عند كل ابتكار أو إبداع علمي يُشكِّل منعطفاً في مسيرة الإنسانية نرى الضجة الإعلامية والإجتماعية والأخلاقية التي تثار من حوله بين مؤيد ومعارض ومشجع ومستنكر، وهذا الأمر لاحظناه مراراً عديدة، خاصة في العقود الأخيرة حيث بلغ التطور العلمي حداً أذهل المجتمعات البشرية، وكلنا يتذكر عندما وطأت قدما أول بشري أرض القمر كيف أن البعض من الناس لم يهضموا هذا الأمر وتصوروا أن هؤلاء اخترعوا هذه القضية من خلال نزولهم بمركبتهم الفضائية في منطقة نائية ومنعزلة من عالم الأرض وأوهموا البشر أنهم نزلوا أرض القمر ووطئوها بأرجلهم.
أحببت ان أبدأ بهذه المقدمة لأقول إن التطور في المجال العلمي والعملي يبدأ من الخيال المستنبط من واقع ما تشهده ميادين الفكر الإنساني من نشاطات واقعية وإبداعات عملية تشكل أساساً للطموح العلمي المستقبلي، وهذا الطموح لا مانع منهما من وجهة نظر الدين الإسلامي، بل يشجع عليه إنطلاقاً من الثابتة الإسلامية القائلة بأن الوجود الإنساني موظَّف بأن يبين الحياة وفق المنطلقات الإلهية، ولا شك أن العلم هو الطريق الذي يمهد للإنسان تحقيق الهدف الإلهي للحياة والإنسان، ولكن ضمن إطار الضوابط والكليات التي تسمح للعلم بأن يسبح في مجال المباح من هذه المساحة وهي الأكبر والأكثر إتساعاً تبعاً لتنوع الحياة الإنسانية الغني والمليئ بالتفاصيل المحتاجة الى الحلول العلمية والعملية في أغلب الأحيان.
من هنا يمكن القول إن كل فكرة علمية تُطرح لا بد ان تندرج تحت طوائف ثلاث محصورة هي:
الأولى: أن تكون الفكرة متعلقة بأمر يحرمه الإسلام والأديان عموماً كفكرة القتل الرحيم التي ابتدعها البعض لتخليص الإنسان من آلامه وأمراضه القابلة للشفاء، فهذه الفكرة مرفوضة من أساسها لأنها ترتبط بالحياة مباشرة بما هي مُعطى إلهي لا دخالة للبشر فيه، فواهب الحياة هو الذي يأخذها ولا يحق لأي شخص أن يدّعي وصايته على البشر ليحدد من منهم ينبغي ان يموت بسبب مرض لا شفاء منه، ومن منهم ينبغي ان يعيش لقابلية الشفاء لديه.
الثانية: أن تتعلق الفكرة بأمر مستحسن عند الأديان والعقلاء مثل إختراع الأدوية المختلفة لشفاء الأمراض المتنوعة فمثل هذه الفكرة تدخل ضمن دائرة الإحتياجات الأولية للإنسان بما هو معرض للابتلاء بكل أنواع المرض، ونرى أن الإسلام يشجع عليها ويعتبر السعي لتطوير مثل هذه الفكرة عملاً إنسانياً راقياً نظراً لخدمتها فيما لو تحققت آثارها ونتائجها الإيجابية كما هو واقع الحال في مسيرة الإنسان قديماً وحديثاً وخففت عن الإنسان الكثير من الآلام والأوجاع.
الثالثة: أن تتعلق الفكرة بأمر لم تظهر بعد نتائجه الإيجابية أو السلبية، وما زالت الفكرة في طور التكون، أو في مرحلة البدايات التي لا يمكن إعطاء صورة جلية عنها لتزيل كل الغموض والالتباس المحيط بها، فمثل هذه الفكرة لا نستطيع الحكم عليها بالتحريم القطعي أو التحليل القطعي لمجرد كونها فكرة فقط، أو لمجرد الخوف من بعض الأضرار والسلبيات التي ما زالت في مرحلة التصور والتنظير الفكري، والحكم بالحلية أو الحرمة بهذا النحو هو تسرع في غير محله ولا ينسجم مع الطريقة العقلائية في التفكير والاستنتاج من وجهة نظر إسلامية وعقلائية.
وفكرة الإستنساخ التي نحن بصدد الحديث عنها تدخل في هذه الطائفة الثالثة إلى ألان، ولا نرى مبرراً للحكم عليها بالأعدام المطلق أو السماح لها بالحياة بالمطلق، وينبغي إعطاء هذه الفكرة مجالها العلمي الرحب حتى تتضح معالمها وأبعادها من كل الجوانب، ثم نعطي الحكم وفق ما ينتج عن تجاربها العملية من آثار ومعطيات. وللتوضيح أكثر نقول إن الاستنساخ هو صورة من صور الخلق والتكوين، وليس عملية خلق بالإستقلال عن القدرة الإلهية، وبمعنى آخر ما زال الاستنساخ داخلاً ضمن دائرة ما يستطيع الإنسان الوصول إليه وفقاً للقدرات الفكرية والعقلية المودعة فيه والتي لا تتنافى مع قدرة الخالق المطلقة غير المحدودة، وبتعبير ثالث الاستنساخ سيبقى ضمن حدود سقف القدرة الإلهية وليس خارجاً عنها.
فعملية التوالد البشري كانت تنتج عن عملية التواصل بين الذكر والأنثى حيث يتم تفريغ النطفة داخل رحم المرأة ثم يتم تلقيحها مع البويضة هناك لتكون مبدأ نشوء الإنسان، وهذه الطريقة ما زالت هي المتبعة بنحو الأعم الأغلب بين البشر، ثم تطور العلم فتوصل إلى عملية الإخصاب عبر تلقيح البويضة بالنطفة خارج الرحم ثم إعادتها إليه لكي تنمو هناك بشكل طبيعي، ثم تطور الأمر بسبب الاكتشافات العلمية الدقيقة لعناصر التركيب الأساسية للإنسان بحيث صار قادرا ًعلى استنساخ إنسان مشابه تماماً لإنسان آخر عبر أخذ خلية حية منه وتلقيحها بخليه أخرى يتم تفريغها من كل العناصر الوراثية الموجودة في نواتها.
فالمسألة إذن هي عبارة عن تطور علمي غير خارج عن الموازين الشرعية التي تسمح للعلم بالانطلاق لاكتشاف الحقائق الكونية ومحاولة الاستفادة منها لما ينفع حياة البشرية، وهذا التطور في أسلوب الخلق لا نرى مبرراً للقول بتحريمه من وجهة نظر دينية وإسلامية بالتحديد، وإن كان الاستنساخ ما زال إلى الآن غير عملي على المستوى البشري، حيث لم تحصل تجارب خلق إنسان بهذه الطريقة. من هنا نقول إن المسألة إلى الآن داخلة في حيز المباح الشرعي ولا داعي للتحريم من ألان، بل علينا أن ننتظر ظهور النتائج الفعلية فهي التي توضح من خلالها آثار هذا العمل ونتائجه، فإن تبين أن الإنسان المستنسخ هو شبيه صوري للإنسان المتعارف فقط، لكنه لا يتمتع بمواصفاته الخَلقية والخُلقية أو غير قادر على القيام بالوظائف الإنسانية بالشكل الذي يقوم بها الإنسان العادي، أو يتبين ان هذا المستنسخ سيكون إنساناً سيئاً خالياً من كل معاني الإنسانية الإيجابية، وسيكون مصدر شرور والآم وإفساد الحياة، فعند ذلك يمكن القول بأن التحريم هو الحكم المبرم لأن العناوين الثانوية بل الأولية في هذا المجال يمكن تطبيقها لمنع الاستمرار في هذا العمل.
فالإسلام بواقعيته وبتأييده وحمايته للعمل ينظر إلى الأمر وفق آثاره ونتائجه الإيجابية والسلبية، فإن كانت الإيجابيات أكثر فهناك طريقة للتعامل حيث يُشجّع ويحث على الاستفادة من هذا الأمر، وإن كانت السلبيات أكثر هو يحرِّم ويمنع على قاعدة الآية الكريمة (وإثمهما أكبر من نفعهما) عندما تحدث عن منافع الخمر والقمار من الناحية الإيجابية ثم أوضح أن مفاسدها أكثر ولهذا اقتضى الأمر تحريمهما لهذه العلة. والاستنساخ البشري لا يخرج عن هذه المعادلة القرآنية فهو أمر لم تظهر لنا حسناته أو سيئاته، وما زالت القضية إلى ألان تدور في الإطار النظري فقط، وعندما تصل قضيته إلى المستوى الإنتاجي وتظهر الآثار فعندها يمكن الحكم عليها بنحو قاطع. ولا بد من الإشارة إلى أن الإشكال في المسألة والنقاش منحصر في الاستنساخ البشري، أما استنساخ الحيوان والنبات فهما لا مانع منه من وجهة نظر الإسلام، خاصة إذا كان المراد منه تحسين نوعية الغذاء أو نوعية اللحوم التي يأكلها البشر، نعم لو فرضنا أن العلماء يريدون استنساخ حيوانات وحشية أو غيرها مما يمكن أن تهدد الوجود البشري أو تؤدي إلى تكاثر أنواع من الحيوانات الصغيرة المفسدة للبيئة والمضرة بصحة الإنسان عندها يمكن القول بالتحريم أيضاً.
ولهذا يمكن القول أخيراً إن الاستنساخ ان أريد له ان يكون وسيلة من وسائل تطوير الاستفادة من الإنسان المستنسخ أو من الحيوان أو من النبات بطريقة لا تتعارض مع هدف الوجود الإنساني وهو بناء الحياة وتسهيل الإحتياجات الضرورية للبشر فهذا مما لا مانع منه، وأما إذا كان الاستنساخ في المجالات المذكورة سيؤدي إلى الإضرار بالحياة البشرية، ففي الجانب الذي يحصل فيه الضرر لا بد من القول بالتحريم القطعي، لأن الضرر في الإنسان أو في الطبيعة هو خلاف المقاصد والأغراض الإلهية القائمة على موازين الحق والعدل1.
1. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).