الصوم بين الصحة والإيمان(*)
لقد ثبت أنّ الصوم ضرورة من ضرورات الحياة، لما له من فوائد نفسية واجتماعية وجسدية، ولذا نقرأ في القرآن الكريم:
( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ) البقرة / 183 .
إذن فتلك حقيقة مقرَّرة في القرآن الكريم لا جدال فيها ، وباستقراء التاريخ نجد أن قدماء المصريين، وخاصة الكهنة ورجال الدين كانوا يصومون، وكانت مدة الصيام من أسبوع إلى ستة أسابيع.
وكان الصينيون القدماء يصومون أيضاً، كما أن الرومانيين لجأوا إلى الصوم طلباً للنصر على أعدائهم، ونلاحظ أيضاً إن اليهود يصومون، ويهتمون أكثر بالصوم عندما يتعرضون لخطر من الأخطار، أو وباء من الأوبئة الفتّاكة..
والنصارى أيضاً لهم طريقتهم الخاصة بالصوم..
والأغرب من ذلك أن بعض الحيوانات تصوم حفاظاً على نفسها وجنسها، واستجابة فطرية لظروفها وتكوينها.. بل إننا نرى بعض الأطباء ـ في حالات معيّنة ـ يأمرون مرضاهم بالصيام جزئياً أو كلياً، لفترات محددة.. وقد يكون الصوم عن أنواع من الأطعمة والاشربة بعينها..
فلا عجب إن رأينا العالم الشهير، الحائز على جائزة (نوبل) اليكسيس كارليل يقول في كتابه (الإنسان ذلك المجهول):
( إن كثرة الطعام، وانتظامه، ووفرته، تعطل وظيفة أدّت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيّف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الأوقات...).
وفي دائرة المعارف البريطانية نقرأ الآتي:
(إن أكثر الأديان، دانيها وعاليها، قد فرضت الصيام وأوجبته، فهو يلازم النفوس حتى في غير أوقات الشعائر الدينية، يقوم به بعض الأفراد، استجابة للطبيعة البشرية في بعض مظاهرها..).
والإسلام قد حبّب إلى المسلمين الصيام في غير أيام شهر رمضان أيضاً، فنجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يجعل منه أمراً اختيارياً في مناسبات معيّنة ، كصيام يوم عرفة وصيام أيام من رجب وشعبان والمحرم.. واستحباب الصوم في يومي الخميس والاثنين.. من كل أسبوع وصيام الكفارة بمختلف أنواعه..
إن هذه الحقائق الباهرة تجعل من الصوم عبادة عظيمة، بعيدة الأثر في سلوك الإنسان وصحته، ونقاء روحه وجسده..
ماذا يحدث عندما يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب أثناء الصوم ؟؟
الجانب السلبي :
1ـ يحدث في البداية الشعور بالجوع ، حيث تخلو المعدة من الطعام، وتنخفض نسبة السكر في الدم.
2ـ قد يحدث عقب ذلك بعض التهيّج العصبي في الأيام الأولى من الصوم، بسبب خروج الإنسان على المألوف من العادات، وبعض التغيرات في الأنسجة المتلفة بالجسم.. وهذه الظاهرة قد لا تحدث لكثير من الناس.
3ـ قد يعقب ذلك شعور بالضعف وخاصة عند أولئك الصائمين الذين يبذلون جهوداً فوق العادة أثناء تأدية وظائفهم، وأولئك الذين قد يهملون في تعاطي وجبتي السحور والإفطار على الطريقة الصحيحة المناسبة لهم..
الجانب الإيجابي:
وهناك بعض الأمور الخفية التي تحدث داخل جسم الإنسان دون أن نعرفها ، ففي الكبد مثلا كميّة مخزونة من السكر للطوارئ ، وزيادة هذه الكمية في الكبد قد تكون لها آثار وخيمة ، أما عند الصوم فإن سكر الكبد يتحرك.. ويذهب إلى الدم والأنسجة للاستفادة منه أثناء الصوم.
كذلك يتحرك الدهن المخزون تحت الجلد أو في الأماكن الأخرى وهي وسيلة للتخلص من هذا العبء الزائد من الدهون التي تُسبّب السِمنة، وما تجرّه من مصائب ومضاعفات خطيرة..
كذلك تتحرك بعض مواد العضلات والغدد وبعض البروتينات، ومن ثم نجد أن معظم الأعضاء تضحي بمادتها الخاصة ، للإبقاء على الوسط الداخلي، وسلامة القلب والجهاز العصبي..
وهكذا نرى أن الصوم ينظّف ويبدّل أنسجتنا..
لكننا نلاحظ الآتي: أن الذي يتم استهلاكه هي الأنسجة الزائدة أو الأنسجة الغير رئيسية، فمثلاً:
العضلات تفقد 40%
الطحال يفقد 67%
الكبد يفقد 54%
أما القلب فيفقد 3% فقط
بينما أنسجة المخ والأعصاب لا تمسّ أبداً.
والمفقود عادة من الأنسجة لا يمسّ الجوهر، وإنما يتناول المادة الزائدة أو المضرة..
ويلاحظ أيضاً أن النبض الطبيعي للقلب يتراوح بين 70ـ 88 نبضة مثلاً، أما أثناء الصوم فيقلّ الدم الذاهب إلى المعدة، وبالتالي يقلّ الجهد الذي يبذله القلب ، وينخفض النبض أحياناً إلى حوالي 60 نبضة فقط .. وفي ذلك راحة للقلب ، وتخفيف من العبء عليه ، وهذا هام خاصة بالنسبة لكبار السن ومرضى القلب والضغط .. فما أروع قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( صوموا تصحّوا )).
الصوم والدواء:
في عصرنا كثُر تعاطي الأدوية أو العقاقير المختلفة ، وخاصة تلك التي تتعلق بتخفيف الآلام والأرق والتوتر ، ومعظم هذه الأدوية لها آثار جانبيّة ، فضلاً عما يتخلف عنها في الجسم من سموم ومركبات ضارة وللأسف فإن كثيراً من الناس يتعاطى هذه الأدوية دون استشارة الطبيب في بعض الأحيان.
لكن ما العلاقة بين الصوم والأدوية التي نتعاطاها ؟؟
يقول الدكتور ( ماك فادون ) ، وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره.. يقول:
( أن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وان لم يكن مريضا ً.. لان سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض ، وتُثقله ، فيقلّ نشاطه.. فإذا صام الإنسان خفّ وزنه ، وتحلّلت هذه السموم من جسمه بعد أن كانت مجتمعة ، وما أن تذهب عنه حتى يصفو صفاء تاماً.
ومع ذلك يستطيع الصائم ـ إذا أراد ـ أن يستردّ وزنه ، ويجدد جسمه في مدة لا تزيد على العشرين يوماً بعد الإفطار، لكنه يكون قد تخلّص من أعباء السموم، ويبدأ يشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل ).
والجدير بالذكر ، أن هذا الطبيب عالج بالصوم كثيراً من الأمراض المختلفة ، وذكر أسماء المرضى وأمراضهم وتاريخ علاجهم ، إلا إنه قرّر أن انتفاع المرضى بالصوم يتفاوت حسب أمراضهم، فأكثر المرضى استفادة من الصيام، المصابون بأمراض المعدة، فالصوم يسارع في شفائها، والتخفيف من أعراضها المتعبة، وكذلك المصابون ببعض أمراض الدم والجلد والروماتزم وغيرها.
ولقد قامت بالفعل في العالم الأوروبي مصحّات عديدة يُتّخذ الصوم فيها كعلاج رئيسي لكثير من الأمراض وخاصة اضطرابات الهضم والبدانة وبعض أمراض القلب والكبد والبول والسكري وارتفاع ضغط الدم.
ولا شك أن بعض الأمراض يُزيدها خطورة أنواع معينة من الطعام مثل زيادة الأملاح أو الدهون أو المواد السكريّة، تلك العلاقة بين الصحة العامة والطعام علاقة أكيدة لا خلاف عليها، ولهذا نرى الأطباء يكتبون وصفات بالطعام الذي يناسب المريض، ويحرمونه من بعض الأطعمة التي قد تزيد حالته سوءاً.
فيستطيع كل صائم أن يجعل من هذا الشهر الكريم فترة للعلاج والوقاية من كثير من الأمراض.
طعام الإفطار:
يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) :
(( إذا افطر أحدكم ، فليفطر على تمر ، فانه بركة ، فإن لم يجد فالماء ، فانه طهور...)) صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فالأمعاء ـ كما يقول الدكتور أنور المفتي ـ تمتصّ المواد السكرية الذائبة في أقلّ من خمس دقائق فيرتوي الجسم ، وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه لأن سكر الدم ينخفض أثناء الصوم فيؤدي إلى الشعور بالجوع وإلى بعض التوترات أحياناً، وهذا سرعان ما يزول بتناول المواد السكرية .. وهنا تظهر الحكمة النبوية الشريفة في البدء بتعاطي مادة سكرية كالتمر بالذات.. ولو علمنا ما يشمل عليه البَلَح بأنواعه المختلفة، لأدركنا أكثر وأكثر تلك الحكمة النبوية العالية ، فالدراسات الغذائية عليه أثبتت الآتي :
أولاً ـ يحتوي البلح (التمر) على مواد سكرية تبلغ نسبتها 70% ، ومعظم تلك السكريات الموجودة في التمر من نوع السكريات المحوّلة ، مثل سكر الفاكهة الذي يسمونه (الفركتوز) ، وهذا السكر سهل الهضم وسهل الاحتراق ومن ثم تتولد عنه طاقة عالية دون أن تُكلّف الجسم عناءً شديداً في تحويلها أو هضمها أو تمثيلها الغذائي ، وبالطبع فإن هذا السكر يختلف عن السكر الذي نستعمله في طعامنا واعني به سكر القصب (السكروز)، وقد ثبت من دراسات أجرَتْها منظّمة الصحة العالمية على (السكروز) (أي سكّر القصب والشمندر)، أنّ لزيادة استعماله علاقة ببعض أمراض القلب والشرايين، وما يتّصل بالسمنة من مضاعفات..
ثانياً ـ يحتوي التمر على معادن كثيرة هامة أشهرها:
ـ أشهرها البوتاسيوم والصوديوم والكالسيوم. والماغنسيوم.
وهي معادن لها أهميتها فيما يتعلق بالعمليات الكيماوية في جسم الإنسان.
كما أن هناك تفاصيل أخرى لا مجال لذكرها هنا لذا نرى الحكمة النبوية في تفضيل التمر والماء.
نصائح ضرورية للصائم:
إن هناك نصائح هامة من الخير لنا جميعاً الالتزام بها:
1 ـ تناول قدراً من التمر المحلّى بالسكر وقد مرّ ذكر ذلك ..
2 ـ لا تفاجئ المعدة بالطعام مباشرة ، فمن الأفضل أن تؤدّي صلاة المغرب .
3 ـ إبدأ بتناول كميّة معقولة من (الحساء) لتنبيه المعدة فتبدأ بالإفرازات الهاضمة.
4 ـ تجنّب التوابل وشرب الكثير من الماء أثناء الطعام لأنه يخفف تركيز الإفرازات الهاضمة ، ويبطئ من عملية الهضم، وله آثار سلبية أخرى.
5 ـ تجنّب الدهنيات الكثيرة لأنها قد تؤدي إلى البدانة وعسر الهضم ، وتساهم في أمراض الشرايين والقلب.
6 ـ لا تتخم المعدة بالطعام.
7 ـ امضغ الطعام مضغاً جيداً وفتّتْه تفتيتاً جيداً ، فانه أمر حيوي حتى يسهل هضمه بعد ذلك في المعدة .
8 ـ يجب ألا تكتفي بنوع واحد من المواد الغذائية، فلا بد أن تكون الوجبة شاملة للعناصر الغذائية المختلفة، حتى تحصل على الغذاء المتوازن..
السحور:
السحور ضرورة بالنسبة للصائم وخاصة أولئك الذين يبذلون جهوداً مضاعفة في العمل أثناء النهار، ولذا نرى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( تسحّروا ، فإن في السحور بركة )) ويقول في حديث آخر : (( استعينوا بطعام السحور على صيام النهار ، وبقيلولة النهار على قيام الليل )) .. ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر ، وأخروا السحور )) وفي هذا لا شك توازن زمني بين الوجبتين .
كما أوصى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنوم في القيلولة ، وهذه مسألة حيويّة ، تمنع عن الصائم التراخي والكسل ، الناشئين عن قلة النوم واضطرابه.
وهناك نصائح عامة بالنسبة للسحور نستطيع أن نوجزها في النقاط التالية:
1ـ أن تكون وجبة السحور خفيفة.
2ـ عدم النوم بعد تناول السحور مباشرة.
3ـ عدم الإكثار من الدهون والنوم مباشرة بعدها.
4ـ المشويات أفضل بكثير من المقليات لأن الأخيرة تحتوي على نسبة كبيرة من الدهون.
5ـ أن تشمل وجبة السحور الصورة الغذائية المتكاملة أو المتوازنة .
6ـ إذا كُنت ممن يتعاطون بعض الأدوية ، وقادراً على الصوم فلا تنسَ أن تأخذ دواءك.
7ـ استعمال الفرشاة أو السواك لتنظيف الأسنان هام وحيوي قبل النوم ، فبالإضافة إلى أن ذلك سنّة محبّبة ، فهو له فوائد صحيّة كثيرة.
هذا بالنسبة للشخص العادي ، وهناك أفراد قد تقلّ احتياجاتهم من الطعام عن ذلك ، و