العُجب رؤية قرآنية ـ القسم الثاني
  • عنوان المقال: العُجب رؤية قرآنية ـ القسم الثاني
  • الکاتب: الشيخ محمد مهدي الآصفي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 11:56:55 3-10-1403

العُجب و"الأنا"
مصدر العجب "الأنا" ولا محالة يكون علاج العجب في علاج "الأنا"، إذن المسألة الأساسية في المرض والعلاج هو "الأنا"، فلنتأمل إذن فيه.
للأنا حالتان: في الحالة الأولى يتمحور الأنا حول نفسه، ويستقطب كل جهد صاحبه وحركته وكل حبّه وبغضه وكل مشاعره واهتماماته.
وفي الحالة الثانية تكون مرضاة الله هي المحور لكل حركة الإنسان ونشاطه واهتمامه.
(قُل إنَّ صَلاتِي وَنُسُكي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبّ العلَمِينَ)(الأنعام:163).
في الحالة الأولى يسقط الإنسان وفي الحالة الثانية يعرج الإنسان. ومرض العجب بعض أعراض الحالة الأولى، وعلاج هذا المرض وسائر الأمراض الناشئة من مركزية "الأنا" في الحالة الثانية. فإذا فكّ الإنسان ارتباطه من "الأنا" وربط نفسه بمحور الله تعالى وذكره ورضاه يخلص من العجب كما يتخلص من كل الأعراض والأمراض الكثيرة الأخرى التي تنشأ من حالة محورية الأنا.
وهذه الحالة من الإستكبار ومحورية "الأنا" هو الذي منع إبليس (لعنه الله) من الإستجابة لأمر الله تعالى في السجود لآدم: (قَالَ يَإبلِسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسجُدَ لَمَا خَلَقتُ بيدي أستكبرتَ أم كُنتَ مِنَ العالِينَ، قَالَ أنَا خَيرٌ مَنّهُ خَلَقتَني مَن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ)(ص:75ـ76).
وفي الخطاب الإلهي لإبليس من العناية بخلق آدم "لما خلقت بيديَّ". ومن الإنكار الساخر على إبليس (إستكبرت أم كنت من العالين)؟ ما لا يخفى على الذي يمعن النظر في هذا الخطاب.
وصياغة الآية دقيقة ومعبرة، فهي تبرز "الأنا" بشكل صارخ في جواب إبليس عن السبب الذي منعه من السجود (ما منعك أن تسجد)؟
وينحدر اللّعين من "الأنا" إلى الحسد، فلا يطيق أن يرى هذه الميزة لآدم (عليه السلام) من دونه فيحسده، وهذا هو الانحدار الأوّل.
ويشقَ عليه أن يستجيب لأمر الله تعالى في السجود لآدم، فيتمرد على أمر الله تعالى ويمتنع عن الاستجابة له، وهذا هو الانحدار الثاني، وهو نهاية السقوط في حياة هذا اللّعين.
وابتلاء قارون أيضاً في هذه الأنانية الطاغية:
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ عِندِي)(القصص:78). فلا يرى قارون لله تعالى فضلاً عليه فيما عنده من الكنوز حتى يحاسبه عليه ويطلب منه الإنفاق منها، وإنما هي له خاصة، تجمعت عنده على علم عنده وجهد له. إذن، نقطة الضعف في شخصية قارون هي "الأنا"، ومن خلال هذه النقطة اندسّ الشيطان إليه، ودعاه إلى التمرّد على الله تعالى ورسوله.
ويبرز الأنا بصورة صارخة في حياة فرعون:
(فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعلَى)(النازعات:24)، وهذه واحدة من أقبح حالات الإستعلاء للأنا.
وهذه الحالة من الأنانية الطاغية تؤدّي بصاحبها إلى استضعاف الآخرين واستخفافهم وإذلالهم للتمكن منهم وفرض نفوذه وسيطرته عليهم:
(فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَاَطَاعُوهُ)(الزخرف:54).
وهذا هو الوجه الممقوت والقبيح من الأنا، وإلى هذا الوجه تعود طائفة كبيرة من المشاكل والمتاعب والمصائب والابتلاء في حياة الإنسان.
والوجه الآخر للأنا هو وجه العبودية والإرتباط والإنشداد بالله تعالى.
والأنا ـ في هذا الوجه الآخر ـ لا يكون محوراً لحركة الإنسان وجهده ونشاطه وحبّه وبغضه، وإنما يتحوّل الإنسان من "الأنا" إلى محور مرضاة الله تعالى وقربه، ويكون مرضاة الله هو غاية الإنسان في حركته ونشاطه وهو الأساس والمحور في حبّه وبغضه.
يقول تعالى فيما يوجه به عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (قُل إنني هداني رَبّي إلى صراطٍ مُستَقيم ديناً قيماً ملةَ إبراهيم حَنِفاً وَمَا كَان مِنَ المُشرِكِينَ، قُل إن صلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَمَاتي للهِ رَبّ العلمِينَ، لا شريكَ لَهُ وَبذلِكَ أُمِرتُ وَأنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ)(الأنعام:161ـ163)، وهذا هو الوجه المقبل على الله تعالى من " الأنا" فيما كان الوجه الأوّل هو الوجه المعرض عن الله تعالى من الأنا.
الدوائر الأربعة للأنا
وكما ينشئ الإنسان العلاقة مع الآخرين تتصف بالحبّ والبغض والإنسجام والتناقض والتعاون والتواكل، كذلك للإنسان دوائر أُخر من العلاقات على نفس الترتيب مع الله تعالى ومع نفسه ومع الدنيا.
وهذه أربعة داوئر للعلاقات يدخل فيها الأنا بالصورة التالية:
1ـ علاقة الأنا بالله تعالى.
2ـ علاقة الأنا بالآخرين.
3ـ علاقة الأنا بالدنيا (الأشياء).
4ـ علاقة الأنا بنفسه.
ونمط علاقة الأنا في كل من هذه الدوائر الأربعة يختلف اختلافاً جوهرياً وعميقاً في الحالة الأولى (محورية الأنا) عن الحالة الثانية (محورية الله تعالى).
وطائفة واسعة من مصائب الإنسان وابتلاءاته ومشاكله هي من إفرازات "الأنا" عندما يتحوّل "الأنا" في حياة الإنسان إلى محور من دون الله تعالى. فيكون من إفراز "الإنا" في هذه الحالة في علاقة الإنسان بالله تعالى التكبر على الله، والتمرّد على الله والشرك والكفر. ومن إفراز الأنا في علاقة الإنسان بالآخرين نظام الإستكبار والإستضعاف في العلاقات الاجتماعية، والحسد، والعدوان، والبغضاء، والكراهية فيما بين الناس. ومن إفراز الأنا في هذه الحالة في علاقات الإنسان بالدنيا الحرص والطمع والجشع. ومن إفراز الأنا في علاقته بنفسه العجب، الغرور والاعتداد بالنفس وتزكية النفس وتبرئتها عن الخطأ والتقصير.
بينما نجد أن إفراز الأنا ونتائجه عندما يجعل الإنسان مرضاة الله تعالى في حياته هي المحور ويجعل الأنا تابعاً لهذا المحور أمر يختلف تماماً في النقاط التي ذكرناها في هذه الشبكة الواسعة من العلاقات.
وهذا إجمال لابد له من تفصيل، وهذا التفصيل يرتبط بموضوع بحثنا ارتباطاً وثيقاً، لابد من الدخول فيه.
وإليك هذا التفصيل:
عندما يتحوّل "الأنا" في حياة الإنسان إلى محور يستقطب كل مشاعره واهتماماته يصدق على هذا الإنسان أنه أتخذ "الأنا" إلهاً. ويتحول "الأنا" إلى صنم في حياته يعبده الإنسان من دون الله. وبقدر ما يبرز " الأنا" إلهاً في حياة الإنسان يضمر إحساس الإنسان بألوهية الله تعالى في حياته.
وبين هذا وذاك نسبة عكسية دائماً، فكلما تبرز ألوهية الأنا أو الهوى في حياة الإنسان أكثر يختفي التوحيد أكثر. فإن التوحيد يقع في النقطة المقابلة لمحورية الأنا تماماً. وكلما تتكرس حالة محورية الأنا في حياة الإنسان تختفي حالة التوحيد.
والمرحلة الأولى لهذا البروز والإختفاء "الشرك" حيث يشرك الإنسان بالله تعالى، والشريك الذي يشركه الإنسان في الألوهية هو "الأنا". والمرحلة الأخيرة لهذا البروز والإختفاء "الكفر" حيث يغطي الأنا ذكر الله في قلب الإنسان بشكل كامل، والكفر بمعنى التغطية، فتبرز محورية
الأنا في حياة الإنسان بصورة طاغية ويختفي التوحيد تماماً من نفسه وهذه هي التي ينتهي إليها الإنسان غالباً عندما يستدرجه حبّ الذات.
وهذا "الكفر" من الكفر في مقام العمل، وليس من الكفر في "العقيدة". وقد يختلفان فيبقى الإنسان في العقيدة مؤمناً بالله تعالى خالقاً ورازقاً ورباً، ولكنه في مرحلة العمل ينسى الله تعالى ويُنكره تماماً في اهتماماته وجهده وحركته ومشاعره ويتحرك حول نفسه، ويتحول من محور "الله" إلى محور "الأنا" وينفك تماماً عن المحور الأول، ويرتبط تماماً بالمحور الثاني.
وهذا الكفر في التعامل قد يستتبع الكفر في العقيدة، وقد يفارق الكفر في العقيدة ولكن القرآن يحكم عليه بالكفر، كما يحكم على الحالة الأولى منها بالشرك.
قصّة صاحب الجنتين
وفي قصّة صاحب الجنتين في سورة الكهف نلتقي نحن هذه الحالة من الكفر المستبطن في التعامل.
ولنقرأ هذه القصة في سورة الكهف:
(واضرب لَهُم مثّلاً رجُلَينِ جَعَلنَا لأحدهما جَنتَينِ من أعنبٍ وحَفَفنَهُمَا بنَخلٍ وَجَعَلنَا بينُهما زرعاً، كلتا الجنتين ءاتت أُكُلَهَا وَلَم تظلم مِنهُ شيئاً وَفَجّرنَا خِلَلهُمَا نَهَراً، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصحِبهِ وَهُوَ يَحَاوِرُهُ أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً، ودخل جنتهُ وَهُوَ ظالمٌ لنفسِهِ قَالَ ما أظنُ أن تبيد هذه أبداً، وما أظنُ الساعَةَ قَائِمَةً ولئن رددتُ إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً، قال لهُ صَحبُهُ وهُو يحاوره أكفرت بالذي خَلَقكَ مِن تُراب ثُمّ من نطفةٍ ثُمَّ سويك رَجُلاً، لكنا هو الله ربي ولا أشركُ بربي أحَداً، ولو لا إذ دَخَلتَ جنتك قلتَ ما شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترّن أنا أقل منكَ مالاً وولداً، فعسَى ربي أن يؤتين خيراً من جنتكَ ويُرسلَ عَلَيها حُسباناً منَ السماءِ فَتُصبِحَ صَعيداً زَلَفاً، أو يُصبِحَ ماؤُهَا غوراً فَلَن تَستَطيعَ لهُ طَلَباً، وَأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقَلّبُ كفيهِ عّلى ما أنفَقَ فيها وهي خاويَةٌ على عُرُوشها ويقولُ يليتني لم أشرك بربي أحداً، ولّم تكُن لّهُ فِئَةٌ ينصرُونهُ مّن دُونِ الله وما كانَ مُنتَصراً، هُنَالكَ الوليةُ للهِ الحقُ هُوَ خَيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقباً)(الكهف:32ـ44).
ولنتأمل في هذه الآيات فإنها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى: (جعلنا لأحدهما جنتين)، (وفجّرنا خِللهما نهراً).
ولا شكّ أنها عناية مقصود في بداية القصة، وهو أحد الإتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصة في سورة الكهف.
وهذا الإتجاه هو ربط كلّ نعمة وموهبة وخير ورزق في حياة الإنسان بالله تعالى، والتأكيد على هذا الربط في مقابل الإتجاه الآخر نقرأه في هذه القصة وهو فكّ ارتباط النّعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.
ويبرز هذا الإتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنتين لصاحبه، وهو يحاوره: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.
ومن عجب أن هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أوّلاً ثم إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة: (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً).
وسبب بروز "الأنا" وطغيانه عند صاحب الجنتين ليس هو "النعمة". وإنما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به. إن النعمة عنده له وهو وليها وليس لأحد فضل عليه فيها، بعكس التصور الذي يقدمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً.
فإن النعمة ـ بناءً على التصوّر القرآني ـ لله تعالى وهو وليّها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أن الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.
وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصية يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين. ولكلّ من هاتين الشخصيّتين طريقته وأسلوبه في فهم النعمة والتعامل معها. في النمط الأوّل من الشخصية، وهو النمط القرآني، يتكرس ارتباط النعمة بالله تعالى وهو بمعنى فقر الإنسان إلى الله تعالى ولي النعمة، ولذلك فإن السمة البارزة في هذه الشخصية هي "الفقر" إلى الله تعالى. يقول الله تعالى: ( يَأيُّهَا الناسُ أنَتُم الفُقَرَاءُ إلى اللهُ واللهُ هُوّ الغَنُي الحَمِيدُ)(فاطر:15).
وأروع تصوير لهذه الحالة من "الأنا" ورد في القرآن في قصة موسى بن عمران (عليه السلام) عندما وقف في الظلّ يستريح بعدما سقى لابنتي شعيب: (رَبّ إنِي لِمَا أنزلتَ إليَّ مَن خَيرٍ فَقِيرٌ)(القصص:24).
والأنا في هذه الآية الكريمة تقع بين نعمة نازلة من الله "لما أنزلت إليّ" وفقر صاعد إلى الله "فقير" أحدهما ينتهي إلى.. الإنسان من الله تعالى وهو النعمة والرحمة، والآخر ينطلق من الإنسان إلى الله وهو الفقر. و"الأنا" بين هذا الخط الصاعد والخط النازل.
وهذا هو الوضع الصحيح للأنا في الإرتباط بالنعمة والنمط القرآني للشخصية.
وهذا النموذج من الشخصية بارز كل البروز في الحوار الوارد في قصة صاحب الجنتين، كما سيتضح أكثر فيما بعد، إن شاء الله.
والنمط الآخر من الشخصية هو النمط الأناني، وفيها يتكرس ارتباط النعمة بالأنا وتختفي علاقة النعمة بالله تعالى، فتكون النعمة في حياة الإنسان من علامة "الغنى" وليس "الفقر" وكلّما يزداد حظ الإنسان من النعمة يشعر بالإستغناء أكثر من ذي قبل.
والإحساس الاحساس سبب الإنفصال عن الله، كما أن الإحساس بالفقر سبب الإرتباط بالله تعالى.
وفي حالة الإسحساس بالغنى والإنفصال عن الله يبرز الأنا ويطغى، كما أن الأنا في حالة الإحساس بالفقر والإرتباط بالله يختفي ويضمر.
وصدق الله تعالى حيث يقول: (كَلاَّ إنَّ الإنسَنَ لَيَطغَى، أنَ رَّءَاهُ استغنَى)(العلق:6)، وهذه الآية تصوّر بصورة واضحة ودقيقة كيف تتحوّل النعمة في حياة الإنسان إلى إحساس بالغنى وشعور بالإنفصال عن الله وبالتالي الطغيان. وهذه الحالة من الأنانية وبروز الأنا وما يستتبعه من التباهي والتفاخر والتكاثر ظاهر في هذه الفقرة من الحوار الوارد في القصة" (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً). ومكافحة هذه الحالة من الطغيان بتكريس الفقر إلى الله وتحجيم الأنا وتحديده والمنع من بروزه.
وفي التصوّر الذي يقدّمه إلينا القرآن عن "الأنا" وطريقة التعامل معه يعتبر إطلاق العنان للأنا من الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه، حيث يقطع الإنسان نفسه عن الله. وهو من أقبح أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه.
ولذلك فإن القرآن يقول عن صاحب الجنتين: (ودخل جنّته وهو ظالمٌ لنفسه).
ولهذا الظلم وجهان اثنان:
الوجه الأوّل: الإنشداد إلى متاع الحياة الدنيا وطول الأمل فيه، حتى كأنه لا يبيد ولا يفنى: (قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً). وهو أمر طبيعي، فإن الإنسان إذا شدّ كل حبال نفسه بالدنيا ودّ لو لم ينقطع عن الدنيا وتبقى له ولا تبيد، وهو بمعنى طول الأمل.
والوجه الثاني: قطع الرجاء والأمل عن الله في مقابل طول الأمل بالدنيا، حتى كأن الساعة لا تقوم، وإلى هذا الإحساس الباطني المكتوم تشير الآية الكريم: (وما أظنّ الساعة قائمة).
وهذان وجهان لحقيقة واحدة، لا يمكن التفكيك بينهما.
والفصل الأخير من مأساة "الأنا" في هذا الحوار، إن الإنسان عندما يسترسل في الطغيان، يتحوّل عنده بالتدريج الشعور بالفقر إلى الله إلى إحساس بالإستحقاق على الله: (ولئن رُددتُ إلى ربّي لأجدنّ خيراً منها منقلباً)، فهو يفترض أنه في الآخرة ـ لو قامت الساعة ـ لا يقلّ مالاً وولداً عنه في هذه الدنيا، بل يجد فيها خيراً مما يملك في الدنيا منقلباً.
وليس يطلب ذلك من الله تعالى ولا يرجوه، ولا يسعى لتحصله سعياً في الدنيا، وإنما يفترض أنه يستحق ذلك على الله استحقاقاً.
ولا يخفى في نفس الوقت شكّه في أن تقوم الساعة: (ولئن رُددت إلى ربّي) وينتهي هذا الطرف من الحوار هنا، ويبدأ ذكر الطرف الآخر من الحوار، وهو نموذج آخر من الشخصية
يختلف عن النموذج الأوّل في مكوناته ومنطلقاته. فلنتأمل في هذا الشطر الآخر من الحوار:
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سوّيك رجلاً)؟
وهذه أبرز نطقة تلفت النظر في هذا الحوار: فلم يسبق من صاحب الجنتين إنكار لله تعالى بالصراحة، عدا ما سبق منه من التشكيك في أن تقوم الساعة. فما مصدر هذه النسبة التي ينسبها إليه صاحبه المؤمن الذي يحاوره. إن هذا الكفر هو كفر بالله تعالى في مقام التعامل، يستبطنه الموقف العملي لصاحب الجنتين وطريقة تعامله مع نِعم الله تعالى.
إلا أن صاحب الجنتين يحاول أن يتكتم عليه ويخفيه ويحاول صاحبه المؤمن الذي يحاوره أن يجابهه به علانية، ويقرعه به ليردعه عنه.
وهذه هي الحقيقة التي أكدناها من قبل، فإن في كل بروز للأنا إختفاء للتوحيد في علاقة الإنسان بالله، والمرحلة الأولى منه الشرك والمرحلة الأخيرة الكفر.
ولنتأمّل في البقية من هذا الحوار:
(لكنّا هُوَ اللهُ رَبّي ولا أُشركُ برَبّي أحداً، ولو لا إذ دخَلتَ جَنّتَكَ قُلتَ مَا شاءَ الله لا قوةَ إلاّ باللهِ إن ترَنِ أنا أقَل مِنكَ مالاً وولداً، فَعَسَى ربي أن يُوتِيَنِ خَيراً من جَنَّتِكَ) وهذا شطر آخر من الخلاف في طريقة التعامل مع الأنا من هذين النموذجين من الشخصية، فإذا كان "الأنا" أبرز شيء في كلام المحاور الأوّل، فإن "الأنا" هنا يختفي، ويبرز التوحيد بشكل بارز: (لكنّا هو الله ربّي).
والفرق بين "الأنا" في كلام هذا وذاك هو مفتاح فهم كلّ من هاتين الشخصيتين وأساس الفرق بينهما: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً)، (لكنّا هو الله ربّي) وإذا كان المحاور الأوّل ربط النعمة مباشرة بنفسه، وكأنه وليّها ومالكها الحقيقي نجد أن المحاور المؤمن يربط هذه النعمة بمشيئة الله وقوّته: (ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله).
وإذا كان أمل المحاور الأوّل وثقته فيما يفني ويبيد من متاع الدنيا، فإن ثقة المحاور المؤمن فيما يبقى ولا يزول من الأمل برحمة الله:
(فعسى ربّي أن يؤتين خيراً من جنّتك).
علاقة "الأنا" بالآخرين
هذا في علاقة "الأنا" بالله تعالى، وأما في علاقة "الأنا" بالآخرين فإن أكثر مآسي الإنسان وشقائه في علاقته بالآخرين يعود إلى "الأنا" و"الهوى"، كما أن أكثر شقاء الإنسان في علاقته بالله تبارك وتعالى هو كذلك في "الأنا" و"الهوى".
نحن نتحدّث هنا عن بؤس الإنسان في علاقته بالآخرين بقدر ما يتعلق الأمر بـ"الأنا"، كما تحدّثنا قبل هذا عن بؤسه في علاقته بالله تعالى في نفس الحقل.
إن حالة التكريس والإستعلاء للأنا تؤدّي في شبكة العلاقات الإجتماعية إلى حالتي الإستكبار والإستضعاف في علاقة الناس بعضهم ببعض في المجتمع. وضمن هذه العلاقة يحاول كلّ فرد في المجتمع أن يفرض نفوذه وهيمنته على الآخرين. ولكي يحقق هذه الغاية يستضعف الآخرين ويستخفّهم ليتمكّن من فرض نفوذه عليهم.
يقول تعالى عن علاقة فرعون بقومه: (فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ).
وبهذه الطريقة يتكوّن في المجتمع نظام من العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يقوم على أساس الاستكبار والاستضعاف، وهو أساس لكثير من الفساد على وجه الأرض.
كما أن حالة التكريس والاستئثار والمحورية للأنا تؤدّي إلى طائفة من المتاعب الاجتماعية والأخلاقية في حياة الإنسان في علاقاته بالآخرين، كالعدوان والحسد "تمني إزالة النعمة عن الآخرين"، والكراهية والبغضاء والاستئثار وسوء الظن والارتياب وفقدان الثقة فيما بين الناس، وحبّ البروز والاشتهار واستراق الأضواء عن الآخرين.
وهذه المفاسد وغيرها في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي حصيلة حالة الاستعلاء والتكريس والاستئثار للأنا.
علاقة الإنسان بنفسه
وأما علاقة الإنسان بنفسه فهي علاقة معقدة شديدة التعقيد، أشرنا إليها سابقاً إشارة سريعة.
وهذه العلاقة قد تقوم على أساس من إنبهار الإنسان بنفسه فيما آتاه الله سبحانه وتعالى من ملكات ومواهب وفيما يفعله ويقوله وهو جانب من العجب. وقد تقوم على أساس من الترفع عن النقد ورفض الاعتراف بتقصير أو خطأ في قول أو فعل و"تزكية النفس" وتبرأتها وهو الجانب الآخر من العجب.
علاقة الإنسان بالدنيا
وفي دائرة علاقة الإنسان بالدنيا ومغرياتها تؤدي هذه الحالة إلى الحرص والجشع و"جوعة الدنيا" والنهم الذي لا يشبعه شيء. وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لو لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.."(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إحياء العلوم للغزالي 238:3.
النهاية
والنتيجة والعاقبة التي ينتهي إليها جميع أولئك الذين يتخذون "الأنا" إلهاً ومحوراً في حياتهم من دون الله تعالى هي الانغلاق الكامل على آيات الله تعالى والطبع والرين على القلوب.
يقول تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق). ويقول أيضاً: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار).
تعديل الأنا
وبعد هذه الجولة في أعراض "الأنا" عندما يتخذ الإنسان "الأنا" محوراً وإلهاً في حياته من دون الله، نبحث عن الوسائل التي يقدّمها الإسلام في منهاجه التربوي لتعديل "الأنا" في حياة الإنسان.
فإن الإسلام لا يؤمن بمبدأ إلغاء "الأنا" كما لا يؤمن بمشروع الغاء "الهوى" والمنهج الذي يقره الإسلام في "الأنا" و"الهوى" هو التعديل وليس الإلغاء.
ولابد أن نبحث عن الوسائل التي يقدمّها الإسلام في منهجه التربوي لتعديل "الأنا"، أما تعديل الهوى فهو أمر خارج عن اختصاص هذه المقالة نُحيلة إلى مواضعه من الدراسات الأخلاقية والنفسية في الإسلام.
وتعديل "الأنا" هو علاج العجب بشكل دقيق، فإن مشكلة "العجب" تكمن في "الأنا" وبالضرورة يكون علاج هذه المشكلة في تعديل الأنا وتلطيفه.
ويتم تعديل الأنا بصورة كاملة في التربية الإسلامية ضمن تحديد وتنظيم علاقة الأنا بالله تعالى وعلاقته بالآخرين وعلاقته بنفسه.
وقد أولى الإسلام هذه الدوائر الثلاثة من العلاقات في حياة الإنسان اهتماماً كبيراً. وإذا قدر للإنسان أن ينظم علاقاته مع الله ومع الآخرين ومع نفسه ومع الدنيا بالطريقة التي يشرحها ويوضحها الإٍسلام، يسلم من كل الأعراض التي تصيب الإنسان من ناحية "الأنا" والعجب من أهمّ هذه الأمراض.
ونحن فيما يلي نحاول إن شاء الله أن نطرح النظرية الإسلامية في علاقة الأنا بالله تعالى وبالآخرين وبنفسه.
علاقة "الأنا" بالله تعالى
الأنماط الثلاثة للعلاقة بالله
علاقة "الأنا" بالله تعالى من الأمور الدقيقة التي تعطيها النصوص الإسلامية اهتماماً كبيراً.
فهناك أنماط من العلاقة بالله تعالى تقوم على أساس الطغيان على الله وتجاوز حدود العبودية، والقرآن يسمّي هذه العلاقة بالطغيان، يقول تعالى: (كلا إنّ الإنسن ليطغى، أنّ رءاهُ استغنى)(العلق:6).
(فأما من طغى، وءاثر الحيوة الدُنيا، فإنّ الجحيم هي المأوى)(النازعات:37ـ39).
(فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغينهم يعمهون)(يونس:11).
وللطغيان في حياة الإنسان صورة ومصاديق كثيرة منها الخصومة مع الله تعالى:
(ألم ير الإنسنُ أنّا خلقنهُ مِن نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبينٌ)(يس:77).
ومنه الصد عن سبيل الله:
(إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يغلبُون…)(الأنفال:36).
ومنه محاربة الله.
(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حاربَ الله ورسولهُ)(التوبة:107).
ومنه محادّة الله:
(إن الذينَ يُحادونَ الله ورسولهُ أولئك في الأذلينَ)(المجادلة).
ومنه مشاقة الله:
(ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديدُ العقاب)(الأنفال:13).
وهناك نوع آخر من العلاقة بالله قائمة على أساس الإدلال والمنّ على الله ورسوله:
(يمنونَ عليك أن أسلموا قُل لا تمنوا عليَّ إسلمكم بل الله يمنّ عليكم أن هديكم للإيمنِ إن كنتم صدقينَ)(الحجرات:17).
والنوع الثالث من العلاقة بالله تعالى قائمة على أساس العبودية لله والحب والذكر والخوف والرجاء والطاعة والخشوع والخضوع والإخبات لله. وموقع الأنا في هذه العلاقة من الله تعالى هو موقع التذلل والعبودية والخشوع وليس موقع الطغيان والخلاف ولا موقع الإدلال والمنّ.
وهذه هي العلاقة الصحيحة للأنا مع الله تعالى، وهذه العلاقة تحمي الإنسان من العجب وتمنع من حالة تورم الأنا، وتحدّد الموضع الصحيح للأنا من الله تعالى والحجم الحقيقي لها.
عناصر العلاقة بالله
والنصوص الإسلامية تعطي للعلاقة بالله تعالى اهتماماً كبيراً، وتعتبر هذه العلاقة هي الأساس والمحور للشخصية الإسلامية، وتحدّد الأبعاد الأخرى للشخصية الإسلامية على ضوء
هذه العلاقة. والعناصر التي تتألّف منها علاقة العبد بالله تعالى مجموعة متناسقة من النقاط يتألّف منها طيف منسجم ومتناسب ومتعادل في العلاقة بالله سبحانه وتعالى.
ودراسة هذا الطيف وتحليله يحتاج إلى فرصة ودراسة أوسع من هذا المقال.
إلا أننا سوف نحاول أن نشير إلى مجموعة من النقاط التي تتألّف منها العلاقة بالله من
خلال النصوص الإسلامية في القرآن الكريم والحديث. وإليكم هذه الأضمامة من عناصر العلاقة بالله تعالى:
1ـ الخوف والخشية من الله
يقول تعالى: (وأما من خافَ مقامَ ربه ونهى النفسَ عن الهوى، فإنَّ الجنة هي المأوى)(النازعات:40ـ41).
(فلا تخشوهم واخشوني…)(البقرة:15).
2ـ التضرع
(تدعونه تضرعاً وخفيةً…)(الأنعام:63).
(واذكر ربكَ في نفسك تضرعاً وخيفةً)(الأعراف:205).
3ـ الإنابة
(وأنيبوا إلى ربكم)(الزمر:54).
(خرَّ راكعاً وأنابَ…)(ص:24).
4ـ الإخبات: التواضع والخشوع
(إنَّ الذين امنُوا وعملوا الصلحتِ وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحبُ الجنةِ…)(هود:23).
(…وبشرِ المُخبِتينَ)(الحج:34).
5ـ الحبّ
(قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم و… أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي اللهُ بأمرهِ والله لا يهدي القومً الفسقينَ)(التوبة:24).(والذين أمنوا أشد حُبّاً للهِ…)(البقرة:165).
6ـ التقوى
(يأيها النبي اتقِ الله ولا تُطعِ الكفرينَ…)( الأحزاب:1).
7ـ الإستغفار
(…واستغفرُوا الله إن الله غفُورٌ رحيمٌ)(البقرة:199).
8ـ التوبة
(… فتُوبوا إلى بارئكم…)(البقرة:54).
(ويقومِ استغفروا ربكم ثُمّ توبوا إليه…)(هود:52).
9ـ الإعتذار والندم
"اللهم عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بُعدُ أملي، وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بجنايتها، ومطالي يا سيّدي…"(دعاء كُميل).
10ـ11ـ12ـ الإنكسار، الإستقالة، الإقرار والإذعان والإعتراف
"أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً نادماً، منكسراً مستقيلاً، مستغفراً منيباً، مقرّاً مذعناً معترفاً، لا أجد مفراً مما كان منّي، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري غير قبولك عذري… اللهم فاقبل عذري وارحم شدة ضرّي…"(دعاء كُميل).
"أنت الساتر عورتي والمؤمن روعتي والمُقيل عثرتي…"(دعاء الأسحار)
13ـ الذلّ والمسكنة والإستكانة بين يدي الله
"هذا مقام العائذ بك من النار، هذا مقام المستجير بك من النار، هذا مقام المستغيث بك من النار، هذا مقام الهارب إليك من النار، هذا مقام من يبوء لك بخطيئته، ويعترف بذنبه…"(دعاء الأسحار).
15ـ16ـ البكاء، الإستغاثة والتوسل إلى الله
"فبعزتك يا سيدي أُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنَ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرُخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك أين كنت يا ولي المؤمنين! يا غاية آمال العارفين! يا غياث المستغيثين!… أفتراك سبحانك… تسمع صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسل إليك بربوبيتك…"(دعاء كميل).
17ـ الفقر إلى الله
"يا إلهي وسيّدي ومولاي ومالك رقي، يا من بيده ناصيتي، يا عليماً بضري ومسكنتي، يا خبيراً بفقري وفاقتي…"، "أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته"، فإليك يا ربّ نصبت وجهي وإليك يا ربّ مددتُ يدي".
18ـ الإستجارة بالله واللواذ بالله
"أجرنا من النار يا مجير"(دعاء المجير).
"هذا مقام المستجير بك من النار".
"وأنت جار من لاذَ بك"(دعاء يستشير).
"وقد خضعتُ بالإنابة إليك، ودعوت بالإستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن الوذ، وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ؟"(مناجات التائبين).
19 ـ الفرار إلى الله
(ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبينٌ)(الذاريات:50).
20 ـ الإضرار إلى الله
(أمن يجيبُ المضطر إذا دعاهُ ويكشفُ السوءَ…)(النمل:62).
21 ـ الحياء من الله
"أنا يا ربّ الذي لم أستحيك في الخلأ، ولم أراقبك في الملأ، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيّده اجترى، أنا الذي عصيت جبار السماء…، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت، وسترت عليّ فما استحييت"(أبو حمزة).
22 ـ التملق إلى الله
"إلهي أتراك بعد الإيمان بك تعذّبني! أم بعد حبّي إياك تُبعدني! أم مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني! أم مع استجارتي بعفوك تسلمني! حاشا لوجهك الكريم أن تخيّبني… إلهي هل تسود وجوهاً خرت لعظمتك ساجدة، أو تخرس ألسُناً نطقت بالثناء على مجدك وجلالك، أو تطبع على قلوب انطوت على محبّتك، أو تصم أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك، أو تغل أكفاً رفعتها الآمال إليك رجاء رأفتك، إلهي لا تغلق علي موحديك أبواب رحمتك، ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك" (مناجاة الخائفين).
"يا الله! لا تحرق وجهي بالنار بعد سجودي وتعفيري بغير من عليك، بل لك الحمد والمن والفضل"(دعاء الأسحار).
23 ـ الالتماس والترجي
"إلهي من الذي نزل بك ملتمساً قراك فما قريته، ومن الذي أناخ ببابك مرتجياً نداك فما أوليته" (مناجات الراجين).
24 ـ تحسيس النفس بالتقصير
"وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء، وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال
والتضييع. إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إياك ثنائي ونشري" (مناجاة الشاكرين).
"يا من يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل مني اليسير، واعف عني الكثير" (دعاء الأسحار).
"أفبلساني هذا الكال أشكرك، أم بغاية جهدي في عملي أرضيك، وما قدر لساني يا ربّ في جنب شكر، وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك" (أبو حمزة).
هذه طائفة من العناصر التي تؤلف العلاقة بالله تعالى استخرجناها من نصوص القرآن والحديث والدعاء، وهذه بمجموعها تؤلف طيفاً زاهياً منسجماً ومتوازناً للعلاقة بالله تعالى.
25 ـ الذكر
(الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد:28).
(يا أيها الذين أمنوا لا تلهكم أمولكم ولا أولدكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرونَ) (المنافقون:9).
26 ـ الأنس بالله
"وهب لي الأنس بك وبأوليائك وبأهل طاعتك. أجعل سكون قلبي وأنس نفسي واستغنائي وكفايتي بك وبخيار خلقك" (الدعاء21 من الصحيفة الكاملة للإمام زين العابدين).
27 ـ الشوق إلى الله
"وامنن عليّ بشوقي إليك، والعمل لك ما تحب" (الدعاء:21 من الصحيفة الكاملة).
وفيما يلي نحاول أن نشرح بعض مفردات هذه العناصر:
العبوديّة
والعبودية لله هي الأساس في علاقة الإنسان بالله تعالى وبالكون والمجتمع. وهي التي تحدد مركز الإنسان في الكون والمجتمع. وقد أعطى الإسلام العبودية موقعاً مركزياً في حياة الإنسان وتفكيره ومواقفه.
فهي تنعكس انعكاساً مباشراً وواضحاً، وتتحكم في سلوك الإنسان وعلاقاته ومواقفه وتصوراته، كما تنعكس على مشاعره وعواطفه، وحالة "العجب" في الإنسان من الحالات التي تتأثّر بالعبودية سلباً وإيجاباً بصورة مباشرة.
فإذا استقرت علاقة الإنسان بالله على أساس العبودية وما تستتبع من الانكسار والتضرع والتذلل بين يدي الله فسوف لا يملكه العجب ولا يكبر لديه الأنا وتغلب عليه صفة العبودية حتى تكون الصفة البارزة في كلّ تحركاته وتصرفاته.
ولقد كانت صفة العبودية بارزة في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى في طريقة جلوسه وكلامه، وكان يكره أن يتميز عن الآخرين في مجلس أو حركة فعابت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة كانت مشهورة بسوء الأدب هذه الخصلة، وقالت له (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ شيء فيك حسن إلاّ إنك تجلس مجلس العبيد، فقال لها (صلى الله عليه وآله وسلم) بعفوية وبساطة "ومن أعبَد منّي؟".
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فيكون فيه التصاوير، فيقول: يا فلان! غيبيه عنّي، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا
وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن النظر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده…"(1).
ـــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة الخطبة رقم:160.
ويحضرني من الشعر في صفة بعض المقاتلين:
سمة العبيد من الخشوع عليهم
للهِ إن ضمتهم الأسحار
فإذا ترجلت الضحى شهدت لهم
بيض النواصي أنهم أحرار
وواضح أن للعبيد سمة متميزة واضحة في حركتهم وسكونهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم وكلامهم وسكونهم.
يحكى عن بعض العارفين الزهاد المشهورين أنه كان قبل أن يتوب من أهل الترف والبذخ، وكانت له ليالٍ حمراء عامرة بالشرب والطرب، فمرّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) على داره ذات يوم ولفت نظره ضجة الغناء والطرب والسكر، فسأل عن صاحب البيت، فأجابته أمة من خادمات البيت، فسألها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): هو حرّ أم عبد؟ فلم تفهم الخادمة مغزى كلام الإمام (عليه السلام) وقالت: كيف يكون عبداً وهو يملك المئات من العبيد والإماء.
فقال لها الإمام: أجل، لو كان عبداً لم يفعل هكذا، وذهب لشأنه فسمع الرجل الحوار الذي جرى بين الإمام والخادمة، وفهم مغزى كلام الإمام، فأسرع في طلب الإمام وخشي أن لا يدركه، فخرج حافياً حتى لحق بالإمام وتاب على يديه، فعرف بالحافي بعد ذلك، واشتهر أمره وذكره في العارفين والزاهدين.
والذي يقرأ سمات الشخصية الإسلامية في النصوص الإسلامية يجد أن صفة العبودية هي الصفة المحورية في الشخصية الإسلامية.
يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في صفة المتقين:
"عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونه، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة…، أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض".
ويقول: "لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم: فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وقصداً في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتحملاً في فاقة، وصبراً في شدّة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى وتحرجاً عن طمع…"(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) سفينة البحار486:1.
الذكر
والذكر هو استشعار علاقة العبودية وذلك باستحضار صفات الله وأسمائه تعالى الحسنى، فعندما يستحضر الإنسان صفات الله وأسماءه الحسنى يحدّد بشكل دقيق ـ في قلبه وعقله ـ موضعه الدقيق من الله تعالى وهو موقع العبودية.
وفي كل ذكر استحضار لصفة من صفات الله وأسمائه الحسنى، وفي كلا استحضار لصفات الله وأسمائه الحسنى وعي وتشخيص لموقع الإنسان من الله تعالى.
ولهذا السبب فإن في "الذكر" تكريساً لعلاقة العبودية بالله تعالى، وهذه العلاقة تحدّد الأنا وتضعه في موضعه الصحيح من العلاقة بالله تعالى.
فللذكر إذن دور تربوي مؤثّر في مكافحة العجب وفي مقابل ذلك "الغفلة" عن ذكر الله، فإنها من مصادر العجب، وبقدر ما يغفل الإنسان عن ذكر الله يصيبه العجب، ولا شيء يؤدي إلى طيش الأنا وحجبه عن الله وطغيانه وتمرّده على الله كالغفلة عن ذكر الله.
الشكر
الشكر من الوسائل المؤثّرة في كسر شوكة "الأنا"، وتكريس حالة العبودية وتعبيد الأنا لله تعالى. ذلك أن الشكر ينطوي على إحساس مزدوج بفقر الإنسان إلى الله تعالى وفضل الله عزّ
شأنه على الإنسان.
وهذا الإحساس المزدوج يتكوّن من خطّ صاعد من الإنسان إلى الله، وهو خطّ الفقر، وخط نازل من عند الله على عبده وهو خط الفضل والرحمة والرزق.
ويصوّر القرآن على لسان موسى بن عمران (عليه السلام) هذا الإحساس المزدوج أروع تصوير:
(رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ).
والخط النازل من عند الله في هذه الآية الكريمة هو "الخير" والصاعد من العبد إلى الله هو الفقر، ويقع الإنسان بين هذا الفقر الصاعد من العبد إلى الله والخير النازل من الله على عباده.
وهذا الفقر الصاعد والخير النازل حالة دائمة مستمرّة في حياة كلّ الناس، وإذا أمعن الإنسان النظر في هذا الكون عامّة، وفي حياة الأحياء خاصّة يجد هناك دائماً فقراً صاعداً من العبد إلى الله عزّ وجل، ورحمة هابطة من الله سبحانه وتعالى على العباد، الشاكرين منهم وغير الشاكرين. والشكر عملية توعية وتسليط الضوء والوعي على هذا الفقر الصاعد والخير النازل. يحسس الإنسان ويشعره بهذا الفقر الصاعد والخير النازل.
روي أن داود سأل الله تعالى عن قرينه، فأوحى الله سبحانه إليه أنه متّي أبو يونس، فجاء مع سليمان لزيارته، فرآه إذ أقبل وعلى رأسه وفر من حطب، فباعه واشترى طعامه، ثم طحنه وعجنه وخبزه، فأخذ لقمة وقال: "بسم الله"، فلما ازدردها قال: "الحمد لله"، ثم فعل ذلك بأخرى وأخرى، ثم شرب الماء فذكر اسم الله تعالى، فلما وضعه قال: "الحمد لله، يا ربّ من ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني، قد صحّحت بصري وسمعي وبدني، وقوّيتني حتى ذهبت إلى شجر لم أغرسه، ولم أهتم لحفظه، جعلته لي رزقاً، وسبقت إلى من اشتراه مني، فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسخرت لي النار فأنضجته، وجعلتني آكله بشهوة أقوى بها على طاعتك، فلك الحمد"، قال: ثم بكى.
قال داود، يا بني! قم فانصرف بنا، فإنّي لم أر عبداً قطّ أشكر لله من هذا…(1).
ولهذا الوعي والإحساس دور كبير ومؤثّر في كسر شوكة "الأنا" وتعبيد الأنا لله تعالى وتكريس حالة عبودية الأنا لله تعالى.
ــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة الخطبة رقم:151.
الشكر والسكر
وبعكس ذلك، عندما ينتفي هذا الوعي عند الإنسان يكبر الأنا ويبرز ويحتل مساحة واسعة من حياته وشعوره ونفسه، وتختفي حالة العبودية. وهي حالة "السكر" في مقابل "الشكر". فإن الشكر هو الإحساس الواعي بفقر الإنسان إلى الله وحاجته إلى الله تبارك وتعالى.
أما "السكر" فهو حالة معاكسة من طغيان الأنا وغناه عن الله تعالى، وبروز الأنا والبطر والرئاء في حياة الإنسان.
و"الشكر" و"السكر" ينطلقان من رؤيتين مختلفتين تمام الاختلاف. فالشكر ينشأ من الإحساس بالفقر إلى الله، والسكر ينشأ من الإحساس الكاذب بالاستغناء عن الله.
والشكر حالة نابعة من التعلق والارتباط بالله والسكر حالة ناشئة من الانقطاع والانفصال عن الله.
ومن عجب أن "الشكر" و"السكر" كلاهما ينشآن من النعمة. فإن النعمة إذا حلّت في النفوس الواعية والمؤمنة تمخض عنها الشكر. وإذا حلت في النفوس الجاهلة والغافلة تمخض عنها السكر:
(والبلد الطيبُ يخرجُ نباته بإذنِ ربهِ والذي خبث لا يخرجُ إلاّ نكداً).
وأول ما نجد التنبه إلى علاقة السكر بالنعمة في النصوص الإسلامية في كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يخاطب المسلمين العرب بعد أن فتح الله سبحانه وتعالى عليهم البلاد، وأغدق عليهم النعمة، وانتعشت حياتهم الاقتصادية، فيقول (عليه السلام):
"ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة…" (1).
ويقول (عليه السلام) أيضاً:
"ذاك حيث تسكرون من غير شراب من النعمة والنعيم…" (2).
الشكر والدعاء
والشكر مفتاح الدعاء، ومن دون الشكر لا يتيسّر للإنسان أن يدعو الله تعالى كما ينبغي الدعاء. فإن حقيقة الدعاء هو الشعور بفقر الإنسان إلى فضل الله تعالى، وهذا الوعي لحاجة
ـــــــــــــ
(1) نهج البلاغة الخطبة رقم:187.
(2) دعاء الافتتاح.
الإنسان وفقره إلى فضل الله تعالى ورحمته هو أساس الطلب والسؤال من الله تعالى في الدعاء.
فالدعاء إذن بشكله الصحيح والواعي يتطلب إحساساً واعياً وعميقاً بالفقر والحاجة إلى فضل الله تعالى ورحمته.
والشكر يمكن الإنسان من وعي هذين الأمرين معاً: وعي الفقر الصاعد ووعي الرحمة النازلة.
ولذلك نجد أن الأدعية تبتدئ غالباً بالحمد والشكر والتذكير بنعم الله تعالى وفضله ورحمته على عباده.