حين تلجأ الفطرة الإنسانية إلى الاستغاثة والاستشفاع
  • عنوان المقال: حين تلجأ الفطرة الإنسانية إلى الاستغاثة والاستشفاع
  • الکاتب: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:5:46 1-9-1403

حين تلجأ الفطرة الإنسانية إلى الاستغاثة والاستشفاع

   الفطرة الإنسانية السليمة حين تنطق ـ خاصة في حالات الاضطرار ـ فإنّما تعبّر عن حقيقة من حقائق الدين الإلهي. والدين مرتكز على فطرة الله التي فطر الناس عليها. يتجاوب معها ويُغذّيها ويُشبِع حاجاتها الوجودية.. كما قال الله عزّوجلّ في كتابه المجيد: فأقِمْ وجهَكَ للدينِ حنيفاً فِطرةَ اللهِ التي فَطَر الناسَ عليها، لا تَبديلَ لخَلْق الله، ذلك الدينُ القَيِّم ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمون ».

   والفطرة السليمة المعافاة تلجأ من عمقها إلى الله بالدعاء والطلب والاستمداد. وينكشف هذا للناس ـ فيما ينكشف ـ في لحظات الشدائد الشديدة والأزمات المستحكمة والمخاطِر المُحدِقة.. حين يتضرّعون وينقطعون ويتوحّد همُّهم في همٍّ واحد. وفي القرآن الكريم عديد من الآيات النورانية التي تصوّر هذا المعنى وتذكّرنا به، من مثل: وإذا غَشيَهُم مَوجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مخلصينَ له الدِّين... ، وإذا مَسَّ الناسَ ضُرٌّ دَعَوا ربَّهُم مُنِيبينَ إليه... ، وما بِكُم مِن نعمةٍ فمِنَ الله، ثمّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فإليه تَجأرون .

والإنسان ـ في لحظاته العصيبة وحالاته المُطبِقة ـ يعرف بفطرته أنّ مخاطبة الله تعالى والطلب منه من خلال وجاهة أعزّائه وأحبّائه المقرّبين.. هو خير سبيل لبلوغ النجاة والفوز بالمراد؛ ذلك أنّ دعاء هؤلاء الأولياء المقرّبين لدى الحضرة الإلهية المقدّسة ممّا لا يُرَدّ ولا يُؤخّر.. إذا قارَنَ الحكمة والحاجة، خاصةً في حالات إخلاص الإنسان وتوجّهه الصادق المضطرّ.

   ونحن في حياتنا اليومية نمارس مثل هذا فعلاً؛ فإذا كانت لنا حاجة عند رجل كبير في مقامه أو منصبه لجأنا ـ من أجل قضاء حاجتنا ـ إلى شخص عزيز عليه وأثيرٍ لديه.. نوسّطه ليكلّم صاحب المقام ونشفّعه في حاجتنا.. خاصةً إذا كان هذا الوسيط ممّن لا تُردّ له كلمة ولا يُرفَض له طلب.

   والأنبياء والأئمة المعصومون والأولياء عليهم السّلام.. هم أصحاب وجاهة عند الله، ولهم عنده وجهٌ محبوب ومقبول. وقد جعلهم الله وسيلةً لخلقه يقصدونه من خلالهم بالطاعة والدعاء والطلب والاستشفاع، وهو ما أمرنا الله سبحانه بالعمل به ومزاولته، في قوله تعالى: وابتَغُوا إليه الوسيلة .

   وقد علَّمنا قرآنُ الله العظيم أن ربَّنا سبحانه جعل استغفار الرسول صلّى الله عليه وآله لظالمي أنفُسِهم طريقاً إلى توبة الله عليهم، وهو التوّاب الرحيم ( سورة النساء 64 ). وجَعَل ما يُنفَق عنده من الخيرات وصلاة الرسول قُربةً للمُنفِقين يتفضّل الله بها عليهم بأنْ يُدخِلَهم في رحمته ( سورة التوبة 99 )، كما جَعَل صلاةَ الرسول ودعاءه سَكَناً وطمأنينةً وأمناً لمن يدعو لهم ويصلّي عليهم ( سورة التوبة 103 ). وتلك من آيات الله التي نطق بها القرآن الكريم في مواضع عديدة من سوره المباركة.

من هنا كان التوسّل بالأنبياء والأوصياء عليهم السّلام مفهوماً قرآنياً أصيلاً، إضافةً إلى كونه مظهراً من مظاهر الفطرة النقيّة التي ركزها الله في أعماق الكائن البشري.

ومن هنا أيضاً كانت الاستغاثة بأحبّاء الله وأودّائه المقرّبين إليه حقيقةً هي من الإيمان في العمق، ومن عقيدة التوحيد في المتن.

وقُل مِثلَ هذا عن الاستشفاع بالنبيّ والأئمّة وصالحي المؤمنين.. فإنّ لكلٍّ منهم شفاعةً عظيمة وكلمة مقبولة عند الله عزّوجلّ.

 

* * *

   وفي هذا الأفق الذي نريد أن ننفتح عليه الآن ـ أيّها الأصدقاء ـ نلتقي بعدد من تجارب الإنسان حين تضطرّه الحاجات الملحّة.. فتُلجِئه فطرتُه من صميمها إلى التوسل والاستغاثة بأُولي القرب وأصحاب الوجه الوجيه عند الله، فيحظى عندئذ بالأمن ونَيل المراد.

 

   من تجارب الحجّاج المغاربة في سفرهم البحري خلال القرنين 12 و13 للهجرة

   تحدّث بعض الكتّاب المغاربة في ( رحلاتهم البحرية ) عن الأهوال التي كان تواجهها سفن الحُجّاج المبحرة.. عندما كان البحر يضطرب وتغدو هذه السفن معرَّضة للمخاطر بسبب هبوب الرياح العاتية وتلاطم الأمواج الصاخبة.

   وقد اكتفى بعض هؤلاء الكتّاب في وصف هذه الأهوال بإشارات سريعة لا تتجاوز السطرَ الواحد أو السطرين.. منها الإشارة التي أوردها الحسن الغسّال في حديثه عن إبحاره من الإسكندرية في طريق العودة، إذ اقتصر على القول: كثُرت الرياح والأمطار وهيجان البحر، واشتدّ الأمر للغاية حتّى أشرفنا على الغرق(1).

ومنها أيضاً الإشارة التي ذكرها الطيّب بن كيران في رحلته، فقال متحدّثاً عن طريق عودته: « ثمّ مررنا على الجزائر في الطريق، وأقمنا بمرساها يومين. ولمّا خرجنا منها اشتدّ الأمر علينا غايةً حتّى أشرفنا على الغرق، لكثرة الرياح وهيجان البحر(2).

   ومنها كذلك الإشارة التي أوردها السبعي في معرض حديثه عن السفينة التي كانت تُقلّه في طريقه إلى الديار المقدسة: «.. وهاج البحر، وصار يُزبد، وفاض الماء على المركب.. حتّى ذَكر لي بعضُهم أنّه ضاع له شيء من الأمتعة، منها مصحف وشيء من الشمع والفحم(3).

في مقابل هذه الإشارات السريعة نجد مجموعة من الروايات المفصّلة. الأولى للفقيه محمد بن أحمد بن بلقاسم.. دوّنها بعد إبحاره من طرابلس في طريقه إلى الحج، وجاء فيها: «.. فلمّا أقلعنا من المرسى جاءنا ريح عاصف، وجاءنا الماء من كل مكان.. من قدّام ووراء، ويميناً وشمالاً. فدام ذلك إلى آخر الأربعاء أو أول الخميس، وذلك يوم العيد عيد الفطر وثانيه أو ليلتين قبله ويومين بعده. فأرعدت السماء في تلك الليالي جدّاً وبرقتْ وأمطرت.. وعايَنَ الحجاجُ الموت يَنشِبُ فيهم أظفاره وأنيابه. ذلك أنّه جاءهم الماء من فوقهم ومن تحتهم ومن قدّامهم ومن خلفهم، ومن أيمانهم وشمائلهم.. أعني: ماء البحر وماء المطر.. وذلك أنك ترى مثل جبل من الماء الأزرق يقصد المركب من كل جهة، حتّى يسقط عليهم، فاكترى الناسُ مَن يُفرغ الماء المتجمّع في المركب ـ من المغرب إلى الصبح ـ بستة مثاقيل. وجعل الناس ينظرون ويجمعون الصدقات للأولياء، وينذرون لهم الذبائح شرقاً وغرباً، ومنهم مَن نذر ذبيحتين وحده. واشتغلوا بالدعوات وقراءة القصائد المُفرِّجة، والاستغاثة بمن يَرجون منه الشفاعة.. كلٌّ بمن عَرَفه . وقطعوا الأكل والشرب والنوم في تلك المدة، وجعلوا يبكون ويتسامحون ويتشهّدون.

   أمّا الرواية الثانية فهي للفقيه محمد بن محمد التامراوي.. الذي أبحر من مدينة البحيرة في 2 رمضان 1242 هـ / 1827م، باتجاه الديار المقدسة. تقول الرواية: « فلمّا نهضت السفينة، وسارت في ريح رديئة شرقية.. ترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. لا تَسمعُ إلاّ أنينَ الوجع والقيء، وقَلّ مَن سلم.. ولا يسأل والدٌ عن ولده، ولا رفيق عن رفيقه، ما أشبَهه بيوم الفزع الأكبر!! لا طاقة لأحد على الجلوس أو القيام.. ترى الأمواج تتلاطم في سطح السفينة، وجاءنا الموج من كل مكان.. فطَفِقَ الناس في الدعاء والتوسل بالأولياء والتضرّع إلى الله »(4).

 

 ----------------------------------

1_ الرحلة الطَّنجويّة: الحسن الغسّال، ص 54. نشرها عبدالعزيز التلمساني خلوق، طبعة فضالة، المحمدية 1998م.

2_ الرحلة الفاسيّة: الطيب بن كيران، ص 2. الطبعة الحجرية، فاس 1306 هـ.

3_ رحلة محمد بن أحمد بن بلقاسم الكرسيفي، كتبها في طريقه إلى الحج، ونصّها منشور في ( المعسول ) للمختار السوسي 196:17 ـ 275، م