المحنة والابتلاء صفة ملازمة للإنسان منذ حط بقدميه على هذه الأرض حتى تقوم الساعة، ومحنة الإنسان الفرد تبدأ معه منذ ولادته وهو يكافح ظروف الحياة القاسية المختلفة حتى وفاته، قال الله تعالى: ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) ، وقال سبحانه: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)(۱) .
لذا كان للإبتلاء في حياة الإنسان غاية وهدف وحكمة، فالابتلاء امتحان للإنسان في طريق تكامله وارتقائه، إن اجتازه المرء بنجاح وكفاءة فاز برضا الله سبحانه وما أعد لعباده الصالحين، وان تعثرت به الطريق ولم يستقم كما أمر ولم يفهم دوره في الحياة وحاد عن جادة الحق فإنه سينزل به إلى الحضيض ويخسر الدنيا والآخرة. إذن الحوادث والأيام بما تحمل من متاعب ومصاعب وشدة وعسر، وكذا من أفراح وأتراح، ولين ويسر، كلها محطات امتحان للإنسان ليرى أيشكر أم يكفر، ولا بد للمؤمن أن يعي أبعاد مسيرته الشاقة، ويعي ما وراء ما يمر به من محن وابتلاءات لكي يواصل دربه السامي بوعي وبصيرة وصبر واستقامة دون تلكؤ أو ضعف. القرآن كتاب الله، ورسالته الهادية في زحمة الضلال، وكلمته المضيئة في ظلمات الأرض، ودعوته الرائدة في دنيا الحياة، حبطت آياته لترسم للإنسان طريق النجاة، وتأخذ بيده في متاهات المسير، لقد تحدث القرآن للإنسان طويلاً وعرفه بذاته وحقيقته البشرية المعقدة، فرسم أمامه لوحة تلك الذات الغامضة، وصور الحياة الصاخبة بخيرها وشرها، بآلامها ومسراتها، بدموعها الحارة، وابتسامتها الندية، ليكتشف ذاته، ويفهم الحياة، ويعرف كيف يتعامل معها، ويواجه التحديات والمغربات. إن الإنسان عالم غريب ينطوي على حقائق مثيرة، ومثيرات متناقضة، واستجابات متفاوتة، يصنع من حوله أنماطاً شتى من السلوك والممارسات، فيكتشف بذلك عما تنطوي عليه ذاته، ويعبر عما تحويه نفسه، كلما تماست وتفاعلت مع التحديات والمثيرات الخارجية والمحفزات التي تملأ الحياة من حوله. فذات الإنسان الباطنة، وحقيقته كامنة، تظهر على شكل مواقف وسلوك وتعبير مجسد إذا ما تفاعلت مع المثيرات الخارجية والمحفزات والتحديات، الخير منها والشرير، وحالات التفاعل والتحدي والإثارة هذه يطلق عليها القرآن أحياناً اسم (الابتلاء) وأخرى (الفتنة) وأخرى غير ذلك، قال تعالى: ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)(۲) ، ذلك لأن الابتلاء في لغة العرب هو (الاختبار)، اختبار الشيء للكشف عن حقيقته ومعرفة جودته ورداءته. قال الراغب الاصفهاني(۳) معرفاً الابتلاء بقوله: اختبرته، فإني أخلفته من كثرة اختباري له، وقرئ: ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)(۴) أي نعرف حقيقة ما عملت، ولذلك قيل: أبليت فلاناً إذا اختبرته، وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلي الجسم، قال تعالى: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) . ( ولنبلونكم بشيء من الخوف) ، قال عزوجل: ( إن هذا لهو البلاء المبين) . وسمي التكليف بلاء من أوجه: أحدها: إن بعض التكاليف شاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء. والثاني: إنها اختبارات تميز الصالح من الطالح، قال الله عزوجل: ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) . ومعلوم أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلائين، قال أمير المؤمنين (ع) : «من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله»(۹)، وقال تعالى: ( ونبلونكم بالشر والخير فتنة، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً)(۱۰) ، والظاهر أن قوله عزوجل: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)(۱۱) راجع إلى الأمرين معاً أي إلى المحنة وإلى المنحة. وإذا عرفنا أن الابتلاء هو عبارة عن الاختبار وكشف الحقيقة الكامنة في ذات الإنسان عن طريق المحن والشدائد والآلام والتكاليف وأنواع البلاء من جهة، وعن طريق النعم وسعة العيش، وتوفير القوة والمال والسلطة والجاه من جهة أخرى، إذا عرفنا ذلك، فلنعد ثانية لقراءة الآيات التي تحدثت عن البلاء والمحنة، ولنقف على ما اختزنته من تشخيص وقراءة لذات الإنسان، وكشف عن أعماقه، وبيان لما ينبغي أن يسير عليه وينتهجه حين البلاء وعند التعامل مع وسائل الاختبار والامتحان.
حقائق قرآنية
إن القرآن يؤكد من خلال آياته تلك عدة حقائق أساسية هي:
۱ـ أن الابتلاء والاختبار سنة إلهية، ولابد للإنسان من أن يمر بحالة من حالات الاختبار، والابتلاء الفردي أو الجماعي، وعليه أن يعد نفسه، ويهيئها لذلك الاختبار، فلا يفاجأ، ولا يركن الى الدنيا ومغرياتها. قال تعالى: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور)(۱۲) . ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا هم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) . فالحياة ساحة اختبار ومجال للكشف عن حقيقة النفس ومحتوى الذات، ليعرف الصادق من الكاذب، وذلك لأن في الحياة مسؤولية وجزاء، ولا تحدد المسؤولية والجزاء إلا بعد المرور بمرحلة الاختبار والامتحان فعند ذلك تنكشف حقائق الناس لأنفسهم، وللآخرين، فيبدون على حقيقتهم من غير حجاب ولا ستار وعند ذلك يأخذ كل ذي حق حقه إن خيراً فخير وإن شرً فشر. إن حياة الرخاء والسعة والاستقرار تغطي حالة الضعف، وتستر نواقص الإنسان وخفاياه الكامنة، وتظهر حين المحنة، وفي ساعة العسرة والشدة والاختبار الصعب، لذلك يؤكد القرآن الكريم وإن ادعاء الإيمان والمبدئية، وحمل شعار المسؤولية والإخلاص لله وللمبادئ والشكلية الظاهرية ليس بكاف لتصديق المدعي، فإن الله سبحانه لا يترك الناس على ما هم عليه حتى يختبرهم ويعرفهم لأنفسهم أولاً وللناس الآخرين ثانياً، وكم تساقط أناس في ساحة المحنة، وكم هوت شخصيات وكيانات وكبت في ميدان الامتحان، بينما كان الناس يعدونها قمماً وطلائع وقدوة للآخرين.
۲ـ إن الله بعدله وحكمته جعل الاختبار والابتلاء بمستوى الاستطاعة البشرية، فلا يختبر الله الإنسان إلا بما وهبه وأعطاه من طاقات وإمكانات، فإن الله سبحانه لا يكلف بغير المقدور قال تعالى: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ، فدائرة الامتحان الإلهي للبشر تدور في ما منح الله للإنسان من مواهب وقدرات، والقرآن يوضح هذه الحقيقة، ويكشفها بوضوح وجلاء بقوله: ( .. ليبلوكم فيما آتاكم…) . إن الاختلاف في التكاليف وألوان الاختبار والابتلاء والمحن تستهدف اختبار الناس بما أعطوا وأوتوا من النعم والطاقات والإمكانات، فالعالم يختبره الله بما أعطاه من علم ومعرفة، ويختبر بكيفية استخدامه للعلم والمعرفة، وكيف يتعامل مع الناس بعلمه، هل يستغل علمه لتدمير البشرية وإذلالها وانقيادها، أم يستخدمه لخير الإنسان وانتشالها من الظلمات إلى النور؟ وهل يملأ العالم كيانه بالغرور والتكبر والاستعلاء على الآخرين وعلى خالقه؟ أم يملأ جوانحه نوراً وهدى وتواضعاً؟ وهل يوظف علمه للدعوة إلى الهدى وتعليم الإنسان سبل الإرشاد؟ أم يستخدمه للنصب والابتزاز وجمع المال والارتزاق وطلب الزعامة والوجاهة الزائفة؟ ليحط من قيمة العلم وأهدافه النبيلة، ويحوله إلى أداة تافهة بعيدة عن دور العلم ومسئوليته الأخلاقية والعملية في الحياة!! وصاحب المال يختبره الله بما أعطاه من مال وخيرات، وتنكشف حقيقته وسلوكيته حين الغنى وامتلاك الثروة، فمن الناس من إذا ملك المال طغى وتكبر وجره ماله إلى الفساد والانحطاط والجشع والاستغلال، فتراه يتقلب في المعاصي، ويستخدم النعم التي وهبها الله له في الجريمة والفساد وظلم الناس، في حين يوظف صنف آخر ما وهبه الله من مال في طاعة الله، وفعل الخير وإصلاح المجتمع وخدمة الإنسان. وكم من الناس، الذين يعملون في حقل السياسة والعمل الاجتماعي، تراه ينادي بالأمن والسلام وحرية الآخرين وحقوق الإنسان ونصرة الضعيف والمظلوم… الخ، إلا أنه ينسى أو يتناسى مبادئه وشعاراته ويتحول إلى مستبد عنيف، وسلطة إرهابية ومخلوق عدواني ظالم إذا ما تسلط على الآخرين، واستطاع أن يتصرف بأمورهم ومقاديرهم. إن حقيقة الإنسان الخيرة والشريرة لا تعرف بالادعاء والظواهر وعند فقدان إمكانية الظلم والتسلط وممارسة الحرام والاستغراق في حب الدنيا والعجز عن ممارسة العدوان والمعصية، وإنما جوهر الإنسان يعرف عندما يملك الإنسان القوة والسلطة والجاه ووسائل المتعة وعندما يواجه المواقف وحالات الاختبار الصعب فإن الناس بالمخابر لا بالمظاهر وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
الامتحان في حمل الرسالة
وتحدث القرآن في موارد أخرى لبيان أخطر جانب من جوانب الاختبار والابتلاء في حياة الإنسان وحركة التاريخ، وهو جانب حمل الرسالة والجهاد في سبيل الله، وتحمل مسؤوليات وتبعات المواجهة والصراع. إن قضية الصبر والجهاد وحمل الرسالة هي من أكثر التكاليف والابتلاءات والوسائل قدرة على اختبار صدق الإنسان واخلاصه لله سحبانه، وذلك لما تحتاجه هذه المهمة الصعبة من صبر وثبات وتضحية بالمال والنفس والأهل والراحة ومنح الحياة، واستعداد لتحمل التشريد والقتل والتعذيب والأذى والحرب النفسية والدعائية… الخ.
والقرآن يصور بعض ذلك في نصوصه، ويتحدث عن الصبر والجهاد والابتلاء، فيقول سبحانه وتعالى: ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم) . ( ولبنلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) . ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)(۱۷) . إذن، فلنقف طويلاً امام هذه المجموعة من آيات الكتاب ولنقرأها مرات عديدة بتأمل وتدبر، ولنستبطن العمق القرآني فيها ونتابع أبعاد التصوير، لكي نشخص السنن الإلهية، وقوانين الصراع والاختبار، ونعي حقيقي ما يجري من حول الإنسان وما يصيبه في سبيل الله من مصائب وأذى وقتل وخوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس، وصراع ومواجهة ميدانية للعدو، ومواجهة في ساحات التحدي والكفاح الفكري والسياسي والإعلامي. فالقرآن عندما يصور للإنسان المؤمن تلك الأحداث والوقائع التي لابد وأن يجري عليه بعضها، أو تتوارد مجتمعة عليه، أقول: عندما يصور له كل ذلك، إنما يريد أن يعده إعداداً نفسياً، ويربيه تربية خاصة لمواجهة الحياة وتحمل مسؤلية حمل الرسالة والجهاد في سبيل الله والوقوف بوجه أعداء الله والإنسان ليكون مستعداً لاستيعاب حالة التوتر والاضطراب وحركة الأحداث الصاخبة. إن محنة الجهاد والهجرة والجوع والتشريد والخوف والارهاب والحملات الدعائية المضادة والحرب النفسية التي يشنها الظالمون المستبدون، إن هي إلا عملية تنقية واختبار وتمحيص للنفوس والكشف عن هوية الإنسان وفرز الصادق من الكاذب، والمخلص من غيره، ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاَ شديدا)(۱۸) . وعندما يعرض القرآن الكريم تلك الصور المثيرة من الآلام والمعاناة ويشحنها بالضغط المتواصل يهدف في ضمن ما يهدفه أن تتميز الفئة المؤمنة المؤهلة لخوض أحداث المرحلة الصعبة وتحمل أعباء المواجهة من تلك المنهزمة الخالدة إلى الراحة، وليسلح حملة مبادئه بالصبر والثبات وليطوق المشاكل والمحن بفيض الثقة بالله، لتتصاغر الحوادث الصاخبة في أعين المخلصين، وتمر على الصابرين والمجاهدين كما يمر الحلم المزعج على النائم الوسنان.
__________________________
۱- سورة الملك: آية۲
۲- سورة الأنبياء: آية ۳۵
۳- أنظر معجم مفردات الفاظ القرأن.
۴- سورة يونس: آية ۳۰
۹- بحار الأنوار, ج۷۵, ص۲۸۶
۱۰- سورة الأنفال: آية ۱۷
۱۱-سورة الأعراف: آية ۱۴۱
۱۲- سورة الملك: آية ۲
۱۷- سورة آل عمران: آية ۱۸۶
۱۸- سورة الأحزاب: آية ۱۱