الصيام والطب . القسم الاول (*)
الدكتور رافد علاء الخزاعي
ان الصيام هو رياضة
روحية ؛ لترويض الانسان ، وتغير طباعه وسلوكه ، هو مدرسة تربوية وسلوكية
وعلاجية وصحية ؛ لتنقية النفس ، وتجديد خلايا الجسد المتعب من الادران ،
وماحمله العقل من آهات ، انه محطة سنوية نتوقف عندها لنكون امام الرب في تواصل
، وتحت الرقابة الربانية المباشرة ، على الشروط والواجبات المطلوب اتمامها من
خلال تلك العبادة .
الصوم لغويا : مطلق الإمساك عن الشيء ، فإذا أمسك شخص عن الكلام ، أو الطعام
فلم يتكلم ، ولم يأكل ، فإنه يقال له في اللغة صائم ، ومن ذلك قول القرآن
(( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا)) أي صمتاً
وإمساكاً عن الكلام .
وأما معناه في اصطلاح الشرع : فهو الإمساك عن المفطرات يوماً كاملاً ، من طلوع الفجر الصادق ، إلى غروب الشمس ، بالشروط التي وضعها الفقهاء .
ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، والصيام جنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله ، فليقل : إني امرؤ صائم.
الصوم مدرسة سلوكية :
ان الانسان تعود في الايام العادية الاكل والشرب بحرية ، بأي وقت كان ، وتعود
في حياته المدنية على الاكل بثلاث وجبات ، وبمواقيت محددة فرضتها عليه المدنية
الحديثة ، وهي الفطور ، والغداء ، والعشاء ، وان تعوده عليها خضع لنظرية بافلوف
الشرطية من التعود على الوجبات ، وصارت ممارسة اعتيادية ، فحين يحين وقت الغداء
يشعر الانسان بالجوع ورغبته بالاكل ، وكذلك العشاء وهلم جرى على هذا المنوال
السلوكي .
ان الإنسان تحكمه عاداته ، ويصل به الأمر إالى أن يصبح مجموعة من العادات ،
فتتحكم فيه إلى درجة فيعدو معها ، كأنه آلة من الآلات ، فيبتعد عن المرونة التي
تفرق بينه وبين الآلات .
والإنسان الذي
تحكمه عاداته ؛ يصبح عبدا لها ، فرض الله الصيام لتحرير الإنسان من هذه
العبودية ، فإن الصيام يعلم الإنسان نوعا من المرونة ، حتى لا يتصرف تصرف الآلة
.
وفي وقت شهر رمضان وتحديد وقت الفطور والسحور بمواعيد مختلفة عن سياق وجباته
المعتادة ، سستغير الشرطية الاجبارية لديه ، مما يولد لتغير الانماط السلوكية
الاخرى ، المرتبطة بالعادات الاخرى مثل : التدخين ، وشرب الشاي والقهوة ،
وغيرهم ممن تعود عليهن .
ان احد تخفيف تلك الآثار الانسحابية للشرطية البافلوفية هو: الجمعية في الصيام ، فصوم العائلة والاصدقاء والمجتمع كله يعطي دافع حماسي للمارسة الصوم ، مما يولد اطر جديدة للعلاقات الاجتماعية مثل : الفطور الجماعي للعائلة ، والالتئام حول مائدة الافطار ، بتجربة جديدة ونمط اكلات جديدة غير متعود عليها في ايامه الاعتيادية ، مع السحور الليلي ، والتغير في اوقات النوم ، والعبادات والاعمال المختلفة كلها ، هذه الحماسية الجماعية تؤدي الى تغير في بعض العادات النمطية .
إذا تأملنا جيدا سوف نجد أن شهر رمضان ؛ هو نظام غذائي جديد ، يلتزم به الإنسان
المسلم كل سنه ، ويزداد تأملك إذا علمت أن الإنسان ليس وحده هو الذي يصوم ؛ بل
إن الصوم موجود أيضا في الحيوانات ، فلقد لاحظ العلماء أن كثيرا من الكائنات
الحية تمر بفترة صوم اختيارية ، بالرغم من توافر الغذاء حولها ، فمثلا من
الطيور ما يكمن في عشه ويمتنع عن الطعام في مواسم معينه كل عام ، وبعض الأسماك
يدفن نفسه في قاع المحيطات أو الأنهار لفترة معينه بدون طعام .
ان احساس الانسان بالجوع خلال فترة
الامساك وعن اشياء متاحة له ؛ سيجعله يعيد تفكيره في الجوع والعطش والشعور
بمعاناة الاخرين من الفقراء والمعوزين ، ان الشعور بالجوع يرتبط بمشاعر اخرى
مثل : الخوف والقلق ، ولكنه هنا جوعا اختياريا يعطيه قوة تدريبة على الصبر والارادة
، وعلى قوة التحمل للوصول الى وقت الفطور ، وحضوره للمائدة الرماضنية سيعطيه نمطية
من التفكير الآخر هو الارتباط بالقناعة ، والشكر على النعمة ، إنه درس تدريبي
لشهر كامل وفق اطر مختلفة ، تزداد معه قوته وصبره وارادته ، مما يولد تغيرات في نمطية
التفكير .
فلذلك أعتقد إن تطور فرض الصوم عبر الأديان هو تطور تاريخي ، حيث نرى ان صيام
اليهود والمسيح والصابئة والهندوس يختلف تدريجيا ، إن صيام اليهود أشد قسوة ، وهو
مرتبط مع الاعتكاف في المعابد ، أما الصيام المسيحي فهو مرتبط بالصوم عن المنتجات
الحيوانية ، للاعتقاد انه الارتباط بالشهوة الحيوانية ، ولديهم صوم كبير وصغير
، وأما
صوم الهندوس هو صوم النذر الى وقت الحصول على مطلوب الدعاء ، كما ذكر المهامتا
غاندي : إن امه عند غياب أخية نذرت ان تصوم وامتنعت عن الاكل
والشرب لمدة عشرة ايام حتى عودته ، وصوم الصابئة وغيرها من الاديان ، نعرف ان
الصوم هو مدرسة سلوكية ، حتى الفلاسفة مثل ارسطو كان يصوم لأيام متعددة
؛ لاعتقاده ان الصوم يطرد الشر والسموم من الجسم وتقوية الارادة .
ان الصيام في الاسلام هو مدرسة سلوكية وتقويمية للنفس ، فلنسأل انفسنا بعد هذا
الشهر ماذا غير فينا هذا الشهر من عادات وسلوكيات خاطئة .
لنجعل من شهر رمضان محطة تقويمية لنا ونسال الله ان يتقبل الطاعات ويهدينا الى خير السبيل .
-------------------------
(*) مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ( بتصرف يسير) .