على مرِّ التاريخ لم تتطوَّر أُمَّة أو حضارةٌ إلاَّ بالأزمات، التي كانت – في كل مرَّة – تقودها إلى تَجديد فِكْرها، مع تجديد عمْرانِها وأبنيتها، إنَّ الأزمة هي التي تُعطي لَها الفرصة للتَّجديد، ومُجاوزة أخطاء الماضي؛ ذلك أنَّ الأزمات هي الأصل في الحياة.
وما يُقال عن الفرد يقال عن الجماعة؛ فالفرد حين ينشأ أوَّل الأمر، ينشأ معزولاً عن كلِّ مشكلة، ومع مرور الأيام تتَثاقل المشاكل على كاهلِه، فقُوَّة شخصيته تَجعله يرى في كلِّ مِحنة مِنْحة، وفي كلِّ مشكلة فُرْصة، تَجعله يُدْرِك يقينًا أنَّ الليالي الحالِكَة تزيد النُّجوم بريقًا، وأن الضَّربة التي لا تُسْقِطك تقوِّيك، وهذا ما يَخلق له رصيدًا من التَّجربة تُشكِّل عنده مناعةً ضدَّ ما يمكن أن يُسْتَنسخ من المشاكل.
وإذا ما رجَعْنا قليلاً إلى الجماعات والمنظَّمات والدُّول، سلَّمْنا أنه مرَّ عليها من الأزمات ما كان من الواجب أن يصلِّب لديها روحَ المقاومة، ويَستخرج من داخلها كلَّ مكامن القوَّة والقدرة على تَجاوُز تلك الأزمات، وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ درجة النُّضج تلعب دورًا مهمًّا في تلك الأزمات؛ بحيث قد يكون لبعض الجماعات من النُّضج ما يَجعلها تَمْلك القدرة على التنبُّؤ بالأزمات، مِن خلال جهاز إنذار تطوُّر مع كل ضخٍّ تربويٍّ وفِكْري وثقافي، واستجابات لتحديات العصر ومتطلَّباته من غير توقُّف.
والْمُلاحَظ أنَّ الأزمات في عصر العولَمة تنمو نُموًّا مُتسارعًا غيْرَ طبيعي، تتداخل فيه مؤثِّراتٌ متعدِّدة، بما لا يدَعُ الفرصة لأيِّ انتباه، خاصَّة عندما يسود جوٌّ من المشاحنة، وتبَلُّدِ الإحساس، والانتصار للمصلحة على حساب المبدأ، والعاجلِ على حساب الآجل، فإنْ وقَع ذلك سيكون مضاعفًا على الفِكر، الذي يُمثِّل حلقة الوصْل بين الواقع والمثال، وبين الممكن والْمَأمول.
ولَمَّا كان فِكْرُ الأَزْمة هو ذلك الفكْرَ الذي ينشأ كَردَّة فعلٍ عن الأزمة، كان من الضرورة بِمكانٍ الإشارةُ إلى بعض النِّقاط المهمَّة؛ حتَّى يُصبح هذا الفكْرُ وَقودًا محرِّكًا نحو الأمام، والخروج من الأزمة، والمتمثِّلة في:
۱ – التفكير السليم:
فهو بدايةٌ وخُطْوة أُولى نَحو التصرُّف السليم، فلا يُنتظَر مِمَّن يُعاني قصورًا فكريًّا، أو تبَعيَّة فكريَّة، أو يَخضع لِبَرمَجة ثقافيَّة صمَّاء، أو تقف أمام سلامة تفكيره عقباتٌ متعددة، أو فجوات فكريَّة متنوِّعة – أن يَمتلك القُدرة على التفكير، بل سيصبح كمن يَنتظر الرِّعاية من غيره، أو يَسْتجدي حلولاً من الناس.
إنَّ المناعة الفكرية هي سِرُّ الصُّمود في الأزمات، وتِرْياقُ العلاج لِمُختلف الْهزَّات، فبعض الأفراد مثلاً بقي أسيرَ مرَضِ الكمال والأوهام، مع هزَّةٍ خفيفة تَهاوى؛ لأنَّ البيت الذي بَناه نُسِج من خيال الكتب والمُحاضرات والخُطَب الرنَّانة.
إنَّ أزمة وهْم الكَمال هي التي تَجعل صاحِبَها يتهاوى عند كمال الأزمة واشتدادِها؛ فهو لا يضع للتجربة معنًى، ولا للزَّمَن دَوْرًا، ولا للنمُوِّ والتطوُّر قيمةً، فقد غفل عنْ أنَّ الوعي يُولد مع الحركة، ويَنمو بنمُوِّها، ويتطوَّر بتطوُّرِها.
عند الأزمة يجب أن تتَّسِع الرُّؤَى لتتلمَّس الآفاقَ البعيدة؛ لأنَّ المرحلة تقْتَضي أن ينشغل الناسُ حينَها بالباب المفتوح، عِوَضَ الانشغالِ بالباب الذي أُغلق، ولكنَّ أزمة الفكر في العقل العرَبِيِّ هي أزمة اختزال، فالأزمة الواحدة قد تَشْتمل على عدَّة حوادث مُختلفة مِن حيث ما تَحويه من الخير والشَّر، فهل مِن المنطق السَّليم أن نعمِّم الخيْرَ الْمُطلَق فيها، أو الشرَّ المطلق؟
إنَّ فجوة التعميم تزيد غُموضَ الرؤية، وعُزوفَ النَّاس عن العمل، فالألوان ليستْ أبيضَ وأسْودَ فقط.
في الأزمة عادةً ما تُمارِس البرمَجةُ الصَّماءُ دورَها في توجيه العقول والقلوب، خاصَّة لَمَّا يزيد تأثيرُ الْهالة على الأفراد، بِما يُضْفِي على بعض الناس نوعًا من القُدسيَّة، يَجعلهم يُسْهِمون في توجيه الناس وحَصْرِهم في زاوية من الزَّوايا، تَمنعهم من الرُّؤية الكاملة، وحُسْنِ التَّشخيص الذي يوصِّلهم إلى العلاج، غير أنَّ مَحدودية الرُّؤية تحصرهم في دائرة من الصراع حول القشور، والتغريد بعيدًا عن السِّرْب، والعيش خارج العصر.
عند الأزمة تُصبح لُعبة المصطلحات سيِّدةَ الموقف، لا من حيثُ التوصيفُ والتدقيق، بل من حيث الاستغلالُ والتَّحوير، فكثير مِن الناس يستعمل مَقُولاتٍ قديمةً لَم يكلِّف نفسه حتَّى عناءَ البحث في صحَّتها، فضلاً عن صلاحيتها لِهذا الزَّمان أو غيره، فكم من مُنتَحِرٍ مات باسْم الجهاد! وكم من مُنْزلقٍ انزلق باسم التَّقْوى! وكم من مفرِّق فرَّق باسم الولاء! وهذا كلُّه ينحرف بنا دائمًا عن لُبِّ الموضوع.
۲ – فَهْم الواقع:
إنَّ الواقع يَحتفظ لنفسه بقدْرٍ كبير من التعقيد والتَّشابُه؛ ولذلك كان من الضرورة بِمكانٍالتَّوصيفُ الجيِّد للمصطلحات، والفَهْمُ الدقيق للمفاهيم، وسيكون من المفيد جدًّا أن نبدأ دائمًا بذِكْر التَّعريف لِما نُريد بَحثَه، وتَحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث، وهو ما يَجعَلُنا نُدْرك صعوبةَ هذا العمل وفائدتَه الكبيرة في آنٍ واحد.
وحينَها فقط سنضَعُ أرجُلَنا على العتبة الأولى من فَهْم الواقع، كما لا ينبغي أن نَغْفل عمَّا للمكان من قُدْرة رهيبة في توليد الْمَشاعر والمفاهيم المشترَكة بين أفراده، دون أن ننسى أن العولَمة وما تَحْمله مِن تناقُضاتٍ بِما جاءت به من ثورةٍ على الحدود والقيود، قد حَملتْ في طيَّاتِها مشاعرَ الفردية، حتَّى أصبحتْ كلُّ دولةٍ تَلُوذ بِمُحيطها الإقليمي وتوسِّعه، فأثناء الأزمات تُصنع الانتصاراتُ والانكِسارات من الدَّاخل، وأعظم الحروب تلك التي كانت في غُرَف مغْلَقة مع الأنفس، فهناك تُصْنع الانتصارات، وتَكون الهزائم.
ولَمَّا كان التغييرُ من الدَّاخل إلى الخارج، كانت النَّهضة من الدَّاخل إلى الخارج، وكانت الانتصاراتُ الفردية سابقةً للانتصارات الجماعيَّة، فعند الأزمات ينبغي أن يكون للوطنِ قيمةٌ ومعنًى، ينبغي أن يتعزَّز كوسيلةٍ لتوجيه الناس نَحو الغاية العظمى دون غلُو أو شوفينية.
عند الأزمات ينبغي أن يتحسَّس الفِكْرُ نبْضَ العصر، ويتجدَّد بما يتلاءم مع لُغَة العصر، فلا ينبغي أن تَحْصرنا الأزمة في زاويةٍ ضيِّقة، ننشغل فيها عن اللُّب بالقشور، ونفقد معها كلَّ قدرة على التطوُّر، والاستجابة للتحديات؛ لأنَّ إدمان الطوارئ يُشْعر صاحبه بالأهميَّة التي تَحْصر صاحبها في زاوية تَجعله يعيش خارج عصره، وتكبِّله بأوهام المؤامرة والمثاليَّة، وتجعله أسيرًا للتَّاريخ والماضي.
۳- الْمناعة الفكرية:
عند الأزمات يَظهر دورُ الْمَناعة، مثلَما يَظهر دورُها عند مرض الجسم، المناعة الفكرية هي تلك المناعة التي تحصن الإنسان من الأمراض، وصدَق مالِكُ بن نبي حين قال: إنه قبل حكاية كلِّ استعمار هناك قصَّةُ شعب قابلٍ للاستخذاء، فلا نُغالي حين نقول: إنَّ التسلُّط والدِّكتاتورية هي نِتاجُ تسَلُّط الجهل وقلَّة الوعي، وانتشار ثقافة الخنوع والتَّبعية في المُجتمعات، فما قيمة مَن يَنتدب شخصًا آخرَ ليفكِّر مكانه، ويُقرِّر دونه؟!
إن الظُّلم الذي ناله التحرُّر الفكريُّ، والتبعيَّة للغير التي تفنَّنَت الأنظمة التربويَّة في التمكين لها، خلَقَتْ عند الأمة الإسلامية أزمةَ قيادة، فالأُمم عند الأزمات تبحث عمَّن يقودُها نَحو النَّصر، ولعلَّ المرَض الأكبر عند أمَّتِنا أن أشعَّة النَّقد دائمًا موجَّهةٌ نَحو الخارج، أمَّا الداخل فهو من المقدَّسات التي لا يتحدَّث عنها، إنَّ الفكر المنيع فِكْر قادرٌ على الاستمرار حتَّى في عصر العولمة الذي يتَسارع فيه الضخُّ الثقافي، وتتعدَّد فيه الأفكار، فإذا لم يتغيَّر الإنسان ويتطوَّر فسوف يفْنَى؛ لذلك كان من الواجب السَّيْرُ في تنمية قدرات الإنسان الفكريَّة؛ لينسجم ومتطلَّبات الْمَرحلة، ويتحصَّن عن كلِّ اغتراب فكري، أو استلاب حضاري.