مقدمة
تحظى ظاهرة العنف منذ سنوات باهتمام لافت بمسمياتها المختلفة : الإرهاب، الأصولية، التّطرف. . . في وسائل الإعلام وفي الدّراسات السّياسية والاجتماعية والنّفسية وحتى في دوائر صنع القرار في العالم.
وتحوّلت الرّغبة في القضاء على تلك الظاهرة، أو في “تجفيف منابعها”إلى مشاريع واستراتيجيات عسكرية، وتنموية، واتفاقيات تعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وبين الدّول العربية والإسلامية من جهة أخرى، وتخوض الولايات المتّحدة حربًا مباشرة ومفتوحة على امتداد العالم ضد”الإرهاب”، وتقوم في الوقت نفسه بتوجيه الوسائل المختلفة الإعلامية والنّفسية إلى الشّعوب العربية والإسلامية”لتكف عن كراهية الولايات المتّحدة”وعن احتمال اللّجوء إلى العنف.
بحيث ظنّ بعض الباحثين والدّارسين بأصالة العنف في المجتمعات الشّرقية/الدّينية أو غير الديمقراطية ، وبندرته أو انتفائه في مجتمعات أخرى. إلا أنّ هذا العنف الذي يتبرّأ منه الجميع موجود في كلّ مكان، وفي كل العصور، وهو مادي ومعنوي. ومباشر ورمزي، نعثر عليه في العلاقات بين الأفراد، وبين المجتمعات وفي العلاقات بين الدّول، ويمكن أن نجده في العلاقات الأسرية، وفي المؤسّسات التّعليمية ، وفي منظومة الثواب والعقاب ، وفي كلّ القوانين التي عرفتها البشرية منذ بدايتها ، وفي الأديان التي لوّحت بالعقاب أو برد الاعتداء أو بإنزال القصاص في الدّنيا أو في الآخرة.
ألوان العنف وجذوره
والعنف بحسب التّعريفات المختلفة هو”ممارسة القوة”ويترافق مع الشّدة والإيذاء ومع الألم المادي الذي يقع على الآخر. إلا أنّ العنف من الناحية الرّمزية والمعنوية أكثر اتّساعًا وأقل وضوحًا.
فقد يكون انتهاكًا لخصوصية الإنسان، أو تقييدًا لحريته، أو تحطيمًا لكرامته بالإذلال والتّهميش، وقد يكون العنف في عصرنا الحالي تشويهًا للحقائق أو تسلّطًا على الرّأي العام، تقوم به وسائل الإعلام التي تهيمن على الفضاء المادي والمعرفي. والعنف الرّمزي هو عدم الاعتراف بالآخر، الديني أو العرقي أو الثقافي، ومنعه من التّعبير عن نفسه، وقبوله كما هو. وهو ما يحاول أن يفرضه القوي على الضّعيف وما تفعله بلدان الشمال ببلدان الجنوب، إذ تشترط لمساعدتها أو لتقديم القروض لها، تطبيق نماذج سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
مثل نقل الديمقراطية وفتح الأسواق وتحرير المرأة… وهذا ما يمكن أن نسميه “العنف الهادئ” أو “العنف غير العنيف” كالّذي تفعله وسائل الإعلام “بتضليل العقول” والتّلاعب بها([1]) بحيث يتم إخضاع الآخر من دون أي شعور بالألم أو بالإيذاء المادي المباشر. وفي الواقع أنّ العنف ليس ظاهرة اجتماعية وحسب، بمعنى أن المجتمع هو الذي يخلق فينا الميل إلى العنف والعدوان، فالمجتمع يعلّمنا كيف نمارس العدوان أو كيف نتحكم في العنف.
والمجتمع يفرض علينا القوانين والعقوبات التي تردع الاعتداء بسبب ضرورات العيش مع الآخر وحاجتنا إليه. مثل عقوبة الإعدام أو السّجن أو قطع اليد، أو القتل بالكرسي الكهربائي بحسب ثقافة المجتمع وفلسفة التّشريعات التي يستمد منها عقوباته.
كما تهدف العقوبة التي تختزن العنف والرّدع إلى ضبط الأنا الفردي حتى لا يطغى على الانتماء الجماعي، وحتى لا يهدد تماسك هذا الانتماء أو شروط بقائه. إلا أنّ العنف مهما تعدّدت مستويات التّعبير عنه وتنوّعت أساليب ممارسته، موجود أصلاً في داخلنا قبل أن يتدخّل المجتمع وأنظمته ومؤسّساته أي أنّه موجود كاستعداد قبل تدخّل البيئة، فالإنسان مفطور على استخدام العنف وهو الطاقة التي زود بها الإنسان منذ ولادته للدّفاع عن النّفس، ولحفظ البقاء، ومن أجل البناء والتّقدم ، ولولا هذه الطاقة لما استطاع الإنسان قتل الحيوان، أو شق طريق أو اقتلاع شجرة.
الدراسات حول العنف
هذا الاستعداد للعنف، والتّنوع في أشكال التّعبير عنه ووجوده في العلاقات بين الأفراد وفي المؤسّسات وبين الدّول والجماعات، جعل الاهتمام بهذه الظاهرة يتوزّع بين علوم النّفس والفلسفة والتربية والاجتماع والانتروبولوجيا والسّياسة وسواها… فقد دُرِسَ العنف في المجتمعات القديمة كعمل ثأري قبل نشوء الدّولة تمارسه العائلة أو القبيلة أو القرية بكاملها.
وثمّة من رأى في العنف وسيلة للمحافظة على استقلال الجماعات الصّغيرة وبقائها موحّدة (بيار كلاستر). وثمّة من ردّ العنف إلى نشوء المجتمعات الزّراعية وما نتج عنها من رغبة في التّوسع وفي زيادة الملكية أو إلى اعتبار المجتمعات البسيطة مجتمعات مسالمة، لا تلجأ إلى العنف كسلوك منظم في الإخضاع والتّدمير والغزو يشبه ما نسميه اليوم “الحرب”.
من هنا نشأ الاعتقاد بأّن الحرب الحقيقية “ذروة العنف الجماعي” هي من اختراع الإنسان المرتبط بأرضه التي تعطيه الثّروة، وتجعله مستعدًّا لمنازعة جاره أرضه، وحديثًا منازعة شعوب أخرى أرضها وثرواتها لمزيد من الملكية ولمزيد من القدرة والسّيطرة([2]) وقد ميّز الانتروبولوجيون بين نوعين من العنف: الثأر والحرب.
الأول غير مشروع لأنه شخصي أما الثاني فتمارسه الدّولة، “وهي المؤسّسة التي تحتكر العنف الشّرعي على أرض محدّدة” كما يقول ماكس فيبر ومن أهم وظائف الدولة بالنّسبة إلى فيبر : وضع حد للحرب الخاصة مثل الثّأر العائلي والعنف العادي بين الأفراد ، ومن أجل ذلك تلجأ الدّولة نفسها إلى القهر والإرغام أي إلى العنف والقوة ، فهذا هو العنف الوحيد المشروع([3]) .
من هنا نشأت تلك التهمة للمجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتمعات ثأرية وقبائلية ولا تمت إلى تقاليد الدّولة والحكم بصلة، كما يعتبر (فوكو) أنّ السجن والمدرسة هما المؤسّسات الحديثة لممارسة السّلطة والعنف الشّرعي (لإصلاح النّفوس) ([4]).
وقد توجّهت الدّراسات في القرن التاسع عشر -وقبل ظهور ما يسمى اليوم “الشرق الأوسط” وأهميّته وثرواته وصراعات القوى الكبرى على مصالحها فيه- نحو الشّعوب الأفريقية والهندية وشعوب أمريكا اللاتينية بحثا عن أسباب التّقاتل بين القبائل وعن دوافع حماية الجماعة… وعندما اعترف البابا في القرن السادس عشر بأنّ هنود أمريكا لا ينبغي أن يكونوا عبيدًا، ذهب فاتحو العالم الجديد إلى ضرورة التّدخّل لوضع حد “للمتوحّشين” الذين لا يكفّون عن التّقاتل.
وبعد ثلاثة قرون عاد الفاتحون إلى أفريقيا بالذّريعة نفسها “النضال ضد الحروب التي يشعلها الأمراء الأفارقة”. إنّها مبرّرات لشرعية العنف الذي تمارسه الدّولة خارج حيّزها الخاص على شعوب أخرى، أي مبرّر استخدام العنف لوضع حد للعنف (منع التقاتل) أو لوضع حد للتخلف (تمدين المتوحّشين) ولم تختف هذه الذرائع إلى اليوم. فاحتلال الجزائر ومئات ألاف الضحايا كان لتمدين الجزائريين “واحتلال أفغانستان ثم العراق كان لتعليم شعوبهما الديمقراطية.
وربما أمكن القول بأصالة العنف عند الإنسان بموازاة أصالة التّسامح والنّدم استنادًا إلى حادثة القتل الأولى في التاريخ البشري بحسب الرّوايات الدّينية التي ذهب فيها هابيل ضحية انتقام أخيه قابيل، الذي ندم على فعلته، قبل أن يتعرّفا على أي شكل من أشكال السّلطة أو الدّولة أو يتعرّضا لتأثير المجتمع والثّقافة. ولهذا السّبب تهتم الدّراسات التّربوية والنّفسية بهذا الجانب “الداخلي” من العنف أكثر من الدّراسات الأخرى السّياسية أو الاجتماعية ، وتجعل من هذا الجانب مرتكزًا لفهم دوافع العنف، أو للحد من النّزوع إليه…
العنف الرمزي والجسدي
ولم تعد الدّراسات المعاصرة تفصل بين عنف الداخل وعنف الخارج، أو بين العنف الرّمزي والعنف الجسدي. أي بين استعداد الإنسان للعنف، ومؤثّرات المحيط والدّولة والنّظام السّياسي إلى الحد الذي جعل فيه البعض حتى من تدمير البيئة عنفًا لا ينفصل عن استمرار التّلوث، وعن تصاعد استهلاك الطاقة…الذي سيقود إلى المزيد من التّدمير ([5]).
في حين شدّد آخرون على أن تكثيف العنف الرّمزي مثل التّهميش، والإقصاء وفرض الرّأي، وتقييد الحرّيات… يقود إلى العنف الجسدي من جانب أولئك الذين يتعرّضون لذلك العنف الرّمزي “لأنّ الاحتقار الإرادي أو اللاإرادي يدفع إلى العنف الأعمى” ([6]).
وربما تساعد هذه الفرضية في تفسير بعض أوجه “العنف الحديث” الذي نشهده في عالمنا المعاصر ضد أفراد أو مؤسسات غربية تمارسه بعض الجماعات الإسلامية “لردع” تلك المؤسّسات ومَنْ خلفها مِنَ الحكومات وإرغامها على الكف عن سياسات التدخل في البلدان الإسلامية، أو “منع الحجاب” في بلدانها، أو الإساءة الإعلامية إلى الإسلام…ونشهد مثل هذا العنف الرّمزي على مستوى آخر، في تصريحات وخطب قادة الولايات المتّحدة عندما يتحدّثون مع الدّول العربية والإسلامية.
إذ تقتصر تلك التّصريحات على الأمر والنّهي وعلى التّأكيد إنّ الولايات المتّحدة قالت ما تريد وتنتظر الاستجابة…وهذا المستوى من العنف الرّمزي الذي قد يتحوّل إلى عنف مادي مباشر يغذي عند الطرف المقابل “الكراهية” التي قد تتحول بدورها إلى عنف مباشر ضد الأفراد أو المؤسسات خارج إطار الدّولة وعنفها “المشروع” (خطف رهائن-تفجير سفارات أجنبية-اعتداءات مختلفة…).
إنّ تفسيرات العنف “التّقليدية” والتي لجأنا إلى بعضها في بداية البحث، تتحدّث عن ثلاثة “مصادر” للعنف: أصالته في الطّبيعة الإنسانية، والتّربية الأسرية والحياة العائلية التي نعيشها في مرحلة أساسية من أعمارنا، والمحيط الاجتماعي بمكوّناته السّياسية والاقتصادية والثّقافية والاجتماعية…فحيث يسود الاستبداد على سبيل المثال ترتفع احتمالات اللّجوء إلى العنف.
وحيث ينتشر التّفاوت والتّنمية غير المتوازنة في مناطق كثيرة من العالم ، أو حيث تهمّش ضواحي العواصم، أو يستبعد سكانها من الاندماج الاجتماعي والثّقافي، كما هي حال معظم الجاليات الإسلامية في العواصم الغربية، وحال السّود في الولايات المتّحدة، سيبرز العنف كمشكلة لسكان تلك الضّواحي، وللسّلطة في وقت واحد.
التحوّلات الاجتماعية وأشكال العنف
إنّ التّحولات التي تشهدها المجتمعات على جميع المستويات وتنتقل بسببها من مرحلة إلى أخرى، تترك تأثيرات مهمّة على أشكال العنف وأساليبه وانتشاره ورمزيّته. ومن الطبيعي أن تختلف مبرّرات العنف وتعبيراته والقوانين التي تحد من انفلاته في المجتمعات الزّراعية، عن تلك التي يمكن أن نلحظها في حقبة الثورة الصّناعية واختراع الآلات والتّطور الاقتصادي المبني على المصانع، أو عن تلك الموجة الثالثة من التّحول التي تقوم على أساس المعرفة والعلم والتي أخذت تحل محل جهد المزارع في حقله والعامل في مصنعه. وهذه الموجات من التّغيير، كما يسمّيها الفن توفلر، هي تغييرات اقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية تؤثر في منظومات القيم وفي الحياة اليومية بكل الوسائل والطّرق، وهي أسلوب جديد في الحياة آخذ في الانتشار على المستوى العالمي.
أما الفارق بين تلك الموجات فهو السّرعة التي تحصل بها. وكما أشار إلى ذلك بول كينيدي فقد استغرقت الزّراعة من تسعة ألاف إلى عشرة ألاف عام لتنتقل بسرعة كيلومتر واحد في السّنة من الشّرق الأوسط إلى شمال أوروبا، وهو تحوّل بطيء ومتدرّج للغاية. ولكن عصر التّصنيع تطلّب من قرنين إلى ثلاثة قرون فقط ليعبر جزءًا كبيرًا من العالم…أما الموجة الثالثة من التّغيير فلا تقاس بالقرون أو بالألفيات، ولكنها تقاس على الأرجح بالعقود…فالتّقنية تقاس غالبًا بالوقت الحقيقي وبصورة آنية.
إنّ هذا التّسارع في التّغيير لا يحدث بدون صراع، وأي نظرية للتّغيير الاجتماعي يفترض أن تشتمل على نظرية للصّراع، حتى لو لم يكن هذا الصّراع بالضّرورة قائمًا على العنف([7]). لقد ترافق هذا التّغير المتسارع في أنماط الحياة مع تغيّر آخر، بطيء حينًا، وموازٍ حينًا أخر، على المستويات الفكرية والاجتماعية والثّقافية. ومثل ما سمح هذا التّطور بانتقال الأفراد والمعلومات من مكان إلى آخر بسرعة قياسية مقارنة مع العصور السابقة، فإن تقنيات الاتصال والمواصلات الحديثة سمحت أيضًا بانتقال الأوبئة والجراثيم (السيدا) بالسّرعة نفسها، وكذلك شبكات الجريمة والعنف بأنواعه المختلفة. فتجاوزت حدود أوطانها إلى الحدود التي تصلها شبكات الإنترنت في العالم.
وهكذا باتت المواقع على تلك الشّبكات مرتكزًا للتّواصل بين أفراد “جماعة إرهابية” ما، ومسرحًا لعرض مآثر تلك الجماعة في تخويف أعدائها وتسجيل انتصاراتها. وهو أمر لم يكن من المتخيّل حدوثه قبل نحو عقدين من الزّمن. وهو عامل إغراء لهذا النّوع من الأعمال. أما الوجه الآخر لهذا التّغير على مستوى علاقات الأفراد فيما بينهم، فيكمن في التناقض بين انفتاح الأفراد على آخرين لا يحدهم مكان أو ثقافة، وبين نمو العزلة بين أفراد المجتمع الواحد، ففي الوقت الذي اتسع فيه مجال العلاقات “الافتراضية” والعلاقات عبر القومية وعبر الحدود، وأصبح الأفراد أكثر حرية، إلا أنّهم أصبحوا في الوقت نفسه أكثر تفكّكًا اجتماعيًا، وانتهى بهم الأمر إلى العزلة([8]).
وهذه العزلة هي بيئة مؤاتية للعنف غير المادي أو غير الجسدي بالضرورة (نفي الآخر)، وللعنف ضد الذات (الانتحار-الإدمان…)، والفرد المنعزل مضطر لأن يصارع غيره من أفراد جماعته ويتفوّق عليهم وفي أغلب الأحيان وينحيّهم. وأنّ تفوق الواحد غالبًا ما يعني اندحار الآخر. وإن النّتيجة النّفسية لهذا الوضع هي تفّشي التّوتر العدائي بين الناس، فكل فرد هو خصم حقيقي أو محتمل للجميع…”([9]).
أدّت هذه التّحولات المتسارعة على مستوى آخر إلى ما يتحدّث عنه كثيرون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، أي تزايد الفقر والفقراء، في مقابل قلة من الأغنياء. بحيث بلغ هؤلاء بضع مئات من الأثرياء يمسكون بمعظم ثروات العالم.
إن هذا الواقع الذي يترافق مع ضغوط شديدة على بلدان العالم (الجنوب خصوصًا) لتغيير أنظمتها السّياسية والاقتصادية والاجتماعية لا يتوقع منه، كما حصل في أكثر من مكان، سوى الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار (العنف الداخلي)، فالأمن الذي حقّقته الدّولة في العقود الماضية والرّخاء الاقتصادي الذي وفّرته لمواطنيها كان له تأثير مهم على السّلوك الإنساني الذي كبح عدوانيّته لتلبية ضرورات الفردية وحاجات السوق، وبحثًا عن السّعادة وحرية الحركة والتّنقل…
إلا أنّ التّحول السّريع الذي أشرنا إليه، في العقود الأخيرة، والذي أدّى إلى تراجع دور الدّولة وخدماتها لمواطنيها، فتح أبواب التنافس من دون ضوابط أخلاقية على مصراعيها، فبات الآخرون بسبب هذا التّحول على هامش الإدراك، وبلا دلالة، وتحرّر الأفراد من قيود الدّفاع عن الجماعة التي فقدوا الارتباط بها وبهويّتها. وباتوا أكثر انشغالاً بأنفسهم وممتلكاتهم وهوياتهم… ويذهب جوزيف بستيو([10]) إلى الاستنتاج بأنّ تقدم قانون العقوبات مع تقدم التصنيع والديمقراطية والتّسامح إلى درجة اللامبالاة بالقيم وبالآخرين…، أدى إلى تراجع تأكيد الذات عن طريق الشجار والمبارزة، وإلى تراجع العنف في الشارع (وإلى استنكاره عندما يحصل في أي مكان) لكن نفاذ الصّبر والعنف أصبح قاصرًا على المجال الذي نهتم فيه بالآخرين وهو الأسرة…
ولعل هذا يفسّر إلى حد بعيد ظاهرة العنف الأسري في المجتمعات الغربية التي انكشف حجمها من خلال الجمعيات المختلفة حول حقوق الإنسان وحقوق المرأة والجمعيات المناهضة للعنف ضدّها، والتي انتشرت بشكل واسع جدًا في أكثر من مكان في العالم في العقدين الأخيرين.
إنّ التّحولات الاجتماعية وموجات التغير المتسارعة وتأثيراتها على العلاقات بين الأفراد وعلى أشكال العنف، لا تعني أن أي مجتمع مهما بلغت درجة بساطته أو تقدّمه يمكن له أن يحفظ بقاءه واستمراره من دون حد معين من العنف يستخدمه، من خلال القوانين ونظام العقوبات لردع عنف الأفراد أو الجماعات الذي قد يهدّد استقرار المجتمع، أو بقاء السّلطة، أو ملكية الآخرين، في مقابل الجماعات التي لا تجد سوى في العنف أو في الثورة سبيلاً لمواجهة سلطة مستبدّة أو لطرد احتلال.
لأنّ العنف هنا هو رفض للواقع ولتراكماته السّيئة، وتحدٍ للقانون الذي يعطي البعض السّلطة والمال ، ويحرم البعض الآخر (العنف السياسي). أما العنف الذي يذهب إلى حد التّضحية بالنّفس فيتّصل بأهداف تتجاوز الفردية إلى مصلحة “الأمّة أو الجماعة”، ويكفي أن نشير إلى الخلاف المتعمّد، (السياسي) حينًا، والفكري والفقهي حينًا آخر، حول ظاهرة “العمليات الاستشهادية” بين من يؤكد على تلك التّسمية لإعلاء شأن أهدافها وشأن منفّذيها، وبين من يريد تسميتها “عمليات انتحارية” ليقلل من ذلك الشّأن، إلى الحد الذي يريد منه الإيحاء بأنّ هذا النوع من القتل/العنف غير مبرر وليس له أو لقضيّته أي قيمة أخلاقيّة أو دينيّة…
تأثير التحوّلات الاجتماعية على الأسرة
لقد تأثّرت الأسرة أيضًا بهذه التّحولات المتسارعة، والتي لم تبقَ على حالها أو على شكلها الموحد. وبتنا نشهد في عالم اليوم أكثر من نموذج للأسرة “فلدينا ما يسمى اليوم بالأم العازبة أو الأب العازب، ولدينا أزواج بلا أطفال، ولدينا أسرة مكونة من زوجين يعملان، ومن زوجين من الجنس نفسه… وعليه فإن تعريف الأسرة “بالأب الذي يذهب إلى العمل والأمّ التي تبقى في المنزل” سيصبح غير ذي معنى.
وبالإضافة إلى ذلك ثمة معدلات طلاق مرتفعة، وهناك أناس متزوّجون للمرّة الثانية أو الثالثة، ولدينا أطفال هم ثمرة هذه الأنواع المختلفة من الزيجات وجميعهم يتعارفون ويشكلون صلات قرابة جديدة ([11]). ولا ندري بسبب غياب أو تجاهل الدّراسات البحثية والتربوية لآثار هذا التّحول الاجتماعي/الأسري، ماذا سينتج عن هذه النماذج المتعدّدة للأسرة من اضطراب نفسي وعدم استقرار علائقي، ونشوء اتجاهات عنيفة غير متوقّعة نحو المجتمع أو نحو الوالدين…
إلا أنّ ما يعنينا أكثر في علاقة النموذج الأسري بالاتجاه نحو العنف، هو ما يتّهم به نموذج الأسرة العربية (الإسلامية) من أنّه نموذج سلطوي أبوي يحتكر السّلطة، مما ينتج: إما انكفاءً نحو العزلة والخضوع والطاعة (للحاكم أيضًا)، وإمّا اندفاعًا نحو العنف والتّمرد (على المجتمع والسّلطة) ما يعكس الاضطراب وعدم التوازن الذي ينتج عن هذا النموذج البطريركي، ويحتاج الأمر إلى بعض التفصيل وإلى النقاش من زاوية العلاقة بين التّربية والسّلطة وموقع العنف في هذه العلاقة.
كيف توصف الأسرة العربية؟
1-هي بنية تسلّطية: “إنّ النسق الأبوي البطريركي يشكل منطق الوجود الاجتماعي العربي ونسيجه، وذلك بما تنطوي عليه هذه البنية البطريركية من تسلط العقل الواحد والرّأي الواحد في إطار المجتمع والدّولة والأسرة([12]). والثقافة العربية تعاني من العلاقات الاجتماعية، التي تأخذ طابع الإكراه والتّسلط التي تضرب جذورها في العائلة والمدرسة والحياة العامة…
وبموجب هذه العلاقات يخضع الصّغار للكبار، والأبناء للآباء والإناث للذّكور، والفقراء للأغنياء… وإنّ العنف، كما يقول مصطفى صفوان، يدخل في نسيج العملية التّربوية. وبالتالي فإنّ السمة التسلّطية تعود إلى الطّبيعة الأبوية للمجتمع العربي…”([13]).
2-الأسرة تجسد العنف المفروض:”فالطّفل العربي يعيش في عالم من العنف المفروض داخل الأسرة الذي يجسّد إلى حد كبير اعتباط السّلطة الأبوية حيث يترتّب على هذا الطّفل في هذا السّياق أن يعيش بين اكراهات الحبّ الأمومي، وبين اكراهات القسر الأبوي…”([14]).
3-الأسرة تعيد إنتاج علاقات السّيطرة:”فالمدرسة في الأنظمة التربوية العربية توظَّف لتلعب دورًا إيديولوجيًا يتمثّل في عملية إعادة إنتاج علاقات القوّة والسّيطرة، وبالتالي فإنّ إعادة علاقات السّيطرة والقوّة والخضوع أمر يتم في المؤسّسات التّربوية ولاسيّما في إطار الأسرة والمدرسة”([15]).
كما تربط بعض تلك الدّراسات حول الأسرة العربية “بين السّلوك الأبوي الصارم وبين درجة سلوك “التّلميذ العدواني”. وتعتبر أنّ “التسامح التّربوي يساعد على وقاية الطّفل من الانفجارات العاطفية والعدوانية… ([16]).
لا يمكن في الواقع الرّكون إلى هذا النّوع من الدّراسات حول سلطة الأسرة العربية وبنيتها القهرية العنيفة وأبويتها الذي يستند إليه الكثير من الباحثين في الدّراسات السّياسية والاجتماعية والتّربوية للأسباب التالية:
أوّلا: لأنّه يعني أنّ من تربى في حضن هذه الأسرة (ربما باستثناءات قليلة) هو إما منكفئ انعزالي، وإمّا خاضع ومقهور، وإمّا متمرّد وعنيف. أي إنّ هذه الأسرة بشكلها الحالي المتواصل منذ مئات السّنين، لم تنتج إلا أشخاصًا غير أسوياء فاقدي التّوازن والاستقرار. وهذا غير صحيح، وغير منطقي.
ثانيًا: لأنّ هذه الدراسات لم تلحظ تأثير التّحولات الثّقافية والإعلامية والتّربوية المتسارعة حتى على الأسرة العربية التي فقدت جزءًا مهمًا من سطوتها التّقليدية سواءً على مستوى امتدادها الأفقي في المجتمع، أو على مستوى حريات الأبناء في داخلها بعدما أصبحت تلك الحرّية محورًا مهمًا في الأفكار والبرامج التّربوية، في المؤسّسات التّعليمية. وبحيث تحوّلت الشّكوى من صعوبة إخضاع الأبناء إلى ظاهرة في الأسر وفي المدارس المختلفة، وكذلك ظاهرة الطّلب المتزايد على الحريّة من جانب الأبناء، وعلى تقليص سلطة الوالدين أو المربين..
ثالثًا: لأنّ هذه الدّراسات لم تلحظ الفوارق المهمّة بين بلد عربي وآخر من حيث شدّة المحافظة على العلاقات الاجتماعية والعائلية، وتعتبر أنّ الأسرة العربية هي نتاج مجتمع عربي واحد، يسوده التّسلط والقهر… وهذا غير صحيح فواقع الأسرة في لبنان يختلف عنه في اليمن أو في المملكة السّعودية على سبيل المثال.
رابعًا: لأنّ معظم هذه الدّراسات، تنتقد النّظام الأبوي التّسلطي، ولا تطرح بدائل له وتترك الأسرة، من دون أي نظام آخر للسلطة. علمًا بأنّ حاجة الطّفل و(لاحقًا الفرد) التّربوية والنّفسية إلى السّلطة هي حاجة أكيدة، لمساعدته على ضبط اندفاعاته الذاتية، والعنفية الغرائزية، ولتسهيل اندماجه الاجتماعي، فيذهب د.حليم بركات على سبيل المثال إلى القول: إنّ عمليات التّرهيب والتّرغيب تمارس على الإنسان من قبل مختلف المؤسسات الاجتماعية وفي طليعتها مؤسسات العائلة والدين والاقتصاد والتّربية…
وإنّ على المؤسسات الحديثة أنّ تعمل على تجاوز الولاءات التّقليدية…”([17]). وكذلك يدعو كريم مروّة “إلى التّخلص من سيطرة المؤسّسة العائلية…التي تعيق حركة النّهضة”([18]).
خامسًا: تساوي هذه الدّراسات بين السّلطة والتّسلط. وترفض الاثنين معًا، لكنّنا نرى أنّ الإنسان يحتاج إلى السّلطة على المستويات الفردية والاجتماعية ولا يحتاج إلى التّسلط. وإذا كان ثمّة ظواهر سلبية في التّربية العربية فمنشؤها التّّسلط وليس السّلطة.
كما أنً منشأ الكثير من الظواهر الأخرى كالانحراف أو العنف، هو غياب السّلطة العائلية أو تراجعها وتراجع دور السّلطة المدرسية. ولكن ذلك لا يجعلنا نهمل بعض جوانب العنف المادية والرّمزية التي يتعرّض لها الأطفال في الأسرة أو في المجتمع مثل: الإهمال والتّجاهل وعدم إشباع الحاجات العاطفية، التّعنيف المستمر، استخدام ألفاظ التّحقير والإهانة عند مخاطبته، عدم الاستماع لرأيه، أو الاستخفاف به، حرمانه من اللّعب ومن التّواصل مع أقرانه، التّمييز في المعاملة بين الأبناء أو بين الطّلاب، وعدم مراعاة الفروق الفردية، الضّرب المباشر، والاعتداءات المختلفة.
إلا أنّ ما ينبغي تأكيده في الوقت نفسه هو أنّ أيّة عملية تربوية لا يمكن أنّ تتم من دون سلطة مباشرة (أو رمزية) نفرضها على الآخر/المتلقي. ولا تعّلم من دون سلطة تختزن قدرًا من القهر أو المنع. فترغم المتعلّم على أنّ يفعل هذا ولا يفعل ذاك. الإرغام هو مستوى من مستويات العنف. لكنه ضروري في عمليّتي التّربية والتّعليم ومن دون سلطة المربي وسلطة المعلم قد يفشل الاثنان في تحقيق أهدافهما.
ومن المهم الإشارة أيضًا إلى أنّ غياب أو انكفاء سلطة المعلم أو المؤسسة التّعليمية، ساهم إلى حد بعيد في إطلاق كوامن العنف عند تلامذة المدارس في كثير من دول العالم خاصة في البلدان الغربية ، بحيث تحوّل هذا العنف بين التلامذة أنفسهم أو ضد معلّميهم وضد ممتلكات المؤسّسة إلى ظاهرة مقلقة في بلد كفرنسا، والتي فرضت على بعض المسؤولين إعادة البحث في المفاهيم التي أدّت إلى تلك الظاهرة مثل حريّة الطفل ومركزيّته في العملية التربوية. لأنّ مثل هذه المفاهيم ساهمت في إضعاف فكرة السّلطة من جهة وشجّعت تعبيرات العنف بأشكاله المختلفة والمتفاوتة من جهة أخرى…
الخلاصة
إنّ العنف في المحصلة ليس سلبيًا بالمطلق، فهو طاقة ضرورية لحفظ الإنسان ولإعمار الأرض. ولا يتحوّل العنف إلى قوّة سلبية إلا عندما يتجاوز ضوابط القانون والدّين والأخلاق. أي عندما يتوجّه نحو الإنسان لقتله أو نحو الحيوان لإيذائه من دون سبب، أو حتى نحو البيئة لتلويثها أو لتدميرها.
وتختلف أشكال التّعبير عن العنف في المجتمعات بحسب بساطتها أو تعقيدها. من العنف الظاهر والمباشر إلى العنف الرّمزي والمقنّع. ولا يخلو أي مجتمع من النّظام والتّقاليد التي تحدّ من العنف، لأنّ شرط استمرار أي علاقة بين الأفراد وهي حاجة ضرورية ومتبادلة، هو كبح العدوانية الفردية التي لا تعني سوى التّخلي الطوعي أو الإلزامي النسبي عن الذاتية والأنانية.
وتلعب التّربية دورًا مباشرًا ومهمًا في تدريب الطّفل منذ حداثته على السّيطرة على نزعات العنف لديه. وفي تدريبه على التّضحية، وعلى قبول الآخر، وهو نقيض العنف في إلغاء الآخر.
من هنا تلك الأهمية المتواصلة للتربية في كلّ العصور قديمًا وحديثًا. فإذا كانت متساهلة أو متسلّطة ستفشل ليس فقط في تنظيم نزعة العنف عند المتلقي، بل وستؤدّي إلى تعزيز فرص إطلاق تلك النزعة. لأنّ فقدان السّلطة أو ضعف تأثيرها لن يؤدي سوى لإطلاق عنان الرّغبات من دون أي اعتبار للآخر، كما أنّ شدّة السّلطة (التّسلط) لا يعني سوى كبت العنف الذي سيبحث عند أية فرصة وفي أي مكان عن التّعبير عن نفسه بأية طريقة وبأية وسيلة.
إنّ دراسات العنف في عصرنا الحالي أشدّ تعقيدًا منها في أية مراحل سابقة. فبالإضافة إلى ثوابت التّأثيرات العائلية والاجتماعية على اتجاهات العنف عند الأفراد، فإنّ عنفًا من نوع آخر تتسم به المجتمعات الحديثة هو عنف العزلة والانقطاع الإنساني. وعنف السّيطرة والتّضليل أو حتى خدش الحياء الذي تمارسه وسائل الإعلام من دون انقطاع، والتي لم تكن على هذا المستوى من التّقدم والتّطور والتّأثير.
وعنف تهميش الآخر الإرادي أو اللاإرادي…بالإضافة إلى العنف المباشر الذي يزداد اتساعًا وتنوّعًا وتمارسه دول كبرى بتقنيات حديثة شديدة التّطور لا تستطيع الدّول الصّغرى إنتاجها أو الحصول عليها… ذلك هو العنف: الذي يتبرأ منه الجميع، وهو موجود في كلّ مكان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – فيليب تايلور: “قصف العقول” سلسلة عالم المعرفة، عدد 256/2000 . هربرت شيلر : المتلاعبون بالعقول، سلسلة عالم المعرفة، عدد 106/1986
[2]- راجع طلال عتريسي: قراءة في الأبعاد الثقافية والاجتماعية والدينية لظاهرة العنف مجلة الحياة العدد التاسع 2002
[3]- Max weber: economie et societe 1922. Reed poket 2003
[4]- Michel Foucault : “surveiller et punir , Naissance de la prison reed , Gallimard 2003.
[5] – Yves Mechaud: Cetre humain nest pas un animal tender” Revue S. Humaines N”47 (hors-serie) P.18-19
[6] -Philippe Braud: “Des attentats aux guerres, les violences politiques: Revue S Humaines.OP.cit.P17.
[7] -الفن توفلر:”تحوّل الثقافات، الانعكاسات على الفرد والأسرة والمجتمع”. في “هكذا يصنع المستقبل” مركز الإمارات للدّراسات والبحوث الإستراتيجية. أبو ظبي 2001(ص.35-39).
[8] -جوزيف بستيو: “العنف والعجز والفردية” المجلّة الدّولية للعلوم الاجتماعية عدد 132.
[9] – العنف والمجتمع مجموعة من المؤلّفين , المؤسّسة الجامعية للدّراسات والنّشر، بيروت 1933، (ص74).
[10] -جوزيف بستيو: مرجع سابق ص340.
[11] -الفت توفلر، ومرجع سابق ص 57.
[12] -عبد القادر عرابي “أزمة المثقف العربي: المحنة الدائمة: دراسة في نشأة المثقف العربي وسوسيولوجيته” المستقبل العربي السّنة 18، عدد 196،/1995 ص42.
[13] -مصطفى صفوان: صناعة القهر: “علاقة العلم بالإبداع في المجتمع العربي” الناقد، عدد 71/1994 ص43.
[14] -مصطفى حجازي: “التّخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. معهد الإنماء العربي، بيروت 1989.
[15] -علي أسعد وطفه: بنية السّلطة وإشكالية التّسلط التّربوي في الوطن العربي”. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999 ص37.
[16] -علي وطفه: المرجع نفسه ص82.
[17] – حليم بركات: المجتمع العربي في القرن العشرين، بحث في تغير الأحوال والعلاقات- مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الاولى2000(ص924).
[18] – مجلة الطريق العدد السادس 1998.