النقطة الرابعة ما هي مَغْزى الربط بين الخالق والمخلوق؟
  • عنوان المقال: النقطة الرابعة ما هي مَغْزى الربط بين الخالق والمخلوق؟
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 14:49:45 3-10-1403

وهنا ننقل ما اوردناه في مباحث الاصول الجزء الاوّل من القسم الاوّل ضمن بحث (دلالة الامر على الوجوب) في ذيل بحث ( الامر بين الامرين ) تحت الخط. وهو ما يلي:
 تعارف القول بانَّ الماهيّة من حيث هي ليست الا هي، وانّها في مرتبة ذاتها ليست وجودا ولا عدما، وان كان لابدَّ ان يحمل عليها امّا الوجود وامّا العدم، فهي امّا موجودة وامّا معدومة.
 ولكن لا يخفى انَّ هذا النوع من التصوُّر يشتمل على شائبة اصالة الماهيّة وعروض الوجود على الماهيّة شاء صاحبه ام ابى، ويفترض انَّ للماهيّة ثبوتا في عالم التقرُّر، وتتلبَّس امَّا بثوب الوجود او بثوب العدم، في حين انَّ من الواضح: انّه لا يُتصوَّر قبل الوجود شي‏ء يلبس ثوب الوجود.
 وبهذا ينهار البيان الفلسفيُّ القائل: انَّ العالم مركَّب من وجود وماهيّة، وانَّ الماهيّة ان كان ينبع من ذاتها الوجود كانت واجبة الوجود، والا كانت ممكنة الوجود، او ممتنعة الوجود، وبما انَّ العالم لا ينبع من ذاته الوجود؛ لأنّه متغير والمتغير حادث، اذن، فلابدَّ له من علّة، ولابدَّ من انتهاء العلَّة الى واجب الوجود.
 والبيان الصحيح الذي يحلُّ محلَّ هذا البيان هو: انّه لا شي‏ء في العالَم الا الوجود، وامّا الماهيّة فليست الا عبارة عن حَدِّ الوجود وانتهاء الوجود، ايْ: انَّ الماهيّة عدم صِرف، والذي يكون بذاته هو حقيقة الوجود المستقل يكون واجب الوجود، ولا يتَصوَّر العقل له حدا، وما لا يكون كذلك يكون عدما صِرفا، الا ان يوجد ويخلَق، وبما انَّ كلَّ ما في هذا العالم محدود وكذلك هو متغيّر فيستحيل ان يكون هو واجب الوجود، فلابدَّ من انتهائه الى واجب الوجود.
 وبكلمة اخرى : انَّنا بدلاً عن ان نُقسِّم الشي‏ء الى ما يكون الوجود واجبا لماهيّته، او ممتنعا عليها، او ممكنا لها، نُقسِّمه الى الوجود المستقل الواجب، او الوجود التعلّقي، او العدم.
 وبما ذكرناه انهار - ايضا - ما عن المحقّق الاصفهاني رحمه الله  : من انَّ كلَّ وجود محدود له حدَّان: حَدّ وجوديّ، وهو: مقدار وجدانه المصحوب بالفقدان، وحَدّ عدميّ، وهو : اللازم لحدِّه الوجوديِّ، وان كان من ذوات الماهيّة فله حَدٌّ ثالث، وهو: الحَدُّ الماهويُّ.
 وعلى ايّة حال، فاذا صحَّ انَّ الوجود اللَّامحدود هو واجب الوجود لاغيره، ثبت بذلك بعد ثبوت اصل الواجب تعالى:
 اوّلاً - استحالة تعدُّد واجب الوجود؛ اذ لو تعدَّد لشكّل كلُّ واحد منهما حَدّا للآخر؛ لأنَّ احدهما يجب ان ينتهي منذ ان يبدا الاخر.
 وثانيا - استحالة ثبوت وجود اخر ولو ممكنا ان كان بحيث يحدُّ وجود ذلك الواجب؛ لأنّه لو صار الواجب محدودا لكان ذلك خلف وجوبه.
 ولتطبيق هذه النتيجة الثانية على واقع الحال من وجود اله خالق وعالم مخلوق تصويرات ثلاثة لا رابع لها بعد التسليم بوجود العالَم حقيقةً:
 التصوير الاوّل - افتراض انَّ واجب الوجود او الوجود المطلق لا يحدُّه الا واجب مثلُه او وجود مطلق مثلُه، وامّا الوجودات المخلوقة فليست حَدّا لوجود الواجب؛ ولهذا اجتمع بالفعل وجود واجب الوجود من ناحية ووجود عالم مخلوق له من ناحية اخرى.
 الا انَّ هذا التصوير ما لم يرجع الى التصوير الثاني يبدو بظاهره باطلاً؛ لما قد يقال: من انَّ الوجود المطلق ان كان مطلقا حَقّا لم يبقَ مجالا لأيِّ وجود اخر، وايُّ وجود اخر يُفترض في مقابل هذا الوجود يعني ذلك: انتهاء ذاك الوجود المطلق من حين ابتداء هذا الوجود. ومجرد افتراض رابطة التعلُّق بين الوجودين على شكل كون الوجود المطلق علَّة او خالقا ، والوجود الاخر المحدود معلولاً او مخلوقا، لا يحلُّ مشكلة استحالة وجود اخر الى صف الوجود المطلق.
 التصوير الثاني - افتراض انَّ اطلاق الوجود يعني اطلاق الوجود المستقل، ولاتعارضه الوجودات التعلُّقيّة، فانّنا لا نفترض وجودات مستقلَّة مُتَّصفة فيما بينها بصفة العلّيّة والمعلوليّة كي تحدَّ تلك الوجودات المستقلَّة المعلولة وجودَ العلَّة.
 وبكلمة اخرى: انَّنا لا نفترض انَّ نسبة الواجب - تعالى - الى مخلوقاته كنسبة العلل والمعلولات المادّيّة التي الِفْناها، والتي يُفترَض فيها وجودان مستقلان بينهما رابطة التعلّق او نسبة العليَّة والمعلوليّة، بل
نقول: انَّ وجودات المخلوقات هي كلُّها وجودات تعلّقيَّة، في حين انَّ وجود اللَّه - تعالى - هو الوجود المستقل المطلق، فليس هذا التعلُّق خيطا رابطا بين شيئين مستقلَّين، بل المخلوق هو عين التعلُّق والارتباط.
وهذا هو الفهم السائد بين الفلاسفة الاسلاميين. وعلى هذا الاساس قالوا: انَّ علم اللَّه - سبحانه - بمخلوقاته علم حضوريٌّ لا حصوليٌّ.
 التصوير الثالث - ما نُسِبَ الى جمع من العرفاء: من انَّ ايَّ وجود يُفتَرض غير وجود اللَّه - سبحانه وتعالى - يكون ذلك حَدّا لوجوده تعالى، سواءٌ فرضناه وجودا استقلاليّا او فرضناه وجودا تعلُّقيّا، فهو ما دام شريكا مع اللَّه في الوجود ولو بمرتبة افترضناها نازلة فقد شكَّل هذا الوجود حَدّا لوجوده سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولا فرق في لزوم التحديد بين ان يُفترَض وجودٌ في مقابل وجود اللَّه صغيرٌ كجناح بعوضة، او ذرَّة لا تُرى بالعين، او هو اصغر من ذلك، او يفترض وجود من اعظم الخلائق واكبرها، وكذلك لا فرق بين ان يُفتَرض وجود من اعلى مراتب الوجود شدّةً وقوّةً وكثرةً، او من ادناها مرتبةً وضعفا وقلّةً.
 وعليه، فالواقع: انَّ الممكنات او الماهيّات في الحقيقة هي: شبكات لذلك الوجود المستقل المطلق، وهو وجود اللَّه تعالى، ويُرَى من خلالها ذاك الوجود.
 اذن، فصاحب هذا الراي لا يقول: بانَّ العالم وهم وخيال، او اعتبار محض لاوجود له، او انَّ اطلاق عنوان الموجود فيه يكون على اساس مجرد نسبته الى وجود اللَّه، من قبيل: التامر، واللابن، نسبةً الى التمر واللبن. ولا يَرى انَّ وجود اللَّه حلَّ في الوجودات الممكنة، او اتَّحد معها، او ما الى ذلك من عناوين تقتضي نوعا من الاثنينيّة اوّلاً، ثُمَّ الحلول او الاتحاد، بل يرى صريحا انَّ العالم - بكلِّ ما يزخر به ظاهرا من الممكنات - شبكة يُرى بها وجود اللَّه الذي هو الوجود الحقيقيّ، والمستقل، والمطلق والبسيط، وغير المشكِّك، وان كان المرئيُّ كانَّه يتقدَّر بتقديرات اعتبارية باختلاف الشبكات التي يرى بها الرائي.
 ويعتقد - عادةً - اصحاب هذا المسلك: انَّ هذا سرٌّ لا يصحُّ افشاؤه امام عامّة الناس؛ لأنّهم لا يدركونه، ولا يتحمّلونه. وعلى هذا الاساس قال القائل بالفارسيّة:
 گفت ان يار كز و گشت سردار بلند
جرمش اين بود كه اسرار هويدا مى‏كرد
 وكانَّ كلَّاً من اصحاب هذين التصويرين الثاني والثالث ينزِّل على تصوّره ما تقوله الايات القرانية، من قبيل قوله تعالى:
  (1 - وهُوَ الَّذي في السَّماءِ الهٌ وَفِي الارضِ اله... ).
  (2 - هُوَ الاوّلُ والاخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وَهُوَ بكُلِّ شي‏ء عَليمٌ ).
  (3 - وَهُوَ مَعَكُمْ ايْنَما كُنتُم... ).
  (4 - مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ الا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ الا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاادْنى مِن ذَلِكَ وَلا اكْثَرَ الا هُوَ مَعَهُمْ ايْنَما كَانُوا... ).
  (5 - وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ يَحولُ بَيْنَ المرءِ وَقَلْبِهِ... ).
  (6 - وَنَحْنُ اقْرَبُ اليْهِ مِنْ حَبْلِ الوَريدِ ).
 وكذلك بعض الكلمات المنقولة عن امامنا امير المؤمنين عليه السلام  من قبيل قوله‏عليه السلام :
1 ـ (مع كلِّ شي‏ء  لا بمقارنة وغير كلِّ شي‏ء لا بمزايلة).
2 ـ (هو في الاشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلِّ شي‏ء فلا يقال: شي‏ءٌ فوقه، وامام كلِّ شي‏ء، فلا يقال: له امام، داخل في الاشياء لاكشي‏ءٍ في شي‏ءٍ، وخارج منها لا كشي‏ءٍ من شي‏ءٍ خارج...).
3 ـ (ليس في الاشياء بوالج ولا عنها بخارج...).
 اقول : لابدَّ من توجيه سؤال الى صاحب التصوير الثالث، وهو: انّه لئن كانت الممكنات عبارة عن الهيئات التي‏هي شبكات مصوّرة على وجود اللَّه تعالى، وتلك الشبكات هي اعدام بحت واعتباريات صرف،
اذن، فمن المخاطب بالتكاليف الشرعية، هل هو ما يُرى من هذه الشبكات من وجود اللَّه، او نفس الشبكات التي هي اعدام، او المجموع المركب منهما تركيبا اعتباريا، ومن الذي يثاب، ومن الذي يعاقب، وما هو الهدف من بعث الرسل وانزال الكتب؟! ثُمَّ ما الذي خلقه اللَّه تعالى، هل هو المرئي بالشبكة، وهو اللَّه تعالى، او نفس الشبكة الذي هو عدم محض، او انَّ المقصود بالخلق هو مجرد الاعتبار الذي لا يكون وحده الا لعبا، وهو يقول: (وَمَا خَلَقْنا السَّماءَ والارْضَ وَمَا بَيْنَهُما لَاعِبينَ).
 امّا حديث كون الوجود التعلُّقيِّ حدّا للوجود المطلق  الالهيِّ، فكلام غريب؛ لأنَّ الوجود التعلُّقيَّ انّما يُعتَبر حدا لذاك الوجود لو كان يفسح عدمُه مجالا لامتداد ذاك الوجود المطلق، فيقال: انَّ هذا الوجود يعني حدّا
لذاك؛ اذ لا يبدا هذا الا من حين ينتهي ذاك، ولكنَّ الامر ليس كذلك؛ لأنّ عدم الوجود التعلُّقيِّ لو فسح مجالا للامتداد لكان الامتداد وجودا تعلُّقيّا، وتعالى اللَّه عن ان يكون شي‏ء من وجوده وجودا تعلقيا سواءٌ وُجِدَ وجود تعلُّقيٌّ اخر او لم يوجد، فايُّ تاثير في حساب البرهان الذي اقتضى الاطلاق والصرافة في وجود اللَّه لوجود تعلُّقيٍّ مخلوق للَّه تعالى؟!. والبرهان انّما اقتضى الوجود المستقل لواجب الوجود لا شيئا اخر، بل البرهان نافٍ للوجود التعلُّقيِّ عنه، فالذي ينافي البرهان انّما هو فرض وجود مستقل اخر، فهو الذي ينفي صرافة الوجود المستقل للَّه تعالى.
 نعم، لا شكَّ انَّ الايات المشار اليها، والاحاديث التي نقلناها عن عليٍّ عليه السلام وما اشبهها تنفي الفهم الساذج لبعض عوام الناس، الذي يعني: كون نسبة اللَّه الى العالم كنسبة العلل المادية الى معلولاتها المادية التي تنفصل عن عللها او كبنّاء بنى بيتا ثُمَّ انفصل عنه؛ ولكن لا ظهور لها في التصوير الثالث في مقابل التصوير الثاني، ولو فُرِضَ لها ظهور اوّليّ في ذلك لكان ظهورا منعدما بحكم العقل. انتهى ما اردنا نقله عن كتابنا في الاصول.
 اقول : وعلى هذا التصوير لوجود المخلوقين - وهو الوجود التعلُّقيُّ الذي اشرنا اليه في التصوير الثاني- يترتَّب تصوير الامر بين الامرين في افعال العباد، فهي في عين انتسابها الى العباد حقيقة تكون مسبَّبة
للَّه تعالى؛ لأنّ اضافة المولى -سبحانه الى مخلوقيه اضافة اشراقيّة، فمخلوقوه وافعالهم مخلوقة للَّه برغم انّها صادرة منهم وباختيارهم من دون ان يكونوا محالا لتلك الافعال، وتكون تلك الافعال منتسبة الى اللَّه فحسب فهي افعالهم مختارين فيها، ولكن في نفس الوقت يصح قوله تعالى: ( وَمَا تَشَاؤون الا ان يَشاءَ اللَّه... ).