شهر القرآن:
قسّم الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد الأشهر إلى اثني عشر شهراً منذ بدء الخليقة في قوله تعالى: ( إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ ) التوبة / 36.
ثم جعل ـ من الأشهر الاثني عشر ـ أربعة منها هي الأشهر الحُرُم ، حيث يحرم فيها القتال، وهي أشهر: ( رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم الحرام ) ، كما سُمّي بعضها بأشهر الحج ، ولم يذكر اسم كل شهر بالخصوص إلاّ شهر رمضان ، وهذا إنْ دل على شيء ، فإنه يدل على عظمة هذا الشهر المبارك.
ومن ثمّ فإنّ تعريف شهر رمضان لم يكن كتعريف أشهر الحج كما في قوله تعالى: ( الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) البقرة / 197 ، حيث عرّف الأشهر بحكم إسلامي ، وبفرع من فروع الدين وهو الحج ، بمعنى أن هذه الأشهر لها علاقة وطيدة بمناسك الحج ، وأن الاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج تتم في هذه الأشهر، بينما لم يعرّف شهر رمضان بالصيام ، مع أنه شهر الصيام ، ويمتاز عن باقي الشهور بهذا الحكم، وبهذا الفرع الديني، بل عرّف شهر رمضان بالقرآن الكريم ( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ ) البقرة / 185 .
وفي القرآن الكريم ـ الذي هو هداية للبشرية جمعاء إلى شاطئ السعادة في الدنيا والآخرة ـ أحكام شرعية ومنها الصوم ، فشهر القرآن الكريم يدل على شهر الصيام أيضاً، فهو من التعريف التام ، ولو قيل شهر الصيام لكان من الرّسم الناقص لأنه لا يدل على نزول القرآن فيه، وبين الحدّ التام والرسم الناقص بون شاسع كما في علم المنطق.
ما ورد في تسميته:
إنّ رمضان من أسماء الله ، كما ورد ذلك في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فلا يقال رمضان إلاّ مع ذكر المضاف ، أي شهر رمضان ، وقد ذكرت معان أخرى لتسمية شهر رمضان، فقيل إنه عَلَم للشهر كرجب وشعبان، ومنع من الصرف للعَلَمية وللألف والنون، واختلف في اشتقاقه، فعن الخليل : إنه من الرَمْض ـ بتسكين الميم ـ وهو مطر يأتي في وقت الخريف ، يطهر وجه الأرض من الغبار، سمّي الشهر بذلك لأنه يطهّر الأبدان عن الأوضار والأوزار، وقيل: من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس..
وقال الزمخشري في الكشّاف: (الرمضان مصدر رمض ، إذا احترق من الرمضاء، سمّي بذلك أمّا لارتماضهم فيه من حرّ الجوع (كما سمّوه ناثقاً، لأنه كان ينثقهم أي يزعجهم بشدته عليهم) أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق، وقيل: إنما سمّي بذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يرمضون أسلحتهم فيه، ليقضوا منها أوطارهم في شوال قبل دخول الأشهر الحُرُم.
وقيل: إنهم لمّا نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسميت بذلك. وهناك وجوه أخرى. جاء في الكافي المجلد الرابع ص 69 باب في النهي عن قول رمضان بلا شهر:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (( قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : لا تقولوا رمضان ولكن قولوا: شهر رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان )).
وعن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (( كنّا عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال: لا تقولوا رمضان، ولا ذهب رمضان، ولا جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله عزوجل ولا يجيء ولا يذهب ، وإنما يجيء ويذهب الزائل ، ولكن قولوا شهر رمضان ، فإن الشهر مضاف إلى الاسم، والاسم اسم الله عزّ ذكره، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، جعله مثلاً وعيداً )).
وإلى هذا المعنى يشير الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) في خطبته في الجمعة الأخيرة من شعبان: (( قد أقبل عليكم شهر الله )).
وفي كتاب الإقبال من كتاب الجعفريات بسند السيد ابن طاووس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (( لا تقولوا رمضان، فإنكم لا تدرون ما رمضان، فمن قاله فليتصدّق، وليضمر كفارة لقوله، ولكن قولوا كما قال الله تعالى: شهر رمضان )).
وجه الاشتراك مع الكعبة المشرفة:
فشهر رمضان يعني شهر الله، وإنما سمّي شهر الله ـ وإن كان كل شيء لله ـ لما فيه من خصائص هي لله، واختصت بالإضافة التشريفية كبيت الله بالنسبة إلى المكان، وشهر الله بالنسبة إلى الزمان.
ومن أتمّ الخصائص وأبرزها، ما نجده من وجه اشتراك بين الكعبة المشرّفة وبين شهر رمضان، فالقدر المشترك بينهما هو نزول الوحي والقرآن الكريم، فشهر رمضان زمان نزول الوحي، والكعبة مكان النزول، ثم زادت الكعبة شرفاً، فتشرّفت بها مكة وأطرافها، وصارت حَرَم الله، وكل من أراد الدخول إلى هذا الحَرَم المبارك، في أي زمان، حتى ولو كان للقاء صديق داخل الحرم، فلابد له من أن يلبس ثوبَي الإحرام، ويحرّم على نفسه محرمات الحج، ويأتي بالمناسك، ثم بعد فكّه الإحرام، حينئذٍ يقصد صديقه. فعظمة الوحي أثّرت في شرافة الحَرَم. وكذلك شهر رمضان، فقد نزل القرآن بتمامه في ليلة القدر ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ولكن سرت الشرافة والقداسة والعظمة إلى كل أيام وليالي الشهر، بل تشرّف ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن، فأقسم سبحانه بذلك العصر، في سورة العصر، كما أقسم بالمكان الذي نزل فيه الوحي، في قوله:
( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ )، فالحَرَم تشرّف بالنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، والعصر تشرّف بالوحي، وعصر الولاية كعصر النبوة فقَسَماً بعصر صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف): ( إِنَّ الإِِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فشعاع الوحي قد نوّر منطقة وسيعة، في المكان والزمان.
فضائل شهر رمضان وبركاته:
ثم إنّ شرف شهر رمضان ، إنما هو لاستقباله القرآن الكريم كما في الأخبار الشريفة، والفضائل الواردة لشهر رمضان، كما في خطبة النبي الاكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، إنما هي باعتبار الموصوف ، فالرحمة والبركة والغفران للقرآن الكريم بالأصالة أوّلاً وبالذات، وللمتزمن أي شهر رمضان ثانياً وبالعرض.
وفي الخبر: (( شهر رمضان غرّة الشهور ))، والغرّة بمعنى البياض في الجبين ، أو الأوّل ، فرمضان بياض ناصع في جبين الشهور، وهو رأس الشهور، و(( قلب رمضان ليلة القدر ))، كما ورد في الخبر الشريف.
ونحن ـ الإمامية ـ نعتقد أنّ نزول القرآن في بدايته كان على نحو تدريجي في شهر رجب ، يوم المبعث، وقد نزل القرآن بنحو الدفعي الكلي أيضاً مرة أخرى في ليلة القدر، ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ، ومقدمات هذا النزول الدفعي المبارك، كانت من أول شهر رمضان، فاستقبل القرآن الكريم الذي فيه هدى للمتقين.
فشهر الله هو شهر رمضان المبارك بالقرآن الكريم ، ولكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان، فتتفتح أزهار المعارف القرآنية، في مثل هذا الربيع، كما تتفتح الزهور والورود في ربيع الطبيعة.
شهر رمضان شهر تجلية الأرواح والنفوس، فإنّ علماء الأخلاق يذكرون في تهذيب النفوس مراحل ثلاثة:
1ـ التخلية من الصفات الذميمة.
2ـ التحلية بالصفات الحميدة.
3ـ تجلية تلك الصفات وتبلورها.
وإلى الله المنتهى ( قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ، ( إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ).
ويبدو لي: شهر رجب ـ كما في الأخبار ـ شهر الاستغفار من الذنوب والمعاصي ، وهو شهر أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ففي شهر رجب أصحاب السير والسلوك، أصحاب اليمين، يطهّرون أنفسهم من الذنوب والغفلات بالاستغفار، ويناديهم الملائكة أين الرجبيّون ؟
وفي شهر شعبان، شهر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يتحلّون بسنن رسوله وآدابه، كما ورد في أعمال شهر شعبان:
(( وهذا شهر نبيّك سيد رسلك، شعبان الذي حففته منك بالرحمة والرضوان، الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدأب في صيامه وقيامه في لياليه وأيامه، بخوعاً لك في إكرامه وإعظامه إلى محل حمامه، أللهم فأعنّا على الاستنان بسنته فيه، ونيل الشفاعة لديه، أللهم واجعله لي شفيعاً مشفّعاً وطريقاً إليك مهيعاً، واجعلني له متّبعاً، حتى ألقاك يوم القيامة عني راضياً وعن ذنوبي غاضياً، قد أوجبت لي منك الرحمة والرضوان، وأنزلتني دار القرار ومحل الأخيار )).
شهر شعبان شهر مناجاة الأئمة (عليهم السلام)، تلك المناجاة المعروفة التي جاء فيها:
(( إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصارُ القلوب حُجُب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقةً بعزّ قدسِك، إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك، فناجيته سراً وعمل لك جهرا )).
فشعبان شهر التحلّي بالصفات الحميدة ، وشهر رمضان شهر التجلّي لتلك الصفات ، شهر الضيافة والورود على الله سبحانه. تلك الضيافة العامة لجميع المكلّفين، ومن راعى آدابها يوفّق لحضور الضيافة الخاصة في شهر ذي الحجة في مكة المكرمة مهبط الوحي، وفي الطواف حول الكعبة المشرّفة، وفي الوقوف بأرض عرفة، ومناسك أخرى مقرّبة إلى الله تعالى.
ونأتي إلى علم الله سبحانه، وندخل مدينة العلم من بابها، فمن علي وأهل بيته (عليهم السلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومنه إلى الله سبحانه، فاجعله لي شفيعاً مشفّعاً، وهذا هو الصراط المستقيم، الذي نسأل الله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ).
وقد ورد في الخبر الشريف: (( من لم يُغفر له في شهر رمضان، لم يغفر له إلى قابل، أو يشهد عرفة ))، لتشمله الرحمة الخاصة، والضيافة الخاصة.
ما ذكره النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) في شأنه:
وقبل أن أنقل خطبة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أذكر هاتَين الروايتَين:
الأولى: (في الكافي، المجلد 4، ص70) عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (( كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ يُعلم من كلمة (كان) استمرار هذا الفعل في كل سنة، ولكن الخطبة كانت في سنة واحدة ـ يُقبل بوجهه إلى الناس فيقول: يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلّت مردة الشياطين ـ أي الشيطان الذي مرد عن أمر ربّه وخرج وفسق تُغلّ يده بالسلاسل والأقفال العديدة، إذ إن غلّت من التغليل وهو يفيد الكثرة، فغلّت مردة الشياطين ـ وفتحت أبواب السماء، وأبواب الجنان، وأبواب الرحمة، وغلّقت أبواب النار، واستُجيب الدعاء، وكان لله فيه عند كل فطر عتقاء، يعتقهم الله من النار، وينادي منادٍ كل ليلةٍ هل من سائل ؟ هل من مستغفر ؟ أللهم أعط كل منفق خلفاً، وأعط كل ممسك تلفاً، حتى إذا طلع هلال شوال، نودي المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم فهو يوم الجائزة )).
ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): (( أما والذي نفسي بيده ما هي بجائزة الدنانير ولا الدراهم )).
أجل كل هذا ببركة القرآن الكريم، والإنسان الذي يعصي في شهر رمضان إنما هو الذي يفتح يد الشيطان على نفسه، وهو الذي يدفع باب جهنم لفتحه، وإلاّ فالشياطين قد غلّت أيديهم، وغلّقت أبواب جهنم، فتأمل!
الثانية: عن ابن مروان ، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (( إن لله عزوجل في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء وطلقاء من النار، إلاّ من أفطر على مسكر ـ والظاهر أنّ هذا من باب التمثيل، وإلا فكل المعاصي كذلك ـ فإذا كان في آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه )).
وأما الخطبة الشريفة:
فاختلف فيها في مجامعنا الروائية، فقيل في آخر جمعة من شعبان ، وقيل لثلاثة أيام بقيت من شعبان ، وقيل آخر شعبان ، فيمكن الجمع بين الأقوال بأنها في أواخر شعبان ، والشيخ البهائي (عليه الرحمة) ينقل الخطبة في كتابه الأربعين، الحديث التاسع قائلاً:
روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ج1، ص297 بسند معتبر عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) خطبنا ذات يوم فقال:
(( أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وهو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عزوجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، يلبّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيّها الناس: إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخفّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذِكْره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلّين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
أيّها الناس: من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه. قيل يارسول الله: وليس كلنا يقدر على ذلك، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربةٍ من ماء، فإنّ الله يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير، إذا لم يقدر على أكثر منه.
يا أيّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خُلُقَه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.
أيّها الناس إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فسلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم )).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( فقمت فقلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ )) فقال:
(( يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزوجل، ثم بكى، فقلت يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: يا عليّ أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربّك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربةً على قرنك، فخضب منها لحيتك، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك. ثم قال: يا عليّ من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبّك فقد سبّني، لأنك مني كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله تبارك وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي، يا عليّ أنت وصيي، وأبو ولدي، وزوج ابنتي، وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرُك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة، وجعلني خير البرية، إنك لحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده )).
ثم سأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام):
(( كيف صبرك على القتل؟ فقال (عليه السلام): القتل مع سلامة في ديني ليس ممّا يصبر عليه، إنما يُشكر الله عليه ))،
أي من نعم الله مثل هذه الشهادة المباركة فيشكر الله.