يعتقد جميع المسلمين أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، سيملأ الأرض كلَّها قسطاً وعدلاً، فهو إذاً ليس شخصية عادية، ومَهمَّته مَهمَّة صعبة، وغير عادية؛ لذا لا بدّ أن يكون الشخص المدَّعي لأمر المهدوية على يقين قاطع بأنّه هو المهدي المنتظر، ونلاحظ أنّ الرسول (صلّى الله عليه و آله) مع أنّه شاهد جبريل (عليه السلام) وأُنزل عليه القرآن الكريم، وأُسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث عُرج به إلى السماء ـ مع ذلك كلِّه ـ كان يقصُّ الله عز وجل عليه قصص الأنبياء، ما يثبِّت به فؤاده، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ 1 وذلك التأييد والتثبيت لازم له (صلّى الله عليه و آله)؛ لأنّ مَهمَّته صعبة وسوف تكون فيها حروب دامية، وخروج من الديار والأهل وغير ذلك، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يريد أن يحكم الكُرة الأرضية كلَّها ليملأها قسطاً وعدلاً؟ ألا يحتاج إلى ما يوصله إلى أعلى درجات اليقين، بأنّه هو المهدي المنتظر المقصود والموعود به لتلك الـمَهمَّة العظيمة؟
ومن هنا يظهر الإشكال عند إخواننا أهل السنة؛ حيث يعتقدون أنّه مع انقطاع الوحي عن الرسول (صلّى الله عليه و آله)، انقطع اتصال الملائكة بأولياء الله في الأرض، وبشكل عامّ يعتبرون دعوى نزول الملائكة على أحد من الخلق بعد رسول الله (صلّى الله عليه و آله) منكرًا من القول، ويتّهمون من يقول بذلك بأنه يدَّعي النبوَّة لمن تنزل عليهم الملائكة، أو يتّهمونه بالغلو، وغير ذلك من التَّهم؛ ولذا يشنُّون على الشيعة الإمامية الحملات الإعلامية القاسية، لوجود روايات ـ عند الإمامية ـ تذكر نزول بعض الملائكة على الزهراء (عليها السلام) بعد وفات النبي (صلّى الله عليه و آله) لمواساتها (عليها السلام)، ويعتبرون ذلك من الغلوُّ، ويعتقدون أيضاً أنّه لا يوجد معصوم من بعد الرسول (صلّى الله عليه و آله).. لذا نسألهم:
كيف يَعرِف المهدي المنتظر ـ باليقين الذي لا يخالطه شكٌّ ـ أنّه هو المهدي الموعود؟ مع العلم أنّه قد ظهر في المجتمعات السنية والزيدية مَن ادِّعى لنفسه المهدوية، ولكن لم يفلحوا، ولم يقبلهم عامّة الأُمَّة.
فالمهدي يلزم أن يتوفَّر على اليقين بكونه هو المهديُّ المنتظر الموعود، وهذا اليقين لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ من أحد طريقين:
فإمّا أن يحصل له اليقين المذكور من خلال نزول الملائكة عليه، أو أن يخبره معصومٌ قولُه حجة بأنّه هو المهدي المنتظر الموعود. وكِلا الطريقين عند أهل السنة والزيدية ممنوع وغير ممكن.. فكيف يَعرِف ويتيقّن المهدي أنّه هو المهدي المنتظر حقيقةً؟
فلم يبقَ لهم إلَّا طريقٌ واحدٌ، وهو الوصول إلى ذلك اليقين المذكور من خلال المنامات، وهذا الطريق بإجماع الأمَّة لا يوجب العلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يُقيم حدًّا من حدود الله عزّ وجلّ، فكيف بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يُريد أن يقوم بمهمة صعبة للغاية، يحتاج في تنفيذها إلى أن يدخل في معارك ضارية، قد يُقتل فيها ملايين البشر، أضف إلى ذلك أنّنا ـ والتاريخ يشهد بذلك ـ نعرف أناسًا في منتهى التديُّن والإخلاص، ولكنْ كلُّ واحد منهم يرى في مناماته أنّه هو المهدي المنتظر، ولذا يخبرون بعض الناس بذلك، وتتكوّن لهم جماعات صغيرة ثمّ يموتون، أو ينصرفون عن دعواهم، وتنتهي مسألتهم، أو قد يهجم عليهم عوامّ الأمَّة بتحريك من العلماء، فتقتلهم أو تطردهم، فما حكم هؤلاء؟.. وهل يحقُّ لنا عدم قبول دعواهم؟ وهم في الواقع صادقون في أنّهم رأوا تلك المنامات، بل قد تحصل رؤيا أو أكثر لدى بعض الناس بما يؤيِّد دعواهم، فهل يصحُّ أن نقبل هذه الطريق كطريق لمعرفة مسألة مُهمَّة كمسالة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)؛ مع ما نلاحظه في هذه الطريقة من الفوضى؟
إذاً سيرجع الجميع إلى رأي ومذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو القول بأنّ الملائكة تنزل على أولياء الله، وتبلّغهم أوامر الله عزّ وجلّ، أو أنّه لا بدّ من معصوم قبل المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) يُخبره بأنّه هو المهدي المنتظر. وهذا هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فمن فكّر مليًّا في هذه الأُمور، ودرس القضية من جميع نواحيها، وأنصف فطرته وعقله؛ فسوف يرى أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو المذهب الوحيد الذي تنسجم فيه تلك البشائر النبوية مع الواقع.. وأمَّا مهديٌّ ليس لديه دليلٌ على أنّه هو المهدي المنتظر إلَّا مجرَّد أحلام ومنامات، كيف يستطيع أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويُزيل الظَّلمة والعتاة، ويُدمِّر أهل الشرك والعناد؟.. إنّه أمر واضح لمن أراد أن يتدبَّر فيه ويتأمّل.
وهذا الإشكال نفسه يُطرح على إخواننا الزيدية أيضاً، حيث يقولون بانقطاع العصمة الفردية عن أهل البيت (عليهم السلام) بعد الحسين، وانقطاع اتصال الملائكة بأهل البيت (عليهم السلام) بعد الرسول (صلّى الله عليه و آله).
ولا زلتُ أتذكّر جيّداً، حينما سألت يوماً أحد كبار علماء الزيدية هذا السؤال:
كيف يَعرِف المهدي أنّه هو المهدي الموعود؟
فسكت قليلاً، ثم قال: المهدي لا يعرف أنّه هو المهدي المنتظر، بل هو رجل من أهل البيت (عليهم السلام)، يدعوا الناس لإحياء الإسلام، ويواجه الظلمة والمتكبرين، وينتصر عليهم انتصارات عظيمة، وبعد أن يملأ الأرض عدلاً وقسطاً؛ يعرف أنّه هو المقصود بتلك الروايات الـمُبشِّرة بالمهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) من قبل الرسول (صلّى الله عليه و آله).
فكان هذا هو جواب ذلك العالم الكبير. وهذا الجواب لم يرفع تلك الشبهة من ذهني في ذلك الحين، بل رأيته قد زاد الإشكاليةَ تعقيدًا؛ إذ ما هو حكم الذين يقاتلونه، وهم لا يعرفون أنّه المهدي، في حين أنّه لم يدَّعِ ذلك ليُلزمهم الحجة باتِّباعه؟
فمثلاً: إذا قرَّر المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) الذي لم يَعرف بمهدويَّته بعد، إذا قرَّر فتحَ بعض البلاد؛ فإنَّ أحرارَ تلكَ البلاد سينظرون إليه كغازٍ ومهاجم يقصد استعمار بلادهم.. فلا هم يعلمون أنَّه المهديُّ المنتظر الذي تجب عليهم طاعته والانقياد لأوامره، ولا هو بالذي يعلم ذلك حتَّى يخبرهم فيُتمَّ الحجَّةَ عليهم.
فهذا إشكال أكبر من إشكالي الأول، وكان ذلك الجواب، كالمثل القائل: (وزاد في الطين بلة).
___________
1. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 120، الصفحة: 235.