الصيام والطب .القسم الثالث
  • عنوان المقال: الصيام والطب .القسم الثالث
  • الکاتب: الدكتور رافد علاء الخزاعي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 18:50:40 1-9-1403

الصيام والطب . القسم الثالث (*)

الدكتور رافد علاء الخزاعي


لقد لاحضنا من خلال الحديث في المقالة السابقة ، ان الصوم مر بمراحل عبر التاريخ ، ليكتب على المسلمين كفرض واجب التطبيق ، وبمواقيت معينة في شهر رمضان ضمن الشهور القمرية ، فلذلك نرى ان شهر رمضان يتنقل بين الفصول المختلفة ، ليلاحظ الانسان الفرق في الجهد مع مراحل الصوم ، في مراحل العمر المختلفة ، ولذلك عندما يبزغ هلال شهر رمضان المبارك وتثبت الرؤية ، يشعر المسلم بالراحة النفسية ، والهدوء والتماسك والقوة في كل عام ، منذ ان فرض الله سبحانه وتعالى الصوم على المسلمين .
وهذا تدريب كبير يعيد الانسان الى ذاته الحقيقية ، التي يكون قد ابتعد عنها بفعل مشاغل الحياة وملاهيها واغراءاتها ، فتسعد النفس وتطمئن وتفرح الروح بقدوم شهر رمضان ، وتنشرح الصدور بالصيام .
أما عن الجسد فهو ينتظر شهر رمضان الفضيل في شوق وتلهف واحتياج .
تلتقي العبادات والفرائض كلها في هدف واحد ؛ ألا وهو تربية النفس وتهذيب المسلم ، واعداده نفسيا وجسديا لمواجهة الحياة بحلوها ومرها .
ولا يعني الصوم في الدين الاسلامي والمفهوم الايماني مجرد الامتناع عن الطعام والشراب ؛ بل الامتناع عن كل فعل قبيح ، ولو بلفظ او باشارة او تفكير سيئ .
والصوم بهذا الاسلوب يعتبر رياضة روحية ، أكثر منها بدنية ، وهو فضلا عن كونه امراً تعبدياً ؛ يجب على كل مسلم أن يؤديه طاعة لأمر ربه ، لأنه تكليف من الله سبحانه وتعالى .
ولذلك نرى ان خطبة سيدنا ومعلمنا رسولنا الكريم محمد ( صلى الله عليه وآله ) في استقبال شهر رمضان .

روى الامام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أنّه قال : ان رسولَ الله (صلى الله عليه و آله) قد خطبنا ذات يوم فقال : (( أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة و الرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل اللّيالي ، وساعاته أفضل السّاعات ، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله ، و جُعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسُكُم فيه تسبيح ، و نومُكم فيه عبادة ، و عملُكم فيه مقبول ، و دعاؤكم فيه مستجاب .

فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة ، وقلوب طاهرة ، أن يوفّقكم لصيامه ، و تلاوة كتابه ، فانَّ الشقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهر العظيم ، و اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ، وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم ، ووقّروا كباركم ، وارحموا صغاركم ، وصلوا أرحامكم ، واحفظوا ألسنتكم ، وغضّوا عمّا لا يحلُّ النّظر إليه أبصاركم ، وعمّا لايحلُّ الاستماع إليه أسماعكم ، وتحنّنوا على أيتام النّاس ؛ يتحنّن على أيتامكم ، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم .

وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم ، فانّها أفضل السّاعات ، ينظر الله عزَّ وجلَّ فيها بالرَّحمة إلى عباده ، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيّهم إذا نادوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه .

أيّها النّاس إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم ، واعلموا أنَّ الله تعالى ذِكرُه أقسم بعزَّته أن لايعذِّب المصلّين والسّاجدين ، وأن لايروّعهم بالنّار يوم يقوم النّاس لربّ العالمين .

أيّها النّاس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر ، كان له بذلك عند الله عتق رقبة ، ومغفرة لما مضى من ذنوبه ، قيل : يا رسول الله وليس كلّنا يقدر على ذلك ، فقال (صلى الله عليه وآله) : اتّقوا النار ولوبشقّ تمرة ، اتّقوا النار ولوبشربة من ماء .

أيُّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خُلقه كان له جوازاً على الصّراط ، يوم تزلُّ فيه الأقدام ، ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه ، خفّف الله عليه حسابه ، ومن كفَّ فيه شرَّه كفَّ الله عنه غضبه يوم يلقاه ، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه ، ومن وصل فيه رَحِمَه وصله الله برحمته يوم يلقاه ، ومن قطع فيه رَحِمَه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه ، ومن تطوَّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النّار ، ومن أدَّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدَّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور ، ومن أكثر فيه من الصّلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين ، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور .
 

أيُّها الناس إنَّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة ؛ فسلوا ربّكم أن لايغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلّقة ؛ فسلوا ربّكم أن لايفتحها عليكم ، والشيّاطين مغلولة ؛ فسلوا ربّكم أن لايسلّطها عليكم .
قال أميرالمؤمنين (عليه السّلام) : فقمت فقلت : يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال : يا أبا الحسن .. أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزَّ وجلَ ّ)) .
 

من خلال هذه الخطبة النبوية الشريفة التي حملت معاني كثيرة نلخصها بما يلي :
1- إن شهر رمضان ؛ شهر استثمار الحسنات والمغفرة ، لإنه شهر في ضيافة الرحمن ، فهو شهر البركة والمغفرة والرحمة .
2- إن أعمال الإنسان .. نومه فيه تسبيح وعبادة ، وأنفاسه بركات ومغفرة ، وكل الأعمال مقبولة باجر مضاعف ، مع توفر صدق النية .
3- إن قراءة القرآن في هذا الشهر هو تمرين للذاكرة وحماية لها ، وهذا ما لاحضناه من طول عمر المراجع ورجال الدين ، وتمتعهم بذاكرتهم وقابليتهم العقلية الى آخر العمر ، إن هذه الملاحظة يجب ان تخضع للاحصاء العلمي ، حتى تؤثق كأحد فؤائد الصيام ، والصيام المنقطع في الأيام البيض ، والمناسبات الأخرى أي الصوم المستحب .
4- إن الصوم الجماعي هو ينمي للفرد قابلية التنافس في التحمل ، والتفكر بجوع الاخرين وعطشهم ، مما يولد تغير في نمطية التفكير ، والتخلص من الأفكار الانانية والتسلطية .
5- إن التاكيد على التواصل الاجتماعي والعائلي ، والتواصل مع فقراء الناس ، يعطي للأمراض المتولدة من ضغوطات الحياة المشفوعة بالقلق بعض التسكين ، مما يعطي للانسان عمق التفكير السوي .
لذلك يجب علينا كمسلمين محاولة الاجتهاد والبحث في الفوائد الطبية للصوم ، والحكمة من فريضته التي بيّن المولى عز وجل بعضها ، وشرح الرسول الكريم (صلوات الله عليه وعلى آله) بعضا منها .
فكلما تقدمت العلوم الطبية والبحوث ساعد ذلك على ادراك وتعميق الحكمة في الصوم ، ومعرفة اسراره الطبية .
إن المعنى الحقيقي والوعي الصحيح بالصيام ، انه رياضة للنفس على القناعة بالقليل من الغذاء ، الذي يكفل للمريض المساعدة بل العلاج للتخلص من الاملاح الزائدة ، واذابة الدهون والتخلص منها ، واعادة ضغط الدم الى مستواه الطبيعي ، وضبط مستوى السكر في الدم .
والصائم يعوده ويدربه شهر رمضان على قهر الغرائز والشهوات ، وعلى الزهد والتقشف في تناول الاطعمة والاشربة ، فتقوى ارادته وعزيمته بالصوم ، فيكون في مأمن من الامراض النفسية والعصبية المستعصية على العلاج ، والتي مصدرها الخوف والتردد وضعف الارادة والشخصية .
إن مركز الاحساس بالشبع والجوع موجود في منطقة المهاد بالدماغ ، قرب الهايبوثلامس : وهي قريبة من مركز الخوف ، ان الجوع بارادة الشخص شيشتت الاشارات العصبية من مركز الخوف ، ليتحرر الانسان من مخاوفه واوهامه ، ويصفى باله لفهم الواقع برؤية متفتحة ، مع ان انخفاض السكر بالدم في فترة الصيام ، يكون تمرين يتيح لهرمون النمو وهرمون النمو المشابه للانسولين للتحرر من منطقة الغدة النخامية ، وكذلك هرمون الادرينالين والنور ادرينالين ، وكذلك الكورتيزون وكذلك هرمون الكلكون من البنكرياس ليحرر الكلايكوجين المخزون في الكبد ليتحول الى سكر كلوكوز ، إن هذا التمرين بحد ذاته هو تمرين لاعضاء الجسم ، مشابه لماتجريه الجيوش من تدريبات وقت السلم للاستعداد للحرب ، ومشابه لما تجريه اجهزة الدفاع المدني .

اذاً .. الصوم هو تجربة حقيقية لتقويه اجهزة الجسم ، واجهزة المناعة والخلايا كافة .
ان من يستطيع ان يعيش بهذا النمط الغذائي ، والتوازن النفسي في شهر رمضان ، يقوى على أن يحيا سائر أيام السنة بهذا السلوك الصحي والايماني ؛ كي يحفظ لجسده توازنه ،