الصيام والطب . القسم الثالث (*)
الدكتور رافد علاء الخزاعي
لقد لاحضنا من خلال الحديث في المقالة السابقة ، ان
الصوم مر بمراحل عبر التاريخ ، ليكتب على المسلمين
كفرض واجب التطبيق ، وبمواقيت معينة في شهر رمضان
ضمن الشهور القمرية ، فلذلك نرى ان
شهر رمضان يتنقل بين الفصول المختلفة
، ليلاحظ الانسان الفرق في الجهد مع مراحل الصوم
، في مراحل العمر المختلفة ،
ولذلك عندما يبزغ هلال شهر رمضان المبارك وتثبت الرؤية
، يشعر المسلم بالراحة النفسية ،
والهدوء والتماسك والقوة في كل عام ، منذ ان
فرض الله سبحانه وتعالى الصوم على المسلمين .
وهذا تدريب كبير يعيد الانسان الى ذاته الحقيقية ،
التي يكون قد ابتعد عنها بفعل مشاغل الحياة وملاهيها واغراءاتها
، فتسعد النفس وتطمئن وتفرح الروح بقدوم
شهر رمضان ، وتنشرح
الصدور بالصيام .
أما عن الجسد فهو ينتظر شهر رمضان الفضيل في شوق وتلهف واحتياج
.
تلتقي العبادات والفرائض كلها في هدف واحد ؛ ألا وهو
تربية النفس وتهذيب المسلم ، واعداده نفسيا وجسديا
لمواجهة الحياة بحلوها ومرها .
ولا يعني الصوم في الدين الاسلامي والمفهوم الايماني مجرد الامتناع عن الطعام
والشراب ؛ بل الامتناع عن كل فعل قبيح
، ولو بلفظ او باشارة او تفكير سيئ
.
والصوم بهذا الاسلوب يعتبر رياضة روحية ، أكثر منها
بدنية ، وهو فضلا عن كونه امراً
تعبدياً ؛ يجب على كل
مسلم أن يؤديه طاعة لأمر ربه ،
لأنه تكليف من الله سبحانه وتعالى .
ولذلك نرى ان خطبة سيدنا ومعلمنا رسولنا الكريم محمد (
صلى الله عليه وآله ) في استقبال شهر رمضان
.
روى الامام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أنّه قال : ان رسولَ الله (صلى الله عليه و آله) قد خطبنا ذات يوم فقال : (( أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة و الرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل اللّيالي ، وساعاته أفضل السّاعات ، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله ، و جُعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسُكُم فيه تسبيح ، و نومُكم فيه عبادة ، و عملُكم فيه مقبول ، و دعاؤكم فيه مستجاب .
فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة ، وقلوب طاهرة ، أن يوفّقكم لصيامه ، و تلاوة كتابه ، فانَّ الشقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهر العظيم ، و اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ، وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم ، ووقّروا كباركم ، وارحموا صغاركم ، وصلوا أرحامكم ، واحفظوا ألسنتكم ، وغضّوا عمّا لا يحلُّ النّظر إليه أبصاركم ، وعمّا لايحلُّ الاستماع إليه أسماعكم ، وتحنّنوا على أيتام النّاس ؛ يتحنّن على أيتامكم ، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم .
وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم ، فانّها أفضل السّاعات ، ينظر الله عزَّ وجلَّ فيها بالرَّحمة إلى عباده ، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيّهم إذا نادوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه .
أيّها النّاس إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم ، واعلموا أنَّ الله تعالى ذِكرُه أقسم بعزَّته أن لايعذِّب المصلّين والسّاجدين ، وأن لايروّعهم بالنّار يوم يقوم النّاس لربّ العالمين .
أيّها النّاس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر ، كان له بذلك عند الله عتق رقبة ، ومغفرة لما مضى من ذنوبه ، قيل : يا رسول الله وليس كلّنا يقدر على ذلك ، فقال (صلى الله عليه وآله) : اتّقوا النار ولوبشقّ تمرة ، اتّقوا النار ولوبشربة من ماء .
أيُّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خُلقه كان له جوازاً على الصّراط
، يوم تزلُّ فيه الأقدام
، ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه ، خفّف
الله عليه حسابه ، ومن كفَّ فيه شرَّه كفَّ الله عنه
غضبه يوم يلقاه ، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله
يوم يلقاه ، ومن وصل فيه رَحِمَه وصله الله برحمته
يوم يلقاه ، ومن قطع فيه رَحِمَه قطع الله عنه رحمته
يوم يلقاه ، ومن تطوَّع فيه بصلاة كتب الله له براءة
من النّار ، ومن أدَّى فيه فرضاً كان له ثواب من
أدَّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور ، ومن أكثر
فيه من الصّلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين
، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من
الشّهور .
أيُّها الناس إنَّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة
؛ فسلوا ربّكم أن لايغلقها عليكم ، وأبواب
النيران مغلّقة ؛ فسلوا ربّكم أن لايفتحها عليكم
، والشيّاطين مغلولة ؛ فسلوا ربّكم أن
لايسلّطها عليكم .
قال أميرالمؤمنين (عليه السّلام)
: فقمت فقلت : يا رسول الله
ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال : يا أبا
الحسن .. أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم
الله عزَّ وجلَ ّ))
.
من خلال هذه الخطبة
النبوية الشريفة التي حملت معاني كثيرة نلخصها بما يلي
:
1- إن شهر رمضان ؛ شهر
استثمار الحسنات والمغفرة ، لإنه شهر في ضيافة
الرحمن ، فهو شهر البركة والمغفرة والرحمة
.
2- إن أعمال الإنسان
.. نومه فيه تسبيح وعبادة ،
وأنفاسه بركات ومغفرة ،
وكل الأعمال مقبولة باجر مضاعف
، مع توفر صدق النية .
3- إن قراءة القرآن في
هذا الشهر هو تمرين للذاكرة وحماية لها ، وهذا ما
لاحضناه من طول عمر المراجع ورجال الدين ، وتمتعهم
بذاكرتهم وقابليتهم العقلية الى آخر العمر
، إن هذه الملاحظة يجب ان تخضع للاحصاء العلمي
، حتى تؤثق كأحد فؤائد
الصيام ، والصيام المنقطع في الأيام
البيض ، والمناسبات الأخرى
أي الصوم المستحب .
4- إن الصوم الجماعي هو ينمي للفرد قابلية التنافس
في التحمل ، والتفكر بجوع الاخرين وعطشهم
، مما يولد تغير في نمطية التفكير
، والتخلص من الأفكار
الانانية والتسلطية .
5- إن التاكيد على التواصل الاجتماعي والعائلي
، والتواصل مع فقراء الناس ،
يعطي للأمراض المتولدة
من ضغوطات الحياة المشفوعة بالقلق بعض التسكين
، مما يعطي للانسان عمق التفكير
السوي .
لذلك يجب علينا كمسلمين محاولة الاجتهاد والبحث في الفوائد الطبية للصوم
، والحكمة من فريضته التي بيّن المولى عز وجل بعضها
، وشرح الرسول الكريم (صلوات
الله عليه وعلى آله) بعضا
منها .
فكلما تقدمت العلوم الطبية والبحوث ساعد ذلك على ادراك وتعميق الحكمة في الصوم
، ومعرفة اسراره الطبية .
إن المعنى الحقيقي والوعي الصحيح بالصيام
، انه رياضة للنفس على القناعة بالقليل من الغذاء
، الذي يكفل للمريض المساعدة بل العلاج للتخلص من
الاملاح الزائدة ، واذابة الدهون والتخلص منها
، واعادة ضغط الدم الى مستواه الطبيعي ، وضبط
مستوى السكر في الدم .
والصائم يعوده ويدربه شهر رمضان على قهر الغرائز والشهوات ،
وعلى الزهد والتقشف في تناول الاطعمة والاشربة ،
فتقوى ارادته وعزيمته بالصوم ، فيكون في مأمن
من الامراض النفسية والعصبية المستعصية على العلاج ،
والتي مصدرها الخوف والتردد وضعف الارادة والشخصية .
إن مركز الاحساس بالشبع والجوع موجود في منطقة
المهاد بالدماغ ، قرب الهايبوثلامس
: وهي قريبة من مركز الخوف ،
ان الجوع بارادة الشخص شيشتت الاشارات العصبية من مركز الخوف
، ليتحرر الانسان من مخاوفه واوهامه
، ويصفى باله لفهم الواقع برؤية متفتحة
، مع ان انخفاض السكر بالدم في فترة الصيام
، يكون تمرين يتيح لهرمون النمو وهرمون النمو
المشابه للانسولين للتحرر من منطقة الغدة النخامية ،
وكذلك هرمون الادرينالين والنور ادرينالين ، وكذلك
الكورتيزون وكذلك هرمون الكلكون من البنكرياس ليحرر الكلايكوجين المخزون في
الكبد ليتحول الى سكر كلوكوز ، إن
هذا التمرين بحد ذاته هو تمرين لاعضاء الجسم ، مشابه
لماتجريه الجيوش من تدريبات وقت السلم للاستعداد للحرب ،
ومشابه لما تجريه اجهزة الدفاع المدني .
اذاً
.. الصوم هو تجربة حقيقية لتقويه اجهزة الجسم
، واجهزة المناعة والخلايا كافة
.
ان من يستطيع ان يعيش بهذا النمط الغذائي ، والتوازن
النفسي في شهر رمضان ، يقوى على
أن يحيا سائر أيام السنة بهذا السلوك الصحي
والايماني ؛ كي يحفظ لجسده توازنه
،