إنّ فكرة ظهور المصلح الذي يصحّح المسار الإنساني في آخر الزمان تتضمّن نقطتين أساسيتين لا بدّ من الوقوف عندهما:
الأولى: مقام الإنسان عند الله.
الثانية: حكومة العدل الإلهي.
وذلك لأنّ وجود المصلح هي الفكرة الثابتة والمشتركة بين أهل الأديان السماوية جميعاً، وبما أنّ هذه الأديان من منبعٍ واحد هو الله عزّ وجل الخالق للإنسان والكون والحياة، فهو قد أوجد الأرض وهيّأها لسَكنِ الإنسان فيها ولإعمارها وفق مقتضيات الإرادة والتخطيط الإلهيين، وبما أنّ الله هو محض الجمال والكمال فهو أراد للحياة الإنسانية في الأرض أن تكون مظهراً من مظاهر جماله وكماله، وهذا يعني أن يكون الإنسان ذا مقامٍ عالٍ عند الله يتفوّق به على باقي الموجودات ويتمتّع بنوعٍ من السلطة والحاكمية، وهذه السلطة المعطاة للإنسان تفترض إنطلاقاً من العدل الإلهي الذي نؤمن به ضرورة وجود نظام وشريعة وقانون يضبط العلاقات ويحدّد الضوابط التي تؤدّي إلى تحقيق الهدف الإلهي للحياة الإنسانية وهو إقامة "الحكومة العادلة"، وبما أنّ النوع الإنساني واحدٌ في احتياجاته المادية والروحية، وهذا الإنسان موجود في كلّ بقاع الأرض فلا شكّ إذن أنّ الحكومة العادلة يجب أن يشمل حكمها كلّ بني البشر وهذا يعني أنّ تلك الحكومة ينبغي أن تكون "حكومة عالمية واحدة".
وبلحاظ النقطتين المذكورتين نجد أنّ الأديان الإلهية وبخاصة "الإسلام" و"المسيحية" تتضمّنان الكثير من النصوص الدالّة عليهما ونذكر نماذج عنهما بما يلي:
-نماذج عن النقطة الأولى- من القرآن نجد قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ 1، و﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 2، و﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ... ﴾ 3. وفي المسيحية نجد التالي:
الآية "26" من الإصحاح الأول من سفر الظهور في الكتاب المقدّس:(الإنسان مسلّط على سائر الحيوانات أي أنّه حاكم على أسماك البحار وطيور السماء وبهائم البر والحشرات الزاحفة)، وفي قاموس الكتاب المقدّس ـ ص114 ـ (ولأنّ الله تعالى خلق الإنسان في التقدّس والعدالة على صورته فقد جعل له شريعة).
-نماذج عن النقطة الثانية- من القرآن نجد قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ 4و﴿ ... أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 5و﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... ﴾ 6و﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 7. وفي المسيحية نجد التالي في المزمور "السادس والتسعين": (بلّغوا بين الأمم أنّ الإله سوف يحكم وتأمن المسكونة ولن تشعر بالخوف أبداً، وسوف يقضى بين الناس بالعدل والإنصاف وتبتهج السماء وتفرح الأرض).
بعد اتضاح التّوافق في النقطتين يصل الكلام إلى الحديث عن من هو ذلك ("المخلّص" الذي سيقود الإنسانية لتحقيق حكومة العدل الإلهي؟).
هنا نجد في المسيحية وكذلك في الإسلام العديد من الصفات المشتركة في شخصية المخلّص.
صفات المخلّص في الإسلام: تذكر الآيات والروايات أنّ اسمه "بقية الله" و"المهدي" و"نور الله" و "صاحب الزمان" وغير ذلك من الأسماء، ووظيفته أن يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وهذا يعني إقامة حكومة العدل الإلهي، وتدين له كلّ الأمم والممالك كما في قوله تعالى:﴿ ... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ... ﴾ 8، وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه: (إذا قام القائم(عليه السلام) لا يبقى أرض إلاّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله)، وهو حي يُرزق وإن كنّا لا نراه وننتفع من غيبته كما ننتفع من الشمس إذا غابت عنا بسبب الغيوم وعند خروجه سيكون معه أصحابه المخلصون وهم قادة جيوشه وهم من أكثر الناس إيماناً وإخلاصاً وطاعة، وقبل ظهوره تمتلئ الدنيا ظلماً وفساداً حتّى تضجّ الأمم كلّها وتنادي برفع الظلم والجور وتحقيق العدل وإقامة موازين الحق، وسيكون مؤيّداً و مسدّداً من الله عزّ وجل وسوف تُظهر الأرض بركاتها وخيراتها التي كان الظلم سبباً في منعها عن العباد، وأنّ النبي عيسى(عليه السلام) ينزل من السماء ويصلّي خلفه، ويؤمن المسيحيون عندئذٍ بالإمام المهدي(عج)، وينتقم لكلّ دماء المظلومين المسفوكة عبر عصور التاريخ من المستكبرين في زمانه لأنّهم النموذج السيّء عن كلّ المستكبرين عبر العصور، ويتمنّى الناس في عصره لو أنّهم يبقون أحياء ليعيشوا الحياة العادلة بالمعنى الإلهي الذي يرونه حقيقة وواقعاً لكلّ آمالهم وطموحاتهم.
صفات المخلّص في المسيحية: في كتاب التوراة سفر الظهور الإصحاح 49 آية 10: (لن تزول عصا القدرة والسلطنة من اليهود، ولن تخرج صلاحية التشريع عن سلطتهم حتّى يظهر "شيلو" ـ أحد أسماء المخلّص ـ وتذعن له الأمم بالطاعة)، وفي إنجيل يوحنا الإصحاح 16: (الحق أقول عن رحيلي نافع لكم لأنّي لو لم أرحل له يأتي إليكم المسلّي ـ أحد أسماء المخلّص ـ ولكن إذا رحلت فإنّي أوفده إليكم لأنّه عندما يأتي يملأ الأرض بالعدل والخير...)، وفي إنجيل متّى الإصحاح 24 الآية 27 تقول: (لأنّه كما أنّ البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان ... وحينئذٍ تظهر علامة إبن الإنسان في السماء وحينئذٍ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون إبن الإنسان آتياً من السماء بقوّة ومجدٍ كثير... وأمّا ذلك اليوم الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السموات...لذلك أنتم كونوا مستعدين....).
وفي إنجيل لوقا الإصحاح 12 الآية 40: (فكونوا أنتم إذاً مستعدّين لأنّه في ساعة لا تظنّون من أين يأتي إبن الإنسان)، وفي زبور داود من الكتاب المقدّس المزمور 37 يقول: (وينقطع الأشرار وأمّا المنتظرين لله فإنّهم يرثون الأرض، وفي المزمور 27: (حتى يحكم عبادك والفقراء إليك بالعدل والإنصاف ويحكم المستضعفون وينجو المساكين وينكسر الظالمون).
وبهذا يتبيّن من هذه المقاطع من الكتب المقدّسة عند المسيحية أنّ المواصفات هي نفسها ولكن بعباراتٍ مختلفة، وهذا ليس بغريب لأنّ المسيحية والإسلام من عند الله عزّ وجل فهما أُنزلا من أجل نفس الهدف الإلهي في حياة الإنسان على الأرض.
من كلّ الذي سبق يتّضح أنّ اليوم الموعود الذي تحكم البشرية به سوف يتحقّق على يد ولي الله الأعظم الإمام الحجة المهدي(عج) وسيقيم حكومة العدل الإلهي، لأنّه البقية الباقية من سلالة الأنبياء الذين أناط بهم ربّ العزّة قيادة المسيرة الإنسانية، وسيكون المسيح إلى جانبه ويصلّي خلفه ليكون الحجّة على كلّ الذين يؤمنون به في ذلك الزمن ولينضووا تحت راية المهدي(عج) الجامعة لكلّ أتباع الديانات السماوية ولتشرق الأرض كلّها بنور ربّها صادحة بالتوحيد الحقيقي ومعلنة تحقّق المجتمع الإنساني النموذجي بقيادة أولياء الله وعلى رأسهم المهدي(عج) وليظهر جلال الله وجماله وكماله وإبداعاته التكوينية في هذا المخلوق الذي رفع من شأنه وأكرم من مقامه، وليكون ذلك المجتمع الحجّة البالغة لله على كلّ أجيال الإنسانية التي انحرفت عن وظيفتها الأساس وأغرقت نفسها في بحار الظلم والجور والفساد والإنحراف وحاربت كلّ الذين كانوا يعملون على أساس الشرائع السماوية.
والحمد لله ربّ العالمين9.
1. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 70، الصفحة: 289.
2. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
3. القران الكريم: سورة الجاثية (45)، الآية: 13، الصفحة: 499.
4. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 33، الصفحة: 192.
5. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 105، الصفحة: 331.
6. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 55، الصفحة: 357.
7. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 5، الصفحة: 385.
8. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 83، الصفحة: 60.
9. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد (حفظه الله).