الثورة الكونية الشاملة وتطويرها وإكمالها.
ولا يعني ذلك أن الله لا يتدخل إلى جانب هذه الثورة بألطافه وإمداده الغيبي، فإن ثورة الإمام (عليه السلام) في مواجهة الطغاة والأنظمة والمؤسسات الاستكبارية الحاكمة والمتسلطة على رقاب الناس، لا تحصل من دون إمداد غيبي وإسناد وتأييد من قبل الله سبحانه، والنصوص الإسلامية تؤكد وجود هذا الإمداد الإلهي في حركة الإمام (عليه السلام) وتصف كيفيته. إلا أن هذا المدد الإلهي أحد طرفي القضية، والطرف الآخر هو دور الأسباب الطبيعية والوسائل المادية في تحقيق هذه الثورة وحركتها، فإن الاعتماد على هذه الأسباب لا يتعارض مع المدد والإسناد الإلهيين.
وشأن حركة الإمام (عليه السلام) شأن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام والحركة التي قام بها لتحقيق التوحيد في حياة الناس. فقد كانت هذه الحركة موضع عناية ورعاية الله وإمداده الغيبي بالتأكيد، ونصر الله سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله) بالملائكة المسوّمين والمردفين والرياح وجند لم يروهم، ونصره على أعدائه بالرعب.. ولكن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن يعدّ العدّة لهذه المعركة المصيرية: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) (سورة الأنفال/60). وتمت مراحل هذه المعركة بموجب سنن الله في التاريخ والمجتمع، فكان يستخدم فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجند والمال والسلاح، ويخطط لها ويفاجئ العدو بوسائل وأساليب جديدة للقتال، ويفاجئه في الزمان والمكان.