التدبر في القرآن
  • عنوان المقال: التدبر في القرآن
  • الکاتب: الدكتور عبد الباقي قرنة الجزائري
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 15:38:18 3-10-1403

إنّ من جملة الأمور المأمورٌ بها من قِبلِ المولى سبحانـه وتعالى، هي تدبّرَ القرآن الكريم؛ لما فيه فوائدُ عظيمةٌ، وأسرارٌ جليلةٌ، ولأنّه هو باعثٌ على التّأمّلِ والتّفكّرِ والانفتاح على عوالم الأنفس والآفاق، فقد رُويَ عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله:(تفكّر ساعة خير من عبادة سنة)(1).
والأدلّة في ذلك متوفّرة متظافرة؛ قال النّوويّ في كتابه (التّبيان) في فصل عقده للتّدبّر: (والدّلائل عليه [أي التّدبّر] أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر﴿أفلا يتدبّرون القرآن﴾، وقال تعالى ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾. والأحاديث فيه كثيرة وأقاويل السّلف فيه مشهورة) (2).
  نعم، قال الله تعالى بخصوص سهولة التّدبّر في كتابه الكريم ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، فالقرآن سهلٌ لمن أراد ممارسة التفكّر والتذكّر والتدبّر، وهذا بشهادة من أنزله.
وليس التّدبّر من أقسام التّفسير بالمعنى العلميّ الدّقيق، لأنّه لا يعدو عمليّة تجري بين العبد وضميره، فهو عمليّة وجدانيّة يسمو فيها الفكر بحثاً عن الأمور المتعلّقة بمصير الإنسان؛ قال القرطبيّ في تفسيره: (قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً﴾ حثّ على تأمّل مواعظ القرآن وبيّن أنّه لا عذر في ترك التدبّر، فإنّه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدّعة، أي متشقّقة من خشية الله والخاشع الذّليل. والمتصدّع المتشقّق. وقيل﴿خاشعا﴾ لله بما كلّفه من طاعته. ﴿متصدّعا﴾ من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفّار)(3).
وقال أيضاً: (ثمّ عاب المنافقين بالإعراض عن التّدبّر في القرآن والتّفكّر فيه وفي معانيه. تدبّرت الشّيء فكّرت في عاقبته. وفي الحديث (لا تدابروا) أي لا يولّي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتّدبير أن يدبّر الإنسان أمره كأنّه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلّت هذه الآية وقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾على وجوب التّدبّر في القرآن ليعرف معناه. فكان في هذا ردٌّ على فساد قوْل من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلاّ ما ثبت عن النبيّ (ص) ، ومنع أن يتأوّل على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الأمر بالنّظر والاستدلال وإبطال التّقليد وفيه دليل على إثبات القياس) (4) .
قلتُ: وعلى هذا أكثر العلماء، وفي مسألة الدّلالة على القياس خلاف(5). وفي الحقيقة يكاد أمر التّدبّر يكون بديهيّاً، فإنّه لا يُعقل أن يذمّ الله تعالى قوما لتركهم شيئا ثمّ يحول بينهم وبينه بالحظر، لما في ذلك من التّغرير، تعالى الله عمّا يصف الجاهلون.
مواجهة التدبر لأصول اعتقادية
إذا واجهت عمليّة التّدبّر مبادئ وأصولاً اعتقاديّة متضاربةً لا تلبث أن تفقد وضوح الرّؤية وسهولة الفهم، وتتحوّل إلى صراع داخليّ عنيف قد ينعكس على سلوك صاحبه، ويكون سببا في ضياعه بدل أن يكون سببا في هدايته وثَباته.
وعليه يغدو التّدبّر نافعاً إذا لم تسبقه أحكام وآراء ونظريّات مؤثّرة، توجّهه وتتحكّم في نتائجه؛ أمّا في ظلّ وجودها فلا يكون التّدبّر هادفا متوازنا، ولا تكون النّتيجة سوى بروز كَوَامِن آثار تلك النظريّات وإفرازاتها.
ويبدو لي ـ من منظور تربويّ ـ أنّ تجنّب ذلك التّأثير الكامن يستلزم عمليّة تربويّة في مرحلة مناسبة من العمر، كيما يتحقّق الاستقلال الفكريّ، وهو ما يضمن التدبّر الصّحيح في ظلّ الفهم الذي يتبنّاه المتدبّر ويراه صحيحا؛ فإنّ كثيرا من النّاس يعتقدون أنّهم أحرار فكريّا وليسوا كذلك، لأنّهم لا يستطيعون الدّفاع عن متبنّياتهم إلاّ على جهة التّقليد؛ ومعناه أنّ تقريراتهم وتبريراتهم لا تعدو محفوظات توضع في قوالب وخانات معيّنة، لتملأ فراغا فكريّا يرفض التّجديد..
وطالما حدّثنا التّاريخُ عن أقوامٍ عبدُوا الله تعالى منْ دون تفكّر فضلّوا وأضلُّوا، كما حدّثنا عن أقوامٍ استمعوا القول واتّبعوا أحسنه فنالوا خير الدّنيا وفوز الآخرةِ.
وقد ضمن الله تعالى حدّا أدنى من القرآن قابلاً للتّدبّر ِوالاستفادة من طرف كلّ من يفهم اللّغة العربيّة التي نزل بِها، ولا يبعد أن يكون ذلك متيسّرا في مترجمه أيضاً إذا جرت الترجمة بنَفَس أمين. د
وقبل الدّخول في ما وضع له الكتّاب لا بأس بالتّذكير أنّ مباني المفسّرين الاعتقاديّة وانتماءاتهم المذهبيّة كانت حاضرة ناطقة في تعابيرهم، جليّة التّأثير لا تخفى على من أمعن النّظر وأعمل الفكر.
ولا شكّ أنّ الموضوعيّة والانتماء المذهبيّ لا يجتمعان إلاّ إذا كان المذهب مبنيّا علي الحقّ ماشياً مع القرآن دائراً معه حيث دار، وكان الباحث باذلاً وسعه في ملازمة الحقّ ملازمة الظلّ لشخصه، غير أنّه من الصّعب الفصل بين ثقافة المفسّر وبين رؤيته التّفسيريّة؛ إذ لا يمكن أن يكون هو هو وغيره في نفس الوقت، وهذا أمر مشهود بالوجدان، لكن مع ذلك لا يحول شيء دون توخّي الموضوعية والإنصاف قدر المستطاع، بدليل قوله تعالى: ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسه بَصِيرَةٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، فلو كان العدل ممتنعا لما كلّف به سبحانه وتعالى، لقبح التّكليف بغير المقْدور ونفور الفطْرة منه. كما أنّ في قوله: ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ إشارة إلى القوّة المعنويّة التي أودعها الله تعالى في ضمير الإنسان، فإنّه يصعب عليه مخادعة نفسه ومغالطتها دون الانسلاخ من الحقّ والانخراط في الباطل.
والذي تأكّد لديّ أثناء البحث، هو أنّ معتقَد الإنسان يوجّه تفكيره وفهمه بدرجة كبيرة، وقد يساعد على ذلك كثرة اللّجوء إلى التّأويل، وما يشاع في أيّامنا من تعدّد القراءات والرُّؤى؛ وأضرب ههنا مثالا لذلك من واقع المدارس الفكريّة المتقابلة: فالشّيعيّ ـ مثلا ـ لأنّه معتقد بعصمة أهل البيت(عليهم السلام)يفكّر في ضوء العصمة ويهتدي بمعالمها، فيستفيد منها أثناء البحث والتفكّر، لكنّه إذا طولب بإثبات العصمة يتحوّل إلى عقلانيّ محض، والعقلانيّ هنا بمعنى من يستعمل المسلّمات العقليّة بطريقة صحيحة لإثبات المطلوب.
فإذا ثبتت العصمة بالدّليل العقليّ جاءت الأدلّة النّقليّة تؤيّدها وتثبّت قلب المعتقد بها، فالاعتقاد بعصمة الأئمّة ههنا وإن كان له الأثر البالغ في توجيه فكر من يتبنّاه، لم يمنعه من افتراض العكس وإثبات المطلوب.
هذا النّوع من الاستدلال لا يُعمل به لدى جميع مدارس أهل القبلة، وإن كان يفترض فيهم ذلك.
فالذين يؤمنون بعدالة جميع الصّحابة لا يستطيعون إثبات ذلك عقلاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأمّا من جهة النّقل فالحديث ذو شجون، وحتى لا يكون الكلام رجماً بالغيب هذا مثال لما جاء بخصوص ذلك في كتب التّفسير: قال الرّازيّ في التفسير الكبير: وقوله تعالى ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أي وعد ليغيظ بهم الكفّار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه، وقوله تعالى﴿مِنْهُم مغِفرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ لبيان الجنس لا للتّبعيض، ويُحتمل أن يُقال هو للتّبعيض ومعناه ليغيظ الكفّار والذين آمنوا من الكفّار لهم الأجر العظيم، والعظيم والمغفرة قد تقدّم مرارا والله تعالى أعلم)(6).
وقال الزمخشريّ في تفسيره (الكشّاف): (قوله ليغيظ بِهِم الكفّار تعليل لماذا قلت لما دلّ عليه تشبيههم بالزّرع من نمائهم وترقّيهم في الزّيادة والقوّة، ويجوز أن يعلّل به وعد الله الذين آمنواْ لأنّ الكفّار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزّهم به في الدّنيا غاظهم ذلك ومعنى منهم البيان كقوله تعالى فاجتنبواْ الرّجس من الأوثان)(7) .
وقال أبو السعود:(في تفسير قوله تعالى ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض...﴾ والمراد بالذين آمنوا كلّ من اتّصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أيّ طائفة كان وفي أيّ وقت كان، لا من آمن من طائفة المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب، ضرورة عموم الوعد الكريم للكلّ كافّة[!])(8).
فالخطاب في منكم لعامّة الكفرة لا للمنافقين خاصّة و(من) تبعيضيّة وعملوا الصّالحات عطف على آمنوا داخل معه في حيّز الصّلة وبه يتمّ تفسير الطّاعة التي أمر بها ورتّب عليها ما نظم في سلك الوعد الكريم كما أشير إليه. وتوسيط الظّرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، وللإيذان بكونه أوّل ما يطلب منهم وأهمّ ما يجب عليهم؛ وأمّا تأخيره عنهما في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما فلأنّ (مِنْ) هناك بيانيّة(9)، والضّمير الذين معه(ص) من خُلَّص المؤمنين، ولا ريب في أنّهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصّالحة مثابرون عليهما[!]، فلا بدّ من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها. هذا ومن جعل الخطاب للنّبيّ(ص) وللأمّة عموما على أن من تبعيضية أو له(ص) ولمن معه من المؤمنين خصوصا على أنّها بيانيّة فقد نأى عمّا يقتضيه سياق النّظم الكريم وسياقه بمنازل،وأبعد عما يليق بشأنه(ص) بمراحل)(10). وفي تفسير الجلالين:﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم﴾ الصّحابة ومن لبيان الجنس لا للتّبعيض، لأنّهم كلّهم بالصّفة المذكورة(11). مغفرةً وأجراً عظيماً الجنّة وهما لمَن بعدهم أيضا)(12) .
لكن السّمعانيّ يقول:(وقوله ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مّغفرة وأجرا عظيما﴾ اختلفوا في قوله منهم فقال قوم من هاهنا للتّجنيس لا للتّبعيض، قال الزّجاج هو تخليص للجنس وليس المراد بعضهم لأنّهم كلّهم مؤمنون ولهم المغفرة والأجر العظيم. وعن ابن عروة قال كنّا عند مالك بن أنس فذكروا رجلا يتبغّض أصحاب رسول الله فقال مالك: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية وهو قوله ليغيظ بهم الكفّار. والقول الثّاني أنّ معنى قوله منهم أي من ثبت منهم على الإيمان والعمل الصّالح فله المغفرة والأجر العظيم، أورده النّحّاس في تفسيره. وقال الطّبريّ: وقوله وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما يقول تعالى ذكره وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات يقول وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم، وقوله منهم يعني من الشّطء الذي أخرجه الزرع وهم الدّاخلون في الإسلام بعد الزّرع الذي وصف ربّنا تبارك وتعالى صفته، والهاء والميم في قوله منهم عائدة على معنى الشّطء لا على لفظه، ولذلك جمع فقيل منهم ولم يقل منه، وإنّما جمع الشّطء لأنّه أريد به من يدخل في دين محمّد إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله والذين معه أشدّاء على الْكفّارِ رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا "(13) .
ولأنّ عدالة جميع الصّحابة معتقد متحكّم في تفكير أصحابه فقد انجرّ كثير من النّحاة أيضا وراء (البيانيّة) بدل (التّبعيضيّة)، فهذا ابن هشام الذي يقول عنه ابن خلدون (أنحى من سيبويه) يورد كلام ابن الأنباريّ فيقول:   وفي كتاب المصاحف لابن الأنباريّ أنّ بعض الزّنادقة تمسّك بقوله تعالى﴿وَعَدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصّالِحَات منهم مَّغفرة﴾ في الطّعن على بعض الصّحابة، والحقّ أنّ من فيها للتّبيين ولا للتّبعيض، أي الذين آمنوا هم هؤلاء، ومثله الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتّقوا أجر عظيم، وكلّهم محسن ومُتّق[!]إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم فالمقول فيهم ذلك كلّهم كفّار"(14).
غير أنّ ابن الأنباريّ وابن هشام يقفان مكتوفي الأيدي أمام الحديث الذي رواه البخاريّ: (حدّثنا أحمد بن صالح حدّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيّب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النّبيّ(ص) أنّ رسول الله(ص) قال: يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول يا ربّ أصحابي فيقول إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارْتدّوا على أدبارهم القهقرى. وقال شعيب عن الزهريّ كان أبو هريرة يحدّث عن النّبيّ(ص) فيجلون، وقال عقيل فيحلؤون..) (15).
فهذا الحديث صريح في أنّهم ارتدّوا على أدبارهم، وعبارة (ارتدّوا) هي التي استعملها النّبيّ (ص)، وهي خطيرة في المقام.
وفي الحديث قول النّبيّ(ص) (رجال من أصحابي)، فهُمْ من أصحابه، وعبارة (الأصحاب) لا تُطلق على كلّ أتباع النّبيّ (ص) ، وإنّما تُطلق على من كانوا معه في حياته. فإذا كان المتمسّك بالآية للطّعن في بعض الصّحابة زنديقاً، فكيف يصنع ابن الأنباريّ مع رسول الله(ص) وهو يذكر أنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى؟!
وفي صحيح البخاري أيضاً:"...ثمّ إذا زُمرةٌ حتّى إذا عرفتُهم خرجَ رَجلٌ من بيني وبينهم فقال هلمّ. قلتُ أين؟ قال إلى النّار والله. قلت ما شأنهم؟ قال إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى؛ فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم " (16).
قال ابن حجر في فتح الباري: (وفي حديث أبي سعيد في باب صفة النّار أيضا فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي. وزاد في رواية عطاء بن يسار فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هَمَل النّعم. ولأحمد والطّبرانيّ من حديث أبي بكرة رفعه ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني وسنده حسن. وللطّبرانيّ من حديث أبي الدّرداء نحوه وزاد فقلت يا رسول الله اُدعُ الله أن لا يجعلني منهم قال لستَ منهم، وسنده حسن)(17).
فالقول بعدالة جميع الصّحابة ونجاتهم بعد الاطّلاع على هذه الأحاديث وأمثالها لا يكون إلا من عَمَى البصيرة، أو العناد الذي لا علاج له.
ـــــــــــ
1  - الحديث ورد بألفاظ متعدّدة قال الرازي في التّفسير الكبير ج2 ص173قال عليه الصلاة والسلام تَفكّر ساعة خير من عبادة ستين سنة، ووفي التفسير الكبير أيضاً ج22 ص39 قال عليه السلام تفكر ساعة خير من عبادة سنة.وفي الدّرّ المنثور للسيوطي ج2 ص410: أخرج الديلمي من وجه آخر مرفوعا عن أنس تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.وفي تفسير القرطبيّ ج4 ص314: روي عنه عليه السلام أنّه قال: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة. وقال الآلوسيّ في روح المعاني ج12 ص11: وفي بعض الآثار تفكّر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة. وفي مرقاة المفاتيح ج1 ص342: كما ورد تفكّر ساعة خير من عبادة سنة أو ستّين سنة.
2  - التبيان في آداب حملة القرآن ، النووي ، ص 82.
3 - تفسير القرطبي، ج 18 ص44.
4 - نفس المصدر ، ج 5 ص 290.
5 - القياس (بالمعنى الذي يقصده القرطبيّ ومدرسته) باطل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، والقول في ذلك مبسوط في كتب الفقه والأصول.
6  ـ التفسير الكبير ـ الرازي ، ج28 ص94.
7 - الكشاف ـ الزّمخشريّ ، ج4 ص350.
8  ـ هذا وأمثاله ممّا يتعارض مع العدل الإلهيّ إن كان يريد بعموم الوعد ما يصحّح به عدالة جميع الصّحابة، فإنّه لابد من العمل الصّالح مع الإيمان؛ وقد ذكر القرآن الكريم ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا …﴾(النساء 137)فدلّ هذا على أنّ الإيمان قد يعقبه كفر، فلا بدّ من الإيمان والعمل الصالح والثّبات عليهما إلى أن يخرج المكلف من الدّنيا.وقد اعتمدت المرجئة على تعابير مشابهة في دعوى عقائدهم، ولا يبعد أن يكون لكعب الأحبار ومن على شاكلته يد في ذلك.
9  ـ للتّذكير قال ابن عقيل في شرح الألفيّة [تجئ " من " للتّبعيض، ولبيان الجنس، ولابتداء الغاية: في غير الزّمان كثيراً، وفي الزّمان قليلا، وزائدة. فمثالها للتّبعيض قولك: " أخذت من الدّراهم " ومنه قوله تعالى: (ومن النّاس من يقول آمنّا بالله). ومثالها لبيان الجنس قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان). ومثالها لابتداء الغاية في المكان قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى). ومثالها لابتداء الغاية في الزّمان قوله تعالى: (لمسجد أسّس على التّقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه..] شرح ابن عقيل ـ ج 2 ص 15.
10  - تفسير أبي السعود، ج6 ص190.
11  ـ هذا السيوطي على جلالة قدره يستدلّ بما لم يثبت لا عقلاً ولا نقلاً.
12  ـ تفسير الجلالين ، ج1 ص684.
13  ـ تفسير السمعاني، ج5 ص210.
14  - مغني اللبيب ابن هشام ، ج1 ص421.
15  - صحيح البخاري، ج5 ص2407 الحديث رقم 6214.
16  ـ صحيح البخاري ، ج 7 ص 209.
17  ـ فتح الباري ، ابن حجر، ج 11 ص 333.