لهذا الحب اللامتناهي الإلهي والاهتمام البالغ لعباده وإسدال سوابغ نعمه وآلائه جعل قلوب الأنبياء والأئمة والأولياء متعلِّقة به سبحانه، مشتاقة إلى فرحة لقاءه، طالبة إياه، منصرفة عن سواه، فعبدوه عبادة الأحرار لا طمعاَ في جنته ولا خوفاَ من ناره، بل لأنَّه أهل للعبادة، وشكراَ لنعمه السابغة سبحانه وتعالى. كما أن عذوبة خطابه سبحانه وتعالى لعباده، وحلاوة ودِّه في نداءه، مع أنَّه جبّار السماوات والأرض، جعل قلوب الأولياء تطير إلى ساحة برِّه ومناجاته ومجالسته، فافترشوا وجوههم له، متأوِّهِـين باكين خاشعين خاضعين بين يديه بين قيام وركوع وسجود. يا خليفة الرحمن، سأنقل لك حديثاً قدسياً، يدعوك فيه رب العزِّة والجلال لمجالسته ومحادثته ودعاءه، وانظر مدى عذوبة كلامه، وبلاغة بيانه، ورقَّة خطابه، كل ذلك شوقاً منه للقاك: يا داود أبلغ أهل أرضي أنِّي حبيبُ من أحبّني، وجليسُ من جالسني، ومونسُ لمن أنس بذكري، وصاحبٌ لمن صاحبني، ومختارٌ لمن اختارني، ومطيعٌ لمن أطاعني، ما أحبّني أحدٌ أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي، وأحببته حبّاً لا يتقدمه أحدٌ من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني. فارفضوا يا أهلَ الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلِّموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي، وآنسوني أؤنسكم، وأسارع إلى محبّتكم. وأوحى الله إلى بعض الصدِّيقين أنَّ لي عباداً من عبيدي يحبُّوني وأحبُّهم، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإنْ أخذت طريقهم أحببتُك، وإنْ عدلت عنهم مقتُّك. قال: يا رب وما علامتهم ؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحنُّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنَّهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرّة، وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، نصبوا إليَّ أقدامهم، وافترشوا إليَّ وجوههم، وناجوني بكلامي وتملقوني بأنعامي، ما بين صارخ ٍ وباكٍ، وبين متأوِّه ٍ وشاكٍ، وبين قائمٍ وقاعدٍ وبين راكع ٍ وساجدٍ، بعيني ما يتحملوني من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبِّي.
أول ما أعطيهم ثلاثاً
الأول: أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عنِّي كما اخبر عنهم. والثاني: لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما من مواريثهم لاستقللتها لهم. والثالث: أقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أنْ أعطيه ؟(۱) ومن جملة الآيات القرآنية الواردة في هذا السياق، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(۲) أيْ إلى متى؟ وحتى متى ؟ وقلبك أيها الإنسان لاهٍ قاسٍ جافٍ، مشغولٌ بالمعاصي والذنوب، ألمْ يأتِ الوقت كي تتوب وإلى ربك تعود ؟ فشمِّر عن ساعديك وعد فإنَّه غفورٌ رحيمٌ، قال تعالى﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (۳). ينقل صاحب تحفة الأحوذي: أن فُضيل بن عياض كان شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنَّه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فلمَّا سمعها، قال: بلى يا رب، قد آنَ فرجع فأواه الليل إلى خربة فإذا فيها قافلة، فقال بعضهم نرتحل، وقال بعضهم حتى نصبح،فإنَّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا. قال ففكَّرت، قلتُ أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقومٌ من المسلمين يخافونني ههنا وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع: اللهم إنّي قد تبتُ إليك وجعلتُ توبتي مجاورة البيت الحرام(۴)، فتاب ورجع، فورد مكة وجاور بها الحرم، ومات بها سنة ۱۸۷٫ وقال ابن عساكر كان ثقة ً نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث. (۵) وقد نقل التاريخ بعض كلماته ومواعظه منها: إذا أحبَّ الله عبداً أكثر غمَّه، وإذا ابغض عبداً وسَّع عليه دنياه. ومنها: لو أنَّ الدنيا بحذافيرها عرضت عليَّ، لا أحاسب بها لكنتُ أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أنْ تصيب؟. وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء والعمل لأجل الناس هو الشرك.(۶)
___________
۱- بحار الأنوار- العلامة المجلسي ج ۶۷، ص ۲۶٫ ۲- سورة الحديد: الآية ۱۶٫ ۳- سورة الزمر: الآية ۵۳٫ ۴- تحفة الأحوذي- المباركفوري ج ۷، ص ۲۵۰٫ ۵- حاشية رد المحتار- ابن عابدين ج ۱، ص ۶۲٫ ۶- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر ج ۴۸، ص ۳۸۲٫