يحتفل المسيحيون في مختلف دول العالم وخصوصا في العالم الغربي بـ ذكرى الميلاد المعجزة الذي خص به الله سبحانه وتعالى السيد المسيح ابن مريم (إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ)آية (۴۵) سورة آل عمران، الذكرى التي تحمل معها عبق الرسالة والنبوة والبشرى بقدوم خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله علية وآله).
ذكرى السيد المسيح الذي حمل الرسالة السماوية منذ أن كان في المهد صبياً، وكان جل اهتمامه السعي إلى تهذيب النفوس وتعليم الناس الفضيلة والحرص في إبعادهم عن الرذيلة، بالإضافة إلى الحرص على نشر الأمن السلام في أرجاء المعمورة.
ونحن اليوم على أعتاب هذه الولادة المباركة نلاحظ العالم المسيحي وبالخصوص الغرب المسيحي يحتفل في كل رأس سنة ميلادية ويعد لتك الاحتفالات بحيث يصل الأمر ببعض المحتفلين إلى كثير من المحاذير التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها الناس من خلال السيد المسيح (عليه السلام) وجميع الأنبياء والرسل.
وكون المناسبة أصبحت تقليداً سنوياً أخذت عند البعض طابعا آخر بعيد عن منهج صاحب الذكرى فإننا بهذه المناسبة العزيزة على أنفسنا نود أن نوجه رسالة إلى العالم المسيحي نهنئهم فيها ومن خلالها نلفت انتباههم إلى:
أولاً: ما يتعلق بالجانب الاجتماعي؛ نشر الفضيلة في المجتمع هي السمة المميزة التي تسامى بها السيد المسيح(ع) إلا أننا نرى وللأسف الشديد ما يحدث في بعض بلاد العالم الغربي من انحلال خلقي كبير متمثل في الإباحة الجنسية والزواج بالمثل الذي يعد شذوذاً وانحرافاً عن كل ما يمت للإنسانية بصلة حتى إن العديد من الأقوام أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم غضبه جراء ارتكابهم لتلك الأفعال، كما فعل قوم لوط(ع)،قال تعالى على لسان نبيه(ع)( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (۸۰) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (۸۱) سورة الأعراف.
وما الأمراض التي تفتك بالإنسانية اليوم كالايدز وغيرها من الأمراض المعدية التي تعجز جميع مشافي العالم من علاجها إلا هي جزء من ذلك الغضب الإلهي على من يقوم بها.
ثانياً: ما يتعلق بالجانب الاقتصادي؛ لم يشأ السيد المسيح أن يأكل لقمته من خلال المعجزة ولو أراد لفعل بإذن الله كما فعل مع بني إسرائيل حينما طلبوا منه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لكنه أراد أن يعمل ويعلم الآخرين على العمل والكسب المشروع من خلال الكد والتعب لا من خلال المقامرة ومضاعفة الفوائد على الديون.
واليوم حيث الأزمة الاقتصادية العالمية التي يشهدها النظام الرأسمالي والانهيارات المتعاقبة والمتلاحقة في الأسواق العالمية التي تنتهج الرأسمالية الغربية كنظرية وتطبيق في تداولاتها المالية تتهاوى على أغلب دول العالم المرتبطة بالسوق الحرة أو الاستثمارات الرأسمالية.
فالجشع الرأسمالي القائم على أسس ربوية والذي تشرع له النظم السياسية في تلك الدول، يخالف الفطرة السليمة للإنسان ويخالف جميع التعاليم السماوية الصحيحة في تنمية رأس المال، حيث جاء في قوله تعالى(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا…..) آية(۲۷۵)سورة البقرة، وفي الآية(۲۷۶) من نفس السورة، جاء قوله تعالى(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ……).
ثالثاً: ما يتعلق بجانب الأمن والسلم الدوليين؛ أخذ السيد المسيح على عاتقه نشر السلام في ربوع البلاد التي كان فيها وكان ينبذ العنف ولا يسعى إلى تنظيم الجيوش من أجل شن الحرب أو غزو البلاد الأخرى، ولكننا نرى وللأسف الشديد إن بعض بلاد الغرب قد تسبب في القرن المنصرم فقط بحربين عالميتين كبيرتين أزهقت من خلالها مئات الآلاف من الأرواح فضلاً عن الدمار الاقتصادي والبيئي، وهو يسعى إلى تطوير أسلحة أكثر دماراً وفتكاً بالجنس البشري الذي حرم الله قتله كما جاء في قوله تعالى(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)آية (۳۲) سورة المائدة.
رابعاً: ما يتعلق بالوقوف إلى جانب الحق؛ كان المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) يقف دائماً إلى جانب الحق ويقوم بفض المنازعات بين المتخاصمين على أساس الحق والعدل، غير أننا نرى بعض القوى الغربية من المحسوبة على العالم المسيحي تقف إلى جانب من يغتصب الأرض وينتهك المحرمات ويعتدي على دور العبادة والأماكن المقدسة.
فعنوان السيد المسيح هو التبشير بالقيم والفضائل والتسامح ونبذ العنف ونبذ كل ما من شأنه أن يفرق بين أبناء الجنس البشري على أساس عنصري أو فئوي أو طبقي، وذكراه يجب أن تشتمل على كل تلك المعاني الإنسانية، وأن لا تتحول هذه المناسبة إلى مجرد أيام تقضى فيها الليالي الحمراء في صالات الرقص أو كونها مناسبة تتميز بجميع أصناف الخمور وتباح فيها المحرمات.
ما نراه مناسباً أن تكون هذه الذكرى العظيمة مناسبة للمراجعة في الأفعال والتصرفات التي صدرت تجاه الآخرين، واستذكار أماكن العبادة المقدسة بنظر المسيح (عليه السلام) وجميع الأنبياء التي يريد البعض اليوم طمس جميع معالمها، عبر احترام تعاليم السماء في التعايش واحترام عقيدة الآخر، وأن تكون مناسبة لمراجعة القوانين التي أصدرتها فرنسا ضد الفتيات المسلمات ومحاربة الحجاب الذي أمر بارتدائه السيد المسيح.
فإذا جعلتم من المسيح قدوة لكم فاجعلوا من سيرته العطرة منهجاً لسلوككم مع الآخرين ليعم الأمن ويسود السلام في جميع أنحاء المعمورة وليبارك الله جميع الجهود الخيرة التي تقتدي بالأنبياء والصالحين(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)آية(۳۰) سورة البقرة.