بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .
لأن الفردية إن علت فهي الاستبداد وحكم الهوى وإن سفُلَت فهي الأنانية وشقاء العيش وذل الأبد.. فإننا نجد في المنهج الإسلامي حرصاً شديداً على تطويع هذه النزعة، وتهذيب الشعور بالأنا، فيغدو المسلم الأخلاقي متجاوزاً ذاته نحو المسلمين بوجه خاص ونحو الإنسانية كلها بوجه عام ، متماهياً مع منهج القرآن وبذلك يكون قد تجاوز قفصه الشخصي ليكون إنساناً بحق . وذلك لأن تكريس الذات في خدمة الغير على كل صعيد يجعل من الإنسان الآخر ومن الجماعة الإنسانية لدى الإنسان المسلم الأخلاقي غايةً بحد ذاتها وليس وسيلة لتحقيق الذات. وإن أعظم مطامع الإنسان في جميع العصور هو أن يكون غاية للإنسان الآخر ، وهذه الحقيقة تؤدي إلى الالتحام في الهموم والآمال، وإن أسوأ ما يحل بالناس في مجتمع ما أن يتخذ بعضهم بعضاً وسائل لتحقيق أهدافهم الشخصية، وما اكثر ما حل بالإنسانية من نكبات وآلام نتيجة جعل الضعفاء وسيلة يعبر الأقوياء عليها لتحقيق ذواتهم في عالم تسوده شريعة الغاب وعقلية الذئاب. لقد جاء القرآن الكريم بنظرته الأخلاقية السامية التي تجعل الإنسان يتجاوز ذاته نحو إخوانه فيجعلهم غاية فيصل إليها ويتحد بها لا وسيلة يعبر عليها إلى غاياته الخاصة. وهذا ما يجعل الأخلاق الإسلامية تتوحد مع ممارسة الحياة اليومية الخاصة والعامة بجميع جوانبها.. إنها ليست أخلاقاً وعظية وسلبية وإنما هي أخلاق فاعلة تربط بين المسؤولية الشخصية وبين القواعد الاجتماعية للسلوك الأخلاقي وتتوحد مع السياسة. وتوحد الأخلاق مع السياسة يجعل الإسلام دعوة فريدة في نظرها إلى المسألة الأخلاقية حين تجعل من السياسة عملاً أخلاقياً أيضاً بالإضافة إلى جعلها علاقة الإنسان بالآخر عملاً أخلاقياً، فإن كل ما نعرفه من الأنظمة والفلسفات يجعل مبادئ التعامل السياسي شيئاً غير مبادئ الأخلاق،وهو السر في نشوب الأزمة الراهنة التي تهدد الإنسان والحضارة، أما الإسلام فقد جعل من الأخلاق ملح الحياة كلها. وقد كان سلوك المسلمين السياسي مع خصومهم -حتى في أشد الساعات حرجاً عليهم- مطبوعاً غالباً بالأخلاقية العالية النادرة المثال . فالأخلاق الإسلامية ليست محصورة على مجال معين من مجالات الإنسان بل هي شاملة لكل مجال فما يكاد يوجد مورد من الموارد واجه المسلم فيه إلزاماً الهياً يحفظ مصلحة الفرد أو المجتمع أو النوع الإنساني إلا ونجد أن ثمة في مجال ذلك الإلزام دعوة أخرى إلى مثل أعلى وموقف أكمل وأسمى يدعو المسلم أن يتسامى في سلوكه إلى درجة البذل المجاني والعطاء السمح. نجد ذلك في مجالات الأسرة والمجتمع وفي الحرب والسلم وفي الحكم على الناس وعلى الآخرين في القصاص والجنايات.. في كل ذلك وغيره رفع الإسلام للإنسان مثلاً أعلى من التكليف ودعاه إلى التسامي نحوه في كل مجال.. وإن الوظيفة التي تؤديها الأخلاق عند الإنسان هي أنها تدعوه دائماً لأن يرتفع دائماً إلى أعلى.. أن يتسامى عن منطق الواقع والضرورة وأن ينشد الرفعة والسمو وتثير فيه روح التحدي التي تقتضي بذل جهد إضافي لتحقق لنفسه كمالاً جديداً، ثم لتحقق في الواقع تغييراً جديداً . ذلك أن أزمة الأخلاقيين ليست كما نراها في تحديد المفاهيم والقيم الروحية، بل في وعي إشكالية الجدل المحسومة أساساً بضرورة أن واجب التغيير هو جزء لا ينفك عن الجهاد الأخلاقي نفسه ، لأن المقوّم الجوهري للأخلاق ما لم يقترن برؤية ثورية للسلطة والمجتمع والإنسان، سيظل أسيراً لوطأة الاستبداد السياسي المهيمن . من هنا يجب اعتماد الروح الأخلاقية كجزء لا يتجزأ من صلب العمل الجهادي والسياسي انطلاقاً من تغذية روح النقد وممارسته بشجاعة في دائرة الرقابة الاجتماعية والالتزام بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشريعة التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وعلى هذا الوعي نفهم الثورات الجريئة كظاهرة أخلاقية عالية المستوى لأنها تعبير عن التوق إلى الأفضل والأكمل واحتجاج على الواقع الفاسد وإدانة له لأنها تعني تخلي الثائرين عن حياة سهلة في سبيل إتاحة الفرصة أمام مجموع الناس للحصول على حياة أفضل، وبهذا تصبح الثورة حركة عطاء. وهنا نجد أن المسلمين منذ تعلموا من أم الثورات في الإسلام ثورة الحسين بن علي عليهما السلام لم ينفكوا ثائرين على جميع ألوان الطغيان والانحراف التي مارسها الحاكمون على مدى التاريخ ، وذلك بروح القسط والعدل وضرورة القيام بأخلاق الشهادة. وسيبقى الحسين عليه السلام الذي أصبح رمزاً لكل تطلعاتنا وتوجهاتنا في الحياة، الشهيد والشاهد على هذه الأمة إلى أن تترجم شهوديتها على الأمم وتتحمل كامل مسؤولياتها القائمة على أساس التوازن والاعتدال ونحن لا نتصور الوسطية في مساحة من الفراغ … فعندما نقول وسط يعني نقطة مركزية وأساسية قائمة بين طرفين أو أطراف متعددة، وتعتبر هذه الوسيطة مصدر السلامة والأمان لكل من التاريخ والعقيدة والإنسان فإن أخلصنا لهذه الكرامة ولهذه الشهادة في الدنيا نكون شهداء على الخلق يوم القيامة وحينئذٍ نصبح المقياس في الدنيا والآخرة كما أصبح الحسين عليه السلام ،وإن لم نكن كذلك، انطق الله جلودنا وأيدينا وأرجلنا لتشهد علينا بالحق في كتاب نلقاه منشوراً *يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى*(سورة المائدة، الآية /۸) وختاماً كيف نلامس المشكلة الأخلاقية اليوم ونحن نحاول أن نصون ما تبقى لنا من أرصدة العزة والكرامة والشهادة والأخلاق، والكثيرون محكومون لمنطق النظام العالمي في زمن تستولي فيه مظاهر التقاعس والتخاذل والاستسلام ؟ لا نحتاج إلى الكثير من التأمل لنكتشف أن المشكلة الكبرى التي تواجه الأخلاق وتعتبر محنة بحق هي الرضوخ للتحديات والتبعية لمركز الاستقطاب الأمريكي الذي يمارس زعامته على العالم بعقلية الفساد والإفساد وجنون القوة، على جميع الجبهات، وإذن فالمعركة محتدمة بين أخلاق القوة وأخلاق الحق فماذا ينبغي أن يفعل المسلم في هذا العصر؟ إنها كلمة واحدة وكفى التوحيد قولوا لا اله إلا الله تفلحوا.