قال الله تعالى:(يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) سورةالبقرة: 183
مدرسة رمضان مدرسة عظيمة لمن اراد ان يتعلم منها ويعمل فيها، فهي الفرصة الذهبية التي تمر على الانسان وباستطاعته ان يغنم منها الكثير ويخرج منها بنتائج ايجابية على ثلاثة أصعدة هي:
- علاقة الانسان بالله
- علاقة الانسان باسرته وبمجتمعه
- علاقة الانسان بنفسه
فالصيام زكاة للنفس, ورياضة الجسم ، وتربية للروح، وانعكاسه الايجابي على المجتمع . لان في الصوم تحرير من عبودية الأنا والهوى الى عبودية المطلق سبحانه , وتنعكس هذه العبودية الحقيقية ممارسة سلوكية اخلاقية على صعيد الاسرة والمجتمع.
فالصوم يحدث لصاحبه ملكة المراقبة لله تعالى، والحياء منه سبحانه ، وفي هذه المراقبة أكبر معد للنفوس، ومهيئ لها السعادة في الآخرة، والاستقامة في الدنيا . أنظر هل يقدم من صدق مع الله في صومه، وراقبه فيه مخلصا على غش الناس ومخادعتهم ؟ وهل يسهل عليه أن يراه الله آكلا لأموالهم بالباطل ؟ وهل يحتال على الله في منع الزكاة ،أم هل يحتال على أكل الربا؟ وهل يقترف المنكرات جهارا، أم يسدل بينه بين الله ستارا ؟. كلا إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله وإذا نسي والمَّ بشيء منها كان سريع التوبة. فمدرسة رمضان تعطي للانسان زخما كبيرا للبناء الايجابي ,وتمنحه الفرصة الذهبية للعودة الحقيقية الى الله والى نفسه والى مجتمعه . وحينما اذكر الصائم فهو ليس صوم الانقطاع عن الاكل والشرب وانما الصوم الحقيقي الذي يجعل الانسان انسانا كاملا، فالصوم مدرسة تتكامل فيها كل الصفات الانسانية والقيم الاخلاقية في نفسه ، أي صوم الجسد والجوارح عن كل ماحرم الله، وانعكاس ذلك الصوم على الصعيد الفردي والاجتماعي بحالة ايجابية تشكل له زخما وقوة معنوية لمواجهة كل التحديات الصعبة , لذلك فان الصوم الايجابي هو الصوم الذي يحقق
مايلي:
1- تقوية الجانب الروحي عند الانسان الصائم:
يتكون الانسان من جسد وروح كما اشار القران الكريم (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)سورة الحجر: 29.
فالصوم يقوي الجانب الروحي لكيلا يطغي عليه الجانب المادي الحسي. وإذا قويت الروح ازدادت صلتها بالله سبحانه وتعالى, ونلاحظ ان شدة الارتباط بالله تعالى ادت بالانسان الصائم الى ان يتحدى كل الصعاب، ويحقق النصر على رغم قلة العدة والعدد، كما في معركة بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }سورة الأنفال:9.
2- الوصول الى مرحلة التقوى :
فالتقوى هي الحالة التي يصل بها الانسان من خلال الترويض والتربية الى موقع ان يكون في موضع طاعة الله في كل جوانب حياته، ويبتعد عن كل دائرة فيها معصية الله وان كانت صغيرة جدا، فالتقوى هي ان يجدك الله في مواضع الطاعة ويفتقدك الله في مواضع المعصية.
3- تربية الإرادة:
يتميز الإنسان عن سائر المخلوفات بعقله الذي يفكر ويدبر ويريد.. ويفعل وفق رضاه واقتناعه.. ومن الناس من يجهل تلك الحقيقة فيعيش تابعا لغيره يقلده في النافع والضار. ومن هنا كان دور الصوم في تربية الارادة الذاتية للانسان حيث يوقظ الضمير ويعوّده على الالتزام المنظم بسلوك معين قد لا يوافق رغبة الانسان الطبيعية. لقد نادي علماء معاصرون بالصوم كأسلوب لتكوين الشخصية وتربية الارادة وقد سبق الاسلام هؤلاء فنادي في الشباب بالتحكم بغرائزهم وتوجيه إرادتهم بواسطة الصوم. يقول النبي (ص): (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). وفي رواية اخرى:( صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن حر الصدر) وفي رواية اخرى:( لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم والصوم نصف الصبر).
وإنما كان الصوم نصف الصبر لأن في الإنسان قوى ثلاثة: قوة شهوية كالتي في البهائم، وقوة غضبية كالتي في السباع، وقوة روحية كالتي في الملائكة فإذا تغلبت قوته الروحية علي احداهما كان ذلك نصف الصبر. وفي الصوم يتغلب المسلم على قوته الشهوانية من بطن وفرج فكان الصوم حقا نصف الصبر. إن الاسلام ليس دين استسلام وخمول بل هو دين جهاد وكفاح متواصل، واول عدة للجهاد هو الصبر والارادة القوية، فان من لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدوا، ومن لم ينتصر على نفسه وشهواتها هيهات أن ينتصر على عدوه، ومن لم يصبر على جوع يوم هيهات أن يصبر على فراق أهل ووطن من أجل هدف.. والصوم بما فيه من صبر وفطام للنفوس من أبرز وسائل الاسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد في سبيل الله.
4- تعريف بالنعم التي انعم الله بها علينا :
ومن حكم الصوم أنه يعرّف المرء نعم الله تعالى فالإنسان إذا تكررت عليه النعم قل شعوره بها، والنعم لا تعرف الا بفقدانها، فالحلو لا تعرف قيمته الا لمن ذاق المر، والنهار لا تعرف قيمته إلا اذا جن الليل، وبضدها تتميز الأشياء. ففي الصوم معرفة لقيمة الطعام والشراب والشبع والري، ومن أجل ذلك ورد عنه (ص) (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت: لا يارب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت اليك وذكرتك واذا شبعت شكرتك وحمدتك.)
5- التذكير بحرمان المحرومين:
ومن أسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين وبؤس البائسين، تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، تذكير يسمعة الصائم من صوت المعدة ونداء الأمعاء فإن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع ولم يذق مرارة العطش، فلعله يظن أن الناس كلهم مثله، وانه مادام يجد فالناس يجدون، ومادام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخيرون فلن يحرم الناس الخبز والبقول، فلا غرو أن جعل الله من الصوم مظهرا للمشاركة الصحيحة والمساواة الكاملة، وجعل الجوع ضريبة اجبارية يدفعها الموسر والمعسر، ويؤديها من يملك القناطير المقنطرة ومن لا يملك قوت يومه، حتي يشعر الغني أن هناك معدات خالية وبطونا خاوية واحشاء لا تجد ما يسد الرمق ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الانسان واسلامية المسلم وايمان المؤمن ان يرق قلبه، وان يعطي المحتاجين، وأن يمد يده الى المساكين، فإن الله رحيم وإنما يرحم من عباده الرحماء، وصدق رسول الله (ص) (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء). وقد روي – أن النبي يوسف (ع) كان يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض، بيده الماليه والتموين، فسئل في ذلك فقال: أخاف اذا شبعت أن أنسي جوع الفقير.
6- العبودية الكاملة لله:
وفي الصوم قبل ذلك وبعده، تمام التسليم لله، وكمال العبودية لرب الناس، ملك الناس اله الناس، وهذه الحكمة هي القدر المشترك في كل عبادة، والهدف الأسمي من كل فريضة، ولن تكون العبادة عبادة ولا العبد عبدا إلا بها. يقول رب العباد: امرت ونهيت، ويقول العباد سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير. وما أظهر هذا التسليم والعبودية في الصوم خاصة، فالصائم يجوع ويعطش وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة، لولا خشية الله والرغبة في رضاه، ولهذا نسب الله الصيام الى حضرته وتولى جزاء الصائمين بنفسه فقال: كل عمل ابن آدم له الا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه من أجلي ويدع شرابه من أجلي ويدع لذاته من أجلي ويدع زوجته من أجلي.
7- تقوية البدن:
ومن حكم الصيام وفوائده تقوية البدن والمحافظة على الصحة، يقول النبي صلي عليه وآله وسلم(صوموا تصحوا) ، ذلك لأن المعدة بيت الداء ولابد أن يبدأ العلاج الوقائي منها. يقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (ماملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). ومادامت المعدة مصدر الداء ، ومادام إفراغها من الطعام يفيدها ويفيد الصحة، فإن الصوم فرصة كبري لتنظيم عمل المعدة، وتنسيق الاستفادة منها، لكي تتقوي وتنشط وتستمر في أداء وظيفتها الحيوية للانسان.
8- تربية الانسان الصائم على الصبر:
الصبرالايجابي :هو انتصار الارادة على الشهوة والنصر دائماً مع الصبر، والإعداد الجيد، والتخطيط الهادف، وليس مع التعجل والتسرع اللذين يضيعان كل شيء على مستوى الأفراد، والشعوب والأمم، من هنا فإن شهر الصبر له علاقة بالنصر، ولذلك ربط الله تعالى بينه وبين نصر الله ونزول ملائكته فقال تعالى: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى" لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } [ سورة آل عمران : 125
فالصوم يروض الانسان ويربيه خلال شهر كامل على الصبر والتحمل، كما يروضه على التحدي لشهواته وملذاته، فتصبح إرادته قوية بالله تعالى، غير خاضعة لأهوائه، ولا أهواء أحد، وذلك لأن المعارك لا تحسم في ساحة القتال فقط، بل تحسم في ساحة الصدور، وميدان النفس، فالنفوس المنهزمة داخلياً هي التي تنهزم في ساحة القتال، بل قد لا تجرؤ على الدخول في الساحة أصلاً، وتضحي بكل شيء في سبيل أهوائها وشهواتها ومصالحها.روي عن امير المؤمنين(ع) ( ميدانكم الاول انفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها اقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز,فجربوا معها الكفاح اولا).
والصبر يعلم الأمة التضحية بالشهوات في سبيل رضا الله تعالى ، ويعودها على تحمل الجوع في سبيل كرامتها، ومن هنا تسقط أمامها أكبر التحديات المتمثلة في التحدي الاقتصادي، إذ هنا يتدخل الصوم فينادي: لا وألف لا، فلن نخضع لشهوات البطن، ولن نضيع كرامتنا وحقوقنا، فالصوم ترويض المسلم على أن يصوم ثلاثين يوماً، أي يوفر 50% من الغذاء بل أكثر من ذلك، فيما لو التزمت الأمة بمنهج الإسلام في الإنفاق (دون إسراف ولا تبذير). ولكن مع الأسف، ضاع هذا الهدف النبيل في خضم تباهي المسلمين بالأكلات والمشروبات في شهر رمضان الفضيل، حيث يصرف الفرد على الغذاء ونحوه في هذا الشهر أضعاف ما يصرفه في بقية الشهور!.
9- الصوم هو الطريق إلى النصر:
الآيات التي تحدثت عن الصوم حملت في طياتها برنامجاً كاملاً ومنهجاً متكاملاً للتربية الصحيحة للوصول بالأمة إلى النصر المبين، من خلال استحضار العوامل السابقة في داخل النفس، وتحولها الى مشروع عمل ايجابي على الاصعدة الثلاث التي ذكرتها , فنكون بذلك قد هيئنا المستلزمات الاساسية للنصر في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) سورة محمد: 7
10- تقوية العلاقة بالقرآن الكريم وتدبر آياته والسعي للعمل به:
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) سورة الحشر:21
شهر رمضان هو ربيع القران، والقرآن أهم مصدر للشريعة الإسلامية، وهو الدستور الرباني الذي ينبغي أن نعيش الصراحة التامة معه، لأنه لا يتقبل إلا الإنسان الصريح، وينبغي أن نعيش الانفتاح التام على القرآن، لأنّ القرآن لا ينفتح أمام الإنسان المغلق، ينبغي أن نتكاشف مع علوم القرآن، لأننا بهذا التكاشف الصادق معه نصل إلى كنوزه العلمية، وتظهر لنا روائعه الكثيرة، التي لو بحثنا عنها وتوصلنا إليها، ورضنا أنفسنا عليها، وضحينا من أجلها، لكنا سادات الأرض، وسعداء في الدنيا والآخرة. فهل يقود القرآن مسيرة حياتنا أم هو مظلوم بيننا، مهجور فينا، مقصىً عن ركب الحياة الذي يسير بنا على غير هدى ولا كتاب منير؟!.لقد حذرنا الإمام علي (ع) منذ أربعة عشر قرناً من أن نصل في تعاملنا مع القرآن إلى الحالة التي نحن عليها اليوم بقوله: (الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم).
واخيرا نقول : فالشقي من حرم الاستفادة من هذا المدرسة المباركة ولم ينهل من عطائها الثر ( فالشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم).