مشكلة الأعور الدجال عند منتقدي فكرة بقاء المهدي عليه السلام
  • عنوان المقال: مشكلة الأعور الدجال عند منتقدي فكرة بقاء المهدي عليه السلام
  • الکاتب: الشيخ نزيه محيي الدين
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 14:37:19 2-9-1403

مشكلة الأعور الدجال عند منتقدي فكرة بقاء المهدي عليه السلام

الدجال أو المسيح الدجال: صحابي ولد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشارك في الفتح الإسلامي، غاب وسيخرج في زمن المهدي في آخر الزمان وهو صائد أو صاف بن صياد.
هذه القضية, معضلة حقيقية, لمن ينكر إمــكان غيبة المهدي عليه السلام, فضلاً عن وقوعه(8)، وذلك لأنه يؤمن _ بلا أدنى مجال للشكّ _ أن المسيح الدجال, ولد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وصَحِبه, واسمه صائد بن صياد, ويسمى _ أيضاً _ صاف بن صياد. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر منه, وقد اختلط بالمسلمين, وشارك في الفتوحات, وقد فتحت مدينة (سوس) على يديه(9)، وبقي مع الأحداث, وقد اعتبر حديث صائد بن صياد من الصحاح, كما اعتبر حديث الدجال المعروف, بحديث الجساسة _ أيضاً _ من الصحاح, ولهذا فقد أخذ حيزاً في الحديث, وفي الملاحم والفتن, وفي توصيف أشراط الساعة, وآخر الزمان, وزمن المهدي, والمسيح عليهما السلام, وغير ذلك, وقد قامت دراسات على هذا الموضوع, كلها تؤكد التسليم اليقيني, بشخصية الدجال, وكونه موجوداً, وحياً, في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو باق إلى زمن ظهور المهدي, ليحارب المهدي عليه السلام, ويُقتل على يد المسيح عليه السلام, ومن جملة هذه الدراسات, دراسة الأستاذ سعيد أيّوب, وهي دراسة ضخمة, بعنوان: (عقيدة المسيح الدجال) تقع في (596) صفحة, يبحث فيها, خبايا قضية الدجال, وقد حاول ربط واقع ما عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, في زمنه وبيّن ارتباط حركات صائد بن صياد, مع قضية الجساسة بنفس تفسير ابن حجر للظاهرة الغريبة, بأن الدجال في حديث الجساسة, هو نفسه صائد بن صياد, رغم اختلاف المظهر, والمكان, والزمان, باعتباره ساحراً, شيطانياً, يتمظهر بمظاهر متعددة, وقد ربط الأحداث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بما ورد في حديث الجساسة, حيث ربط بين من قابل الدجال _ ببلاهة _ في رحلة تميم الداري, وبين كونهم أنفسهم, أعوان معاوية, والحجاج, والظلمة المزورين للإسلام, وربط بين كون الدجال ابن صياد في جيش أبي موسى الأشعري, وبين كون أبي موسى الأشعري يرتكب مخالفة النصوص الصريحة, التي بين يديه, ليقول نتركها لهوى الناس, فيتحكم الهوى, بما يدمر رسالة الإسلام, من الجذور(10). وقد ذهب سعيد أيّوب, إلى أن عدم استجابة لخم, وجذام, الموصوفتان بالعنجهية, والغباء, لدواعي الفتك بالمسيح الدجال, حين قابلهم بصحبة تميم الداري(11)، جعلتهم قادة, وجنود معاوية, كما قرره في الصفحة: 419, من كتابه (عقيدة المسيح الدجال).
وبقي الدجال _ بحسب مروياتهم _ حتّى اختفى في موقعة الحرة, التي استبيحت فيها مقدسات المسلمين وشرفهم, وشرف بناتهم العذارى العفيفات اللواتي فقدن عذريتهن, بهجوم من يسمون أنفسهم بالمسلمين, بينما كان يقودهم

المسيح الدجال, بالاتفاق مع أمير المسلمين(12).
ولعلَّ من يقرأ كتاب الأستاذ سعيد أيّوب, يراه غارقاً في الخيال, ولكن هناك حقيقة مهمة جدّاً, وهي التقاء الأسماء الواردة في الروايات بشكل محير, فلخم وجذام هم من كان مع تميم الداري حين قابل الدابة الجساسة, وقابل الدجال فلم يتأثر أهل لخم وجذام, لا بمنظر الجساسة, ولا بمقالات الدجال, بينما تأثر تميم وأسلم (يبدو أن سعيد أيّوب يبني على صحة رواية الجساسة).
وبعيداً عن هذه الرواية, فإن لخم وجذام هم مَنْ غدرَ برسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, في معان, وبعد ذلك تحالفوا مع الروم, لتكون معركة مؤتة الدامية للمسلمين, ثمّ شن عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرباً في غزوة تبوك, فهربوا مع الروم, ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيداً, فعاد, ثمّ جهز لهم جيش أسامة بن زيد وبعث به, ولم ينفذه المسلمون, بحجج واهية, حتّى انتقل صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى, وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم من أولاد سبأ, ممن (شأموا) وقلّ حظهم في الدين, ومن ثَمَّ تحولوا إلى أنصار معاوية يقاتلون الحق, ويدافعون عن الباطل, وقد أسسوا أسس الخلل الإسلامي, من الأخذ بالقشور, وترك اللباب, فهم من اخترع الطرب على صوت الحجاج, حين يقرأ القرآن, بينما لا يكادون يفهمون من كلام الله حرفاً, ويقتلون عباد الله المخلصين, ويفضحون أعراضهم بلا سبب حقيقي, إلاّ نصر القوة الغاشمة. فهذه الوقائع موجودة بالفعل, وهي تترابط بينها, وبين كون الدجال يقابلهم في قصة الجساسة, وكون صائد بن صياد, الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كان في نفس الجيش, وفي نفس الاتجاه, فهذه الوقائع لعلَّها جعلت من ربط المفاهيم, عند سعيد أيّوب, أكثر وضوحاً عند من لم تتوفر له(13).
ولعلَّنا نظلم الأستاذ سعيد أيّوب, إذا لم نقف مع الكثير من وقفاته المهمة بالفعل, فالربط بين كون الدجال في جيش أبي موسى الأشعري, وأنَّ أهل الكتاب طلبوه بالاسم, والصفة, وبرهن لهم أنه الدجال, وفتح السلاسل, بمجرد غضبه, وبين أن أبا موسى الأشعري هو نفسه من سلّم الحُكْم إلى من يدعو المسلمين إلى نار جهنم بصريح النص النبوي, وكون هذا الجيش, الذي يدعو إلى النار والفتنة, يتكون من نفس القبيلتين اللتين قابلتا الدجال في حديث الجساسة, ببلاهة وتقبّل, فهذا الربط لقضايا مبثوثة في كتب التاريخ, والحديث, لهو ربط عقلاني, ومهما ابتعد خيال الأستاذ سعيد أيّوب عن الواقع في الكثير من الروابط, ولكنه لم يبتعد _ هنا _ فهذه وقائع تحـــتاج إلى تأمل شديد, وهي ارتباطات تتبيّن بنتائجها أكثر مما تتبيّن بوقائعها, ولكن الوقائع تفسر هذه النتائج المترابطة بشكل عجيب.

ويبدو أن مشكلة الدجال شكّلت معضلة فكرية, فقد تجاذب رأيهم بين أن يكون الدجال, هو صائد بن صياد, وبين أن لا يكون هو المسيح الدجال نفسه, وإنما الدجال هو ما ورد في حديث تميم الداري من أمر الجساسة, وهذا الاختلاف يعود لسببين, الأوّل: هو غرابة الترابط بين الشخصيتين. والثاني: هو محاولة التخلص من قضية أساسية, وهي كون الدجال _ دائماً _ في جند الباطل, وبما أنه مع أبي موسى الأشعري, الذي سلّم الحكم لمعاوية, وهو في جند يزيد يوم الحرة, والدجال قابل قيادات جيش معاوية, لخم وجذام, في زمن النبي, وبشرهم بانتصاره على الإسلام, وانتصار الباطل, فهو في الجانب الذي يراد تلميعه, وتغطية مساويه, بينما الدجال معهم _ دائماً.
ونحن لا يهمنا هذا الاختلاف, فكلاهما سواء, إن كانا رجلاً واحداً أو رجلين, فهما من الأحياء في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم _ كما تزعم الروايات الموثقة في الصحاح والمسانيد _ وقد غابا عن الأنظار, فأما الذي في خبر الجساسة, فقد كان غائباً في زمن النبي نفسه, وأما صائد بن صياد فقد غاب بعد موقعة الحرة الفظيعة, التي هتكت حرمة الصحابة, وأحباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, على يد حاكم يدعي الإسلام, ويأتم به المسلمون من أهل الأهواء.
اختلاف الشخصيتين _ إذن _ أو اتحادهما, لا يعني شيئاً بالنسبة لقضية الغيبة, وكذا قضية طول العمر, فكلاهما يشتركان في هذا من دون نكير, عند من ينكر قضية الإمام المهدي, الذي تواتر الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, مع فارق بسيط هو _ وبحسب قصة صائد بن صياد _ أن هذا الرجل أطول عمراً من المهدي عليه السلام بأكثر من (250) سنة. بينما رجل الجساسة, أطول عمراً بكثير, فقد يكون الفارق أكثر من ألف سنة, ولكن الموازين العلمية تقتضي أن يعتمد حديث صائد بن صياد, ولا يعتمد حديث الجساسة، لأسباب تتعلق بالسند, وحديث ابن صياد, مجمع على صحته.
والغريب في الاختلاف, هو أن من يصر على أن صائد ابن صياد هو الدجال, إنما هم الصحابة أنفسهم خصوصاً, خاصة أحباب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, وبعض من يأخذ عنهم من الصحابة, بينما من يصرُّ على أنه ليس الدجال نفسه, بل هو دجال من الدجالين, هم من متأخري المتأخرين, من المقلدة والمتمذهبين المتعصبين, الذين يتبعون جيش من يدعو إلى النار, وقيادات لخم وجذام.
وللتنوير, بخصوص اعتماد الصحابة, لكون ابن صياد هو الدجال بنفسه, بالإضافة إلى ما تقدَّم من قصة فتح السوس التي يعتمدون روايتها, نورد _ هنا _ مجموعة من أحاديث صحيحة, تبيّن أن الصحابة يصرون على أن صائد ابن صياد هو الدجال بعينه:
من ذلك ما أخرجه الشيخان, البخاري ومسلم, في صحيحيهما: قيل لجابر بن عبد الله: إنه أسلم. فقال: وإن أسلم. فقيل: إنه دخل مكّة, وكان في المدينة. فقال: وإن دخل. فقد أخرج الشيخان, عن محمّد بن المنكدر, قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصائد الدجال. قلت: تحلف بالله؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فلم ينكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
وأخرج أبو داود, بإسناد صحيح عن ابن عمر, أنه كان يقول: والله ما أشك أن ابن صياد هو المسيح الدجال(2).
ومما أخرجه الشيخان, البخاري ومسلم, في صحيحيهما, عن ابن عمر, إن عمر قال: دعني يا رسول الله أضرب عنقه _ أي ابن الصياد _. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يكنه فلن تسلط عليه, وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله)(3).
وأصرح من ذلك, رواية ابن مسعود, في صحيح مسلم, بلفظ: (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعه, فإن يكن الذي تخاف لن تستطيع قتله))(4).
ومما أخرجه مسلم في الصحيح, عن نافع, قال: لقي ابن عمر ابن صياد في بعض طرق المدينة. فقال له قولا أغضبه, فانتفخ حتّى ملأ السكة. فدخل ابن عمر على حفصة, وقد بلغها. فقالت له: رحمك الله, ما أردت من ابن صائد, أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما يخرج من غضبة يغضبها)(5).
ومما أخرجه مسلم في الصحيح, عن أبي سعيد الخدري, أن ابن صياد, قال له: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو كافر؟ وأنا مسلم, أوَليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو عقيم لا يولد له؟ وقد تركت ولدي بالمدينة, أوَليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يدخل المدينة, ولا مكّة؟ وقد أقبلت من المدينة, وأنا أريد مكّة. قال أبو سعيد الخدري: حتّى كدت أن أعذره. ثمّ قال: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن. قال: قلت له: تباً لك سائر اليوم(6).
وفي رواية أخرى, عند مسلم في صحيحه: أما والله إني لأعلم الآن حيث هو, وأعرف أباه واُمّه. قال: وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ قال: فقال لو عرض عليَّ ما كرهت(7).
ومما أخرجه الشيخان _ أيضاً _ عن ابن عمر رضي الله عنهما, أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لابن صياد: (تشهد أني رسول الله؟)، فنظر إليه ابن صياد, فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه. وقال: (آمنت بالله وبرسله)(8).
ومن ذلك _ أيضاً _ ما أخرجه الشيخان, عن ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لابن صياد: (ماذا ترى؟)، قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خُلِّط عليك الأمر)

(9).
ويلاحظ على الحديثين الأخيرين أنهما لا يدلان على تسميته بالدجال, وإنما هما عرض لسلوك الدجال, ومراقبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له, ويدلان على توقف صائد ابن صياد في إعلان إسلامه, وأنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغة العدو, في وقت لا يتسنى ذلك لصبي أن يواجه نبياً دانت له الجيوش والأمم.
وأما الأدلّة النافية, لكون صائد بن صياد هو الدجال, فأغلبها من نوع التشويش, وعدم وضوح الرؤية. ولعلَّه من قبيل نسبة تهمة النسيان _ والعياذ بالله _ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فكما نسي ليلة القدر فقد نسي الدجال وحقيقته, وهذا ما يلفقونه مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقد روى الطبراني في معجمه فقال(10): (الفلتان بن عاصم, قال: أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فخرج في وجهه الغضب... فقال: إني خرجــت إليكم وقد تبيّنت لي ليلة القدر, ومسيح الضلالة, فخرجت لأبينها لكم... فلقيت بسدة المسجد رجلين يتلاحيان, معهما الشيطان, فحجزت بينهما, فنسيتها).
ومن المحتمل أن قصة حضور الدجال في الفتوح الإسلاميّة, إنما هي قصة مفتراة, موضوعة, لا يخفى على المتعقل الغرض من وراءها, فهي تفتح الباب على مصراعيه للتشكيك بأسس الرسالة الإسلاميّة المقدسة, فما هو دفاعنا _ لو سلمنا بما جاء في هذه القصة الكاذبة _ أمام من يريد أن يطعن بالرسالة والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, ويقول: إنه هو الدجال _ حاشاه _ وأن جيوشه تفتح المدائن بالسحر, وبغضب الدجال, وضربه الأرض برجليه, وما إلى ذلك؟! هذا مع علمنا أن النصوص التوراتية, أو التلمودية, لا تغفل ذكر الدجال, بل تذكره على أنه هو السامري, وأنه باق إلى يوم يقتله المسيح المخلص, في القدس, أو غيرها.
إن الاعتراف, والتسليم بأن صائد بن صياد, هو الدجال حقاً, وإنه كان موجوداً في زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, لا يعني _ بالضرورة _ صحة ما قيل, حول مشاركته في الفتوح, وأنه يفتح البلدان بالسحر, ولو صحت هذه الرواية, لوجدنا أنفسنا أمام إشكالين, ينبغي معالجتهما, بشكل مقنع:
الأوّل: كيف يصح لأفراد الجيش الإسلامي الفاتح, وهم _ كما يفترض _ خيرة المسلمين, من أهل الجهاد, والمرابطة, أن يقبلوا بوجود الدجال بينهم جندياً يقاتل معهم؟
الرواية لم تسجل _ في هذا الصدد _ اعتراضاً إسلاميّاً واحداً, على مثل هذا الوجود غير المرغوب فيه _ قطعاً!
والثاني: إن السهولة واليسر الذين تم بهما فتح أسوار المدينة, بتأثير الدجال وسحره, ينبغي أن يشكلا ثقلاً وأهمية عسكرية, يستثمرها القادة في فتوحات أخرى, أو يشكلان _ في الأقل _ دافعاً للغبطة والسرور والفرح في صفوف أفراد الجيش الفاتح, وهذا _ أيضاً _ لم تسجله الرواية, ولم تشر إليه!
لا نجد _ إذن _ في طيات هذه الرواية, ولا في كتب التاريخ, ما يفسّر لنا كل هذا, بل على العكس من ذلك, نجد أن ذكر صائد بن صياد _ الفاتح, والمستبسل في قتال الكفار, والمجاهد في أفراد الجيش الإسلامي _ توقف نهائياً حتّى قيل: إنهم فقدوا أثره بعد واقعة الحرة, وهذا لا يتناسب مع ما حصل من تكسير سلاسل أسوار السوس, وانتصار المسلمين بالسحر! كما يدعي سيف بن عُمر التميمي. ولهذا فهذه القصة لا تضفي أيّ بعد ذي قيمة حقيقية للإسلام. ولكنها _ في الوقت نفسه _ تعطي الأعداء فرص نمو الخيال, وتزوير الحقائق, بالتمسك بقشة.
هذا الادعاء الباطل أثار الأستاذ سعيد أيّوب, ومن أجله كتب كتابه (عقيدة المسيح الدجال) كما يصرّح عدة مرات, فقد قال في المقدمة:
(لقد قرأت وسمعت أن المبشرين النصارى يروجون في بلاد المسلمين أكذوبة تقول: بأن محمّد نبي المسلمين, هو المسيح الدجال! وبتتبعي لهذه الأكذوبة, وجدت بأن لها جذوراً عند القوم, ففي عام (1142), كلف بطرس المكرم بعض طلبته بترجمة القرآن الكريم, ومن ترجمة لاتينية وضع بطرس موجزاً لتعاليم الإسلام, وكان يعتبر أن محمّداً هو المسيح الدجال (منتجمري وات 100 _ 105 _ فضل الإسلام على الحضارة) وبطرس هذا هو أسقف دير كلوني (يوشع براور _ عالم المصلين) الذي روج للحرب الصليبية, وديره هو الذي خرج جميع الباباوات الذين قادوها, وبعد قرنين من الزمان, جاء كروتيش ليردد نفس المقولة (مونتجمري وات _ 100 _ فضل الإسلام) وبعد ثلاثة قرون وضعت ترجمة إنجليزية للقرآن (إلكساندر روس عام 1649, والترجمة الفرنسية _ أندريه سور, في نفس العام) من خلال ترجمة فرنسية قالوا في مقدمتها:
أيها القارئ الكريم ها قد وصل المسيح الدجال العربي الكبير, أخيراً بعد ألف سنة, عبر فرنسا إلى انجلترا (عالم الفكر 1: 1984/ ص 66) وفي عام (1984م), خرجت علينا كبرى المجلات القاهرية المصورة برواية تبشيرية, تقول فيها المبشرة جين داكسون: بأن هناك ديناً سيكون قبل ظهور المسيح الدجال. هذا الدين ليس الدين المسيحي, بل نوع آخر من التوحيد بني على قوة الله العليا, أو توحيد الله العلي القدير, وأن هذا الدين هو دين المسيح الدجال, ثمّ جاء بعد ذلك, في أحد تفاسير أهل الكتاب, أنَّ بعض أساتذة الكاثوليك يعتبرون أن محمّداً, نبي المسلمين, هو المسيح الدجال. (آخر ساعة 26/ 9/ 1984م) وبدأت هذه المقولة تنتشر بين المسلمين في أفريقيا, وفي الهند, وفي بعض دول الخليج, وأندنوسيا. وكنت أتعجب أنهم يفعلون هذا. لو كان الجسد حيّاً, ولكن الجسد قد مات! لا خطر منه. فالمسلمون قد انزووا عن حركة الحياة, بعد أن عطلوا الأسباب عندهم, وافتتنوا في الأسباب عند معسكرات الكفر والإلحاد. فلماذا يذبح القتيل إذن؟ (ولكنني دهشت, عندما عرفت السبب. قالوا: (إن هناك مداً إسلاميّاً يفور, ولم يعد هناك من يؤدي ضريبة الذل كاملة! وعرف المسلمون أن للكرامة ضريبة باهضة, فجنحوا إليها, وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم) ومن هنا, كان لا بدَّ أن أبحث لي عن معول! أكشف به الدجل في صوره, وفي أيّ مكان كان. وفي البداية, أقرر أن هذه الدعوى الضالة, التي أطلقوها, تقتلع من جذورها, أمام أيسر تحقيق, يقوم به أقل المسلمين شأناً, وأنا من أقل المسلمين شأناً)(11). انتهى كلام

الأستاذ سعيد أيّوب.
وهنا أقول: إن أيّ عدو لا يشعر بالمسؤولية الضميرية والأخروية تجاه عدوه, يمكنه أن يستغل أيّة ثغرة, أو قصة, ليضيف إليها الخيال, فكيف إذا وجد قصة توافق هواه, مثل كون المسيح الدجال يقود جيوش المسلمين, ويفتح البلدان بسحره الشيطاني. ولهذا فإن في طيات الحديث, والتأريخ الإسلامي المزور, ما يساعد على دعاوى الكافرين, ويفتح الأبواب الوهمية للهجوم على الإسلام, وليس هذا هو الباب الوحيد, فصفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي تعرضها كتب الحديث, تجعل منه صلى الله عليه وآله وسلم أضحوكة, لو أردنا أن نتغافل ونصدّقها, مثل كونه مسحوراً لمدة لا يعرف ما يقول, ومثل كونه غضوباً, يقلب الله لعنه إلى رحمة للملعون, ومثل كونه يحاول الانتحار لمجرد تأخر الوحي عليه, ومثل خروجه بمشقص كالمجنون, في طلب من اطلع على شباك بيته, وكذلك قضايا كثيرة, تتعلق بظاهرة الوحي, مثل قصة الغرانيق, التي ينفونها تارة, ويثبتونها أخرى, ومثل دعوى غرامه بالنساء, بعد أن كبر في السن, وأشياء كثيرة, هي مادة دسمة للهجوم على الإسلام, يوجد من يوفرها لهم من داخل الكيان الإسلامي, وهذا يدل على حجم الاختراق للفكر الإسلامي, والمشكلة أن الدولة الإسلاميّة هي المسؤول الأوّل, عن هذا الاختراق, بل هي من صنعه من البدايات. وهذا يفسر مدى الهوة الحقيقية بين الحاكم وبين النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, حيث الحاكم يحكم باسم النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, بينما يصنع أفكاراً, ومجاميع فكرية, مهمتها الأساسية تدمير الإسلام من الداخل, والإساءة لرسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, وقد لا نبالغ إذا قلنا بأننا لو جمعنا كل هذه السيئات التي ألصقت بالإسلام, وبنبي المسلمين, لكانت الصورة مشوهة لا تقبل التعديل, ولا تقبل أيّ تبرير, بل سيكون الحكم _ فوراً _ بأنه دين المجانين, وأهل الباطل, ولكن هيهات ثمّ هيهات أن تصلح الأدلّة الكاذبة, المزروعة داخل التراث الإسلامي؛ لتكون هادمة لدين الله, ولصورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, الرجل العظيم الذي لم يأت الدهر بمثيله _ مطلقاً, وقد قيض الله _ تعالى _ من أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم, من دفع هذه الشبهات الملصقة بالإسلام, فنفى تحريف المحرفين, ومحا زيف المزيفين _ بحمد الله.
إن بحث هذه القضية يحتاج إلى دراسات متكاملة, ولكن هذه الإشارة, كانت ضرورية لبيان مسألة مهمة, وهي تفسير التخادم بين أعداء النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من خارج الإسلام ومن داخله, في تكوين صورة غير قابلة للإصلاح, وهدم كل البنى الفكرية, والقانونية الإسلاميّة, بأحاديث وقصص خرافية, ودعاوى زائفة, وأكاذيب.
علينا _ قبل أن نهاجم أعدائنا _ أن ننقي ثيابنا من هذا الدرن, وأن ننفي زيف المزيفين, وأن نُخضع التراث الإسلامي للتقييم, على أساس مقدار التخادم, بين المطروح المدسوس, وبين الهجمة التي يقوم بها أعداء الإسلام.

ولكننا نعلم علم اليقين أن هناك فرقاً إسلاميّة لا تقبل إعادة تقييم التراث, على أساس نفي التزييف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم يقولون: بأنه سوف يسقط مذهبهم من الاعتبار, حين ينفى هذا الكم الهائل من النصوص. فلا ندري ما فائدة بقاء مذهب إذا سقط أساس الدين؟
ولهذا, فإن دفاع الأستاذ سعيد أيّوب فيه خلل, حيث لم يعزل الفكر المندس والنصوص المفتعلة لنفي التهمة. وإنما أثبت التهمة بإثباته للنصوص, ولكن جعلها تهمة لمن خالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وحاربه, وحارب أهل بيته, طيلة حياتهم, وهذا يحتاج إلى مقدمة ثانية منه, وإلى تحديد منهج, إلاّ إذا كان قد قدّر أن عقول العامة, لا تستطيع تصوّر هذه الجريمة ومصدرها. فأراد أن يعطي جرعات من التفكير, عسى أن يصل القارئ إلى النتيجة الحتمية التي يقتضيها مسار التفكير. وهذا يحتاج إلى قرّاء أذكياء, وما أقلّهم في العالم الإسلامي, الذي لا يفرّق بين الناقة والجمل.

 

الهوامش
(8) لابأس أن نذكّر - هنا - بما ناقش به القرطبي, في مجال رد دعوى عدم بقاء الخضر عليه السلام, لما نسب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث، حيث قال عنه: إنه عام, قابل للتخصيص, بالمسيح, وبالدجال, الذي هو من المتيقنات, ببقاء شخصه حياً, لمدة طويلة غير متعقلة: تفسير القرطبي 11: 41 - 45: (لأن العموم, وإن كان مؤكد الاستغراق, فليس نصاً فيه، بل هو قابل للتخصيص. ‏فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت, ولم يقتل, فهو حيّ بنص ‏القرآن, ومعناه، ولا يتناول الدجال, مع أنه حيّ بدليل, حديث الجساسة، ‏فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام, وليس مشاهداً للناس).
(9) تاريخ الطبري 3: 186 و187.
(10)ذلك في حادثة التحكيم الشهيرة, في صفين, حين رفض النصوص, التي اطلع عليها شفاها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقال: أخلع عليّ بن أبي طالب المنصوص عليه, وأتركها لهوى الناس, بينما قال خادعه, عمر بن العاص: إنه يثبّت معاوية, ويبقيه على الناس, ولم يكن معاوية - أصلاً - متعرضاً للخلافة, أو طالباً لها, إنما حارب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام, للاستئثار بالشام والبقاء والياً عليها؛ ولأن الإمام عليه السلام لم يقرّه على باطله, وتسلطه على مقدرات المسلمين, وما كان بعد ذلك, أثبتت صحة ما يراه أمير المؤمنين عليه السلام, من أن معاوية لم يكن إلاّ كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن (( يدعو إلى نار جهنم, وممن خرب النظام الإسلامي, وأحدث الشرخ الأكبر في الإسلام, وحوّل الدولة الإسلاميّة إلى قيصرية وملك عضوض.
(11) صحيح مسلم 8: 201/ باب خروج الدجال ومكثه في الأرض، وفيه خبر الجساسة, التي أخبرت تميم الداري, والمسافرين معه, من لخم وجذام, بوجود الدجال في دير وحده... الخ.
أقول: حديث الجساسة لا يثبت عندنا, وهو حجة على من يثبت عنده، وقد واجه المحدّثون مشكلة في كون حديث الجساسة, يقول: إن الدجال رجل كبير, موجود في جزيرة, مربوط في دير، بينما حديث صائد بن صياد يقول: إنه طفل في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وإنه صحابي, وقد أكّدوا إنه شارك في الفتوحات. واحتمل العسقلاني, في فتح الباري, أن يكون الدجال شيطاناً, يتشكل بأشكال الناس، ولكن روايات صائد بن صياد - كما هو معلوم - تقول: إنه بشر منّا, من لحم ودم, له قدرات خارقة, ولد زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اُمّه عن حمله, وولادته. بينما رواية الجساسة تقول: إنه رجل كبير في نفس الفترة الزمنية، معدّ للخروج على الإسلام، ويخبر بالمغيبات, وهو محتجز في جزيرة، وفرض أنه شيطان متشكّل - كما احتمل العسقلاني - يفتح الباب للادعاء بالقول: إن كل باطل هو الدجال نفسه، بينما الظاهر أنه شخصية معينة، ولهذا نرى أن معالجة سعيد أيّوب, فيها بعض التغاضي عن موضوع الجساسة, إلاّ أن يكون قد اقتنع بتحليل العسقلاني، حيث قال في فتح الباري 13: 328:
(أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم, وكون ابن صياد هو الدجال: إن الدجال بعينه, هو الذي شاهده تميم موثوقاً، وإن ابن صياد هو شيطان تبدّى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى أصبهان, فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدّة التي قدّر الله تعالى خروجه فيها). انتهى. مع العلم أن سعيد أيّوب أورد هذا التحليل للموقف من قبل العسقلاني, ولم يرده.
(12) عقيدة المسيح الدجال: 418، وفيه: (فأهل لخم وجذام, شاهدوا المسيح الدجال, في أوّل الزمان, وكانوا في داخل الدير كعدد الجنود. وبعد المسيح الدجال دخلوا في رغيف معاوية فصلى بهم الجمعة يوم الأربعاء، وبعد معاوية خدموا يزيد، فضربوا في الحرة, وبالت خيولهم بين الروضة والمنبر، وحاصرت البيت العتيق، ورفعوا رأس الحسين على أسنة رماحهم، وبعد يزيد خدموا الحجاج بن يوسف, فكانوا يلتفون حوله, ويسمعون منه القرآن, ويهتزون لصوته طرباً (البيان والتبيين 3: 147), وبعد الحجاج صاروا خداماً لملايين الحجاجيين, حتّى يومنا هذا، يدافعون عن شرف السلطان, بهتك أعراض ألف عذراء من المهاجرين والأنصار، فكان هذا هو معسكر معاوية! وكانت هذه بصمات المسيح الدجال على جماجم بعض أفراده).
(13) يمكن مراجعة هذه الأحداث, في كتب الحديث, والتأريخ, بشكل مفصل, فإن البحث غير مخصص الآن لهذا الموضوع، وعلى سبيل المثال, يمكن مراجعة الأنساب للسمعاني 1: 29؛ وعبد الله بن سبأ للشيخ علي آل محسن الفصل الثالث, (سبأ والسبئيون)؛ وتفسير التبيان 8: 88؛ والبحار 14: 117, و33: 259؛ وإعلام الورى بأعلام الهدى 1: 212؛ وغيرها الكثير من المصادر التاريخية, والحديثية, ومصادر السيرة.
(1)صحيح البخاري 8: 137/ كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة؛ صحيح مسلم 8: 189/ باب ذكر ابن صياد؛ سنن أبي داود السجستاني 2: 322/ باب في الأمر والنهي/ ح 4331.
(2) سنن أبي داود السجستاني 2: 322/ ح 4330.
(3) صحيح البخاري 2: 69/ باب في الجنائز؛ صحيح مسلم 8: 189/ باب ذكر ابن صياد.

(4) صحيح مسلم 8 : 189/ باب ذكر ابن صياد.

(5) صحيح مسلم 8 : 194/ باب ذكر الدجال وصفته وما معه.

(6) صحيح مسلم 8: 191/ باب ذكر ابن صياد.

(7) المصدر السابق.

(8) صحيح البخاري 2: 97/ باب الجنائز، وكرره في باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفي كتاب الأدب؛ صحيح مسلم 8: 192/ باب ذكر ابن صياد؛ سنن أبي داود 2: 321/ باب آخر في ذكر ابن صياد/ ح 4329.

(9) صحيح البخاري 2: 97/ باب الجنائز، وكرره في باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفي كتاب الأدب؛ صحيح مسلم 8: 192/ باب ذكر ابن صياد؛ سنن أبي داود 2: 321/ باب آخر في ذكر ابن صياد/ ح 4329.
(10) المعجم الكبير للطبراني 18: 857.
(11)عقيدة المسيح الدجال: 9 - 11.

المصدر
الحداثوية والقضية المهدوية
تأليف: الشيخ نزيه محيي الدين