ورد في رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) يسأل فيها عن أحد أصحابه وهو (عمر بن مسلم) فأجابوه:(جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال (عليه السلام): (ويحه، أما علم أنّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوة ؟ إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا نزلت﴿ ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... ﴾ 1 أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا (قد كفينا)، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليهم فقال: (ما حملكم على ما صنعتم ؟) فقالوا: يا رسول الله تكفّل الله بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، قال: من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب).
تشير هذه الرواية بوضوح إلى قيمة العمل وأهميته في الإسلام لأسبابٍ عديدة نذكر منها ما يلي:
أولاً: العمل يمنع الإنسان من التكاسل والتواكل على الناس ويعتمد في معيشته على كدّ يده وعلى التعب الذي يبذله ويقبض بإزائه المال الذي يعينه على القيام بأمور حياته من مأكلٍ ومشرب وملبس ومسكن وطبابة وغير ذلك ممّا يحتاج الإنسان إليه عادة في حياته العادية، وقد نهى النبي في الإسلام عن القعود عن العمل كما رأينا في الرواية ولو كان القعود من أجل العبادة والتهجّد إالى الله والتقرّب إليه بفعل الطاعة، وقد ورد في الحديث الشريف (العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال).
ثانياً: العمل الذي يقوم به العامل يقدم من خلاله خدمة للمجتمع، لأنّ الناس محتاجة إلى كلّ أنواع الأعمال من أجل تكامل حياتها، لأنّ الإنسان بمفرده ليس قادراً على تأمين كلّ احتياجاته لعجزه عن ذلك، فعندما يقوم كلّ إنسانٍ بالعمل الذي هو من اختصاصه أو ممّا هو قادر عليه، فهو يهوّن على الناس ويسهّل عليهم تأمين احتياجاتهم، ولذا أوجب الإسلام العمل بنحو الوجوب الكفائي في كلّ المجالات التي تهم حياة المجتمع، لأنّ التكاسل عن الأعمال أو بعض أنواعها سيؤدي حتماً إلى حصول نقصٍِ في ما تحتاجه الناس عادة، وهذا ما يسبّب لهم ضيقاً وصعوبة في المعيشة.
ثالثاً: العمل في الإسلام كلّه مقدّس وله مكانة رفيعة مهما كان نوعه، لأنّ كلّ عملٍ يقوم به عامل ما فهو يؤدي خدمة جليلة إلى مجتمعه، ولا عيب في نوع العمل الذي يقوم به الإنسان، لأنّ البديل عن عدم العمل هو (البطالة) وهي مذمومة في الإسلام ومكروهة جداً، ولقد أفتى فقهاؤنا العظام أعلى الله مقامهم بأنّ (من كان قادراً على العمل وكان العمل متوافراً له ولو في أيّ مجال ولم يعمل كسلاً وتواكلاً لا يستحقّ إعطاءه من الأموال الشرعية ولو كان فقيراً) وذلك لأنّ فقره إنّما جاء من اختياره الخاطئ بعدم العمل وترك السعي للعيش.
رابعاً: العمل يعطي للإنسان وحياته قيمة في المجتمع بين أقرانه وأقربائه ومحيطه، فالإنسان العاطل عن العمل والذي يرضى بأن يعيش عالة على غيره لن ينال الإحترام الذي يستحقّه كإنسان سوي سليم، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكلمة المشهورة الوارد عنه: (قيمة كلّ امرء ما يحسنه) أي ما يتقنه من عملٍ أو مهنة أو حرفة أو اختصاص تحتاج إليه أمور الناس في معيشتها، سواء على المستوى المادي أو على المستوى الإيماني والروحي والمعنوي.
خامساً: عدم العمل والتكاسل عنه قد يؤدي في الكثير من الأحيان إلى المفاسد والفتن والمشاكل، لأنّ المال الناتج عن العمل هو وسيلة بيد الإنسان لتأمين كفايته، وعندما يعتاد المرء على التكاسل ولا يجد من يعيله وليس معه مال يؤمن من خلاله حاجاته المعيشية قد يضطرّ إلى ارتكاب المحرّمات من السرقة والقتل أو المكر والإحتيال على الناس كما نرى ذلك موجوداً في العديد من المجتمعات، وهذا ما يؤدّي إلى حصول الإخلال في نظام الأمن الإجتماعي للناس بحيث يخافون على أموالهم وأنفسهم من أمثال هؤلاء المستهترين المتهتكين الذين يريدون أن يشيعوا الفساد الأخلاقي في حياة الناس.
وعندما نرجع إلى الروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) نجد العديد منها التي تعبّر عن العمل بصيغٍ مختلفة عن قيمته وعن قيمة العامل وعن مكانة العمل عند الله عزّ وجلّ، ومن أمثلة تلك الروايات نورد ما يلي منها كنماذج:
عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (طلب الحلال جهاد)
عن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخرج في الهاجرة ـ الحر ـ في الحاجة قد كفاها يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال).
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (إن ظننت أو بلغك أنّ هذا الأمر كائن في غدٍ فلا تدعنّ الرزق، وإن استطعت أن لا تكون كلاّ ـ عالة على غيرك ـ فافعل).
عن أبي عبد الله (عليه السلام):(غنى يحجزك عن الظلم، خيرٌ من فقرٍ يحملك على الإثم).
عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إنّي أجدني أمقت الرجل متعذر المكاسب فيستلقي على قفاه ويقول (أللهم ارزقني) ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل الله، فالذرة تخرج من حجرها تلتمس رزقها).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أللهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدّينا فرائض ربّنا).
من كلّ ذلك نقول إنّ على الإنسان أن يسعى لتوفير العمل الذي يساعده على تدبير أمور معاشه، من دون نظر إلى نوعية العمل، لأنّ العمل له قيمته عند الله وعند الناس، والذي يكسب قوته بعرق جبينه له كلّ الإحترام والتقدير عند الناس، ولن يكون مضطراً لإذلال نفسه بأن يعيش عالة على غيره كما أوضحنا ذلك.
والحمد لله ربّ العالمين2.
____________
1. القران الكريم: سورة الطلاق (65)، الآية: 2 و 3، الصفحة: 558.
2. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).